الجمعة، 1 أبريل 2022

نعمة الحكمة

 

خاطرة الجمعة /337


الجمعة 1 إبريل 2022م

(نعمة الحكمة)

 

سأل أحد العلماء تلميذه: "منذُ متى صحبتني؟"، فقال التلميذ: "منذُ ثلاثٍ وثلاثين سنة"، فقال العالِم: "فما تعلمتَ منّي في هذه المدّة؟"، قال التلميذ: "ثمانيَ مسائل"، قال العالِم: "إنّا لله وإنّا إليه راجعون!! ذهب عمري معك ولم تتعلّم إلا ثماني مسائل فقط؟!"، قال التلميذ: "لم أتعلم غيرها ولا أحبّ أن اكذب عليك"، فقال العالِم: "هاتِ ما عندك لأسمع".

قال التلميذ:

الأولى: أني نظرتُ إلى الخَلْق فرأيتُ كلّ واحدٍ يتخذ صاحباً، فإذا ذهب إلى قبره فارقه صاحبُه، فصاحبتُ الحسناتِ فإذا دخلتُ القبر دخلتْ معي.

الثانية: أني نظرتُ في قول الله تعالى: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى . فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾ فأجهدتُ نفسي في دفع الهوى حتى استقرتْ على طاعة الله.

الثالثة: أني نظرتُ إلى الخَلْق فرأيتُ أنّ كلّ من معه شيءٌ له قيمةٌ حفظه حتى لا يضيع، ثم نظرتُ إلى قول الله تعالى: ﴿مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ﴾ فكلما وقع في يدي شيءٌ له قيمةٌ وجهته لله ليحفظه عنده.

الرابعة: أني نظرتُ إلى الخَلْق فرأيتُ كلاً يتباهى بماله أو حسبه أو نسبه ثم نظرتُ إلى قول الله تعالى: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ فعملتُ في التقوى حتى أكونَ عند الله كريماً.

الخامسة: أني نظرتُ إلى الخَلْق وهم يتحاسدون على نعيم الدنيا فنظرتُ إلى قول الله تعالى: ﴿نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ فعلمتُ أن القسمة من عند الله؛ فتركتُ الحسد عنّي ورضيتُ بما قسمه الله لي.

السادسة: أني نظرتُ إلى الخَلْق يعادي بعضهم بعضاً ويبغي بعضهم على بعضٍ ويقاتل بعضهم بعضاً، ونظرتُ إلى قول الله تعالى: ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا﴾ فتركتُ عداوة الخَلْق وتفرغتُ لعداوة الشيطان وحده.

السابعة: أني نظرتُ إلى الخَلْق فرأيتُ كل واحدٍ منهم يُكابد نفسه ويُذلّها في طلب الرزق، حتى أنّه قد يدخل فيما لا يحلّ له، فنظرتُ إلى قول الله تعالى: ﴿وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا﴾ فعلمتُ أنّي واحدٌ من هذه الدوابّ؛ فاشتغلتُ بما لله عليّ وتركتُ ما ليَ عنده.

الثامنة: أنّي نظرتُ إلى الخَلْق فرأيتُ كلّ مخلوقٍ منهم متوكّلاً على مخلوقٍ مثله؛ هذا على ماله وهذا على ضيعته وهذا على مركزه، ونظرتُ إلى قول الله تعالى: ﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ فتركتُ التوكّل على المخلوق واجتهدتُ في التوكّل على الله الخالق.

قال له الشيخ: "من الآن أنا تلميذك".

 

أحبتي في الله .. رُبَّ تلميذٍ تفوق على أستاذه؛ فكلام هذا التلميذ لا يصدر إلا من حكيمٍ، ربما هو أقل علماً من أستاذه، لكن من الواضح أنه ممن وهبهم الله (نعمة الحكمة).

وليس كل عالمٍ حكيماً؛ فعندما تجد عبقرياً هندوسياً في الهند يعبد البقر، وجراحاً مُلحداً لا يرى في خلق الله إتقاناً، وأستاذاً جامعياً ينُاقش الله في الميراث، وأديباً في اللغة العربية يعترض على فصاحة القرآن، ومفكراً يرى السُنة الشريفة رجعيةً، وفي المقابل تجد رجلاً بسيطاً يقوم وقت البرد القارس ليصلي الفجر، وامرأةً عجوزاً طاعنةً في السن لا تعرف القراءة ولا الكتابة تحرص على قيام الليل وصيام النوافل، وشيخاً عاجزاً ينهض على عُكازه متجهاً نحو المسجد لأداء صلواته، فلتعلم أن المسألة لم تتعلق يوماً بالعلم ولا بالعقول ولا بالشهادات، إنما تتعلق بالقلوب والبصيرة، إنها (نعمة الحكمة)؛ يقول جلَّ جلاله: ﴿فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى اَلْقُلُوب الْتِي فِي الصُّدُورْ﴾.

 

ليس هناك ارتباطٌ بين العلم والحكمة، فقد عاصرنا قادةً تميزوا بالحكمة ورجاحة العقل وحُسن التصرف ولم يكونوا متعلمين، بل لم يكن بعضهم يجيد القراءة والكتابة، كانوا حكماء بالفطرة. وعلى العكس نرى من العلماء من لا يتصفون بالحكمة، ومع ذلك فإنه لو اجتمع العلم مع الحكمة لكان في ذلك خيرٌ كثيرٌ.

كما أنه ليس هناك ارتباطٌ بين العمر والحكمة؛ فكم من صغيرٍ في العُمر كبيرٍ في البصيرة فيكون حكيماً، وإن كان من الملحوظ أن الإنسان كلما طال عمره كلما ازدادت حكمته، وربما يرجع ذلك إلى ما اكتسبه طوال حياته من خبرات.

ومع ذلك يظل أمر الحكمة -بصفةٍ عامةٍ- غير مرتبطٍ بعُمر الإنسان؛ فهذا شابٌ قد أنعم الله عليه بالحكمة في موقفٍ قد تغيب فيه الحكمة عمن هو أكبر منه سناً، إذ كان يطوف في السوق رجلٌ متكبرٌ، عليه من حُسن الهيئة والزهو ما لا يعلمه إلا الله، فمرت به امرأةٌ تبيع السمن، فقال لها: "ماذا تبيعين يا امرأة؟"، فقالت: "أبيع سمناً يا سيدي"، فقال لها : "أريني"، وعندما أرادت أن تُنزل دلو السمن من فوق رأسها انسكب منه بعض السمن على ثيابه، فغضب الرجل غضباً شديداً وقال لها: "لن أبرح الأرض حتى تُعطيني ثمن الثوب"، فظلت المرأة تستعطفه وتقول له: "خلِ عني يا سيدي؛ فأنا امرأةٌ مسكينةٌ"، فقال لها: "لن أبرح الأرض حتى تُعطيني ثمن الثوب"، فسألته: "وكم ثمن الثوب؟"، قال: "ألف درهم"، فقالت له: "أنا امرأةٌ فقيرةٌ؛ فمن أين لي بألف درهم؟!"، قال لها: "لا شأن لي"، فقالت له: "ارحمني ولا تفضحني". وبينما هو يتهددها ويتوعدها إذ أقبل عليهم عددٌ كبيرٌ من الناس من بينهم شابٌ سأل المرأة: "ما شأنك يا امرأة؟"، فقصت عليه الخبر؛ ما قاله الرجل وما قالته، فقال الفتى: "أنا أدفع ثمن الثوب"، وأخرج ألف درهمٍ سلمها للرجل المتكبر فعدها. وقبل أن يبرح المكان، قال له الشاب: "على رسلك أيها الرجل"، فرد عليه ذلك المتكبر وقال: "ماذا تريد؟"، فقال له: "هل أخذتَ ثمن الثوب؟"، قال: "نعم"، فقال له الشاب: "فأين الثوب؟"، قال: "ولم!؟"، قال: "قد أعطيناك ثمنه فأعطنا الثوب"، قال الرجل المتكبر: "وأسير عارياً!؟"، قال الشاب: "لا شأن لي"، قال الرجل المتكبر: "وإن لم أُعطكَ الثوب؟"، قال: "تُعطينا الثمن"، قال الرجل المتكبر: "الألف درهم؟"، قال الشاب: "كلا، بل الثمن الذي نطلبه؟!"، فقال له الرجل المتكبر: "لقد دفعتَ لي ألف درهم"، فقال الشاب: "لا شأن لك بما دفعت"، فقال له الرجل المتكبر: "وكم تريد؟!"، قال الشاب: "ألفي درهم"، فقال له الرجل المتكبر: "هذا كثير"، قال الشاب: "إذن فأعطنا ثوبنا"، قال الرجل المتكبر: "أتُريد أن تفضحني؟!"، قال الشاب: "كما كنتَ تُريد أن تفضح المرأة المسكينة!"، فقال الرجل المتكبر: "هذا ظلم"، قال الشاب: "الآن تتكلم عن الظلم؟!"، فخجل الرجل المتكبر من نفسه وأعاد المال للشاب وعفا عن المرأة، ومن فوره أعلن الشاب -والناس مجتمعون يشاهدون الواقعة- أن المال هديةٌ للمرأة المسكينة.

لقد أظهر الشاب في هذا الموقف حكمةً وحُسن فهمٍ وسرعة تصرفٍ، قد لا تتوفر لغيره، فقد وهبه المولى عزَّ وجلَّ (نعمة الحكمة)، وهو سبحانه يهبها لمن يشاء من عباده؛ يقول تعالى: ﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ أي: أنَّه تعالى يُعطي الحِكْمَة والعلم النَّافع، لمن يشاء من عباده، فيميِّز به الحقائق من الأوهام، ومن أُوتي ذلك عرف الفرق بين وعد الرَّحمن ووعد الشَّيطان، وعضَّ على الأوَّل بالنَّواجذ، وطرح الثَّاني وراءه ظهريّاً. فإن من آتاه الله الحِكْمَة فقد آتاه خيراً كثيراً، وأيُّ خيرٍ أعظم من خيرٍ فيه سعادة الدَّارين، والنَّجاة من شقاوتهما!

ويقول تعالى: ﴿ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ أي: ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بالمقالة المحْكَمة الصَّحيحة؛ بالدَّليل الموضِّح للحقِّ، المزيح للشُّبهة.

ويقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾ وفي هذه الآية يُخبر تعالى عن امتنانه على عبده لُقْمان، بالحِكْمَة، وهي العلم بالحقِّ على وجهه وحِكْمَته، فهي العلم بالأحكام، ومعرفة ما فيها من الأسرار والإحكام، فقد يكون الإنسان عالماً، ولا يكون حكيماً.

 

وقال النَّبي صلى الله عليه وسلم: [لَا حَسَدَ إلَّا في اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَسُلِّطَ علَى هَلَكَتِهِ في الحَقِّ، ورَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الحِكْمَةَ فَهو يَقْضِي بهَا ويُعَلِّمُهَا]، وعن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: ضمَّني رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: [اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الحِكْمَةَ].

 

وتُعرّف الحِكْمَة بأنها "فعل أو قول ما ينبغي، على الوجه الذي ينبغي، في الوقت الذي ينبغي"، وورد في الأثر: "الحكمة ضالة المؤمن؛ حيث وجدها فهو أحق بها"؛ فكل من قال بالصواب أو تكلم بالحق قُبِلَ قَولُه، وإن كان القائل بغيضاً؛ يقول تعالى: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾؛ فبُغض المؤمن لشخصٍ ما لا يحمله على رد ما جاء به من الحكمة والخير، على حد قول القائل:

لا تَحْقِرَنَ الرَأيَ وَهوَ مُوافِقٌ

حُكْمَ الصوابِ إذا أتى مِنْ ناقِصِ

فالْدُرُ وَهوَ أعَزُ شَيءٍ يُقْتَنى

ما حَطَ قيمَتَهُ هَوانُ الغَائِصِ

 

أحبتي .. كما أن العلم بالتعلم، والصبر بالتصبر، فإن اكتساب الحكمة، إن لم تكن موجودةً بالفطرة، يكون بتدريب النفس على النظر فيما وراء ما يراه الآخرون، أو ما يُطلق عليه "التفكير خارج الصندوق". فمن كان منا ممن وهبهم الله (نعمة الحكمة) فليحمد الله ويستخدمها في الخير، ومن كان غير ذلك فليحمد الله كذلك وليجتهد في اكتساب الحكمة وتنميتها؛ فليس هناك -خاصةً في المواقف الصعبة ووقت الأزمات- أفضل من حكيم.

اللهم أنر بصائرنا، ووسع مداركنا، وأنعم علينا بفضلك، وآتنا من لدنك حكمةً، إنك على كل شيءٍ قدير.

 

https://bit.ly/3tXPwX0