الجمعة، 30 سبتمبر 2016

وأن تصدقوا خير لكم

الجمعة 30 سبتمبر 2016م

خاطرة الجمعة /٥١
(وأن تصدقوا خير لكم)

امرأة كبيرة في السن رثة الثياب وقفت ومعها ابنتها في الصف للمحاسبة على مشترياتها من ذلك السوبر ماركت الكبير، قام المحاسب بتسجيل ما تحمله سلتها من أغراض وطلب منها دفع قيمة مشترياتها، أخرجت من حافظةٍ صغيرةٍ تمسك بها في يدها كل ما معها من نقود، لكنها اكتشفت أن ما معها أقل من المطلوب، سألت ابنتها إن كان معها أية نقود، فأخرجت الصغيرة ما معها وأعطته لإمها، ومع ذلك ظل الحساب أكبر من قدرة المرأة على السداد، وفي الوقت الذي بدأت علامات الضجر تظهر فيه على وجه المحاسب أخذت المرأة تعيد بعض الأغراض من سلة المشتريات عَلَّ ما يتبقى منها يكون في حدود ما تملكه من نقود. كان يقف خلف هذه المرأة في الصف شابٌ يرى ويتابع ما يحدث أمامه، أدرك الشاب على الفور أن المرأة لا تملك ما يكفي من مال وأراد أن يساعدها، لكن كيف يقوم بذلك أمام المحاسب والمشترين الآخرين الواقفين في الصف؟ أخذ يفكر في طريقة يستطيع بها أن يساعد هذه المرأة ويحافظ على كرامتها في ذات الوقت .. الوقت يمر .. والمحاسب غير صابر .. والمرأة في قمة الإحراج .. والموقف يتأزم .. حتى وصل الأمر بالبنت الصغيرة أن تقول لوالدتها: "أمي .. أرجعي قطعة الحلوى هذه فلست أشتهيها"! .. وقتها لمعت فكرةٌ في ذهن الشاب نفذها فوراً .. ألقى بأوراق نقدية على الأرض تحت قدمي المرأة وقال لها وهو يشير إلى مكان الأوراق النقدية: "سيدتي.. هذه النقود قد وقعت منك"!، والتفت ينظر في اتجاهٍ آخر متحاشياً النظر إلى عيني المرأة، أما هي فقد التقطت الأوراق النقدية من على الأرض وهي تقول للشاب: "شكراً لك، جزاك الله خيراً"، وقامت بدفع حسابها. عند خروجها من السوبر ماركت نظرت المرأة إلى الشاب من بعيد فقرأ في عينيها شكراً صامتاً وعرفاناً بالجميل، وعندما تحول بنظره إلى الطفلة الصغيرة لمح ابتسامة السعادة على وجهها وهي تمسك في يدها بقطعة الحلوى التي كانت طلبت من أمها إرجاعها.
انتهى الشاب من المحاسبة على مشترياته، وغادر متوجهاً نحو سيارته، وهو يحمد الله سبحانه وتعالى أن ألهمه هذا التصرف السريع الذي قام فيه بتقديم صدقةٍ لأسرةٍ فقيرةٍ محتاجة دون أن يجرح كرامتهم أو يعرضهم لأي إحراج.
كانت هذه قصة متداولة على مواقع التواصل الاجتماعي، كتبها الشاب بنفسه عن موقفٍ حقيقيٍ مر به، وقال إنه يكتب ذلك ليستفيد الناس من التصرف الذي ألهمه الله به.
لكن هذه القصة استدعت إلى ذاكرتي على الفور الآية الكريمة (وأن تصدقوا خير لكم).

أحبتي في الله .. ما أعظم الصدقة .. وما أروع العطاء حينما يكون خالصاً لوجه الله .. دون رياء .. وبغير مَنٍّ ولا أذى.
لقد أمرنا الله سبحانه وتعالى بالصدقة على الفقراء وبالإنفاق سراً وعلانية .. وما أكثر آيات القرآن الكريم التي تحث المسلم على أن يتصدق بما يستطيع؛ قال الله سبحانه وتعالى آمراً نبيه الكريم: ﴿قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَيُنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ﴾، وأمر المؤمنين مباشرةً بقوله: ﴿وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ﴾، وبقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم﴾، وبقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ﴾، وبَيَّنَ أن المنفقين من المفلحين فقال: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْراً لِّأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾، ووعد الذين ينفقون من أحب الأموال إليهم بأن ينالوا البر بقوله: ﴿لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ﴾، وأوضح أن هذا الإنفاق يعود بالخير على المنفقين أنفسهم فقال: ﴿وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ﴾، وبَشَّر المتصدقين بأن ما أنفقوه هو قرضٌ لله سبحانه وتعالى يضاعفه لهم ولهم أجرٌ كريم؛ يقول سبحانه: ﴿إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ﴾، ووعد بأن يضاعف هذا القرض أضعافاً كثيرة فقال: ﴿مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾، ومدح التصدق في السر والعلن بقوله: ﴿إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِىَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتؤْتُوهَا الفُقَرَاءِ فَهُوَ خَيرٌ لَّكُمْ﴾، وبين أن التصدق ليس قاصراً على الأغنياء فقط فمدح المؤثرين على أنفسهم الذين يتصدقون رغم ما بهم من خصاصةٍ على من هم أكثر احتياجاً منهم؛ وذلك حين قال: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾، وحث الدائنين على التصدق على المدينين المعسرين؛ فقال:﴿وَأَن تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾، وبين لنا أن كل مفرّط يندم عند الاحتضار ويتحسر على ما فرّط في وقت الإمكان، ويسأل الرجعة إلى الدنيا ولو لمدة يسيرة ليستدرك ما فاته وما فرّط فيه ويتصدق ويكون من الصالحين؛ يقول سبحانه وتعالى: ﴿وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ في هذا الموقف العصيب، عند انتهاء الأجل، لا يتذكر الإنسان إلا الصدقة يتمنى لو يُمهل دقائق معدودة فقط ليتصدق ويكون من الصالحين.
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: [إن صدقة السر تطفئ غضب الرب تبارك وتعالى]، ويقول عليه الصلاة والسلام: [والصدقة تطفئ الخطيئة كما تطفئ الماء النار]، ومبيناً أن التصدق يمكن أن يكون بأقل القليل يقول: [فاتقوا النار، ولو بشق تمرة]، وموضحاً أهمية الصدقة يوم الحساب بقوله: [كل أمرئ في ظل صدقته، حتى يُقضى بين الناس]. وذاكراً رجلاً تصدق من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله؛ يقول عليه الصلاة والسلام: [رجل تصدق بصدقة فأخفاها، حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه]، ومعلماً لنا أن الصدقة دواء وعلاج قال: [داووا مرضاكم بالصدقة]، ومبيناً أن الصدقة تلين القلب بقوله: [إذا أردت تليين قلبك فأطعم المسكين، وامسح على رأس اليتيم]، ومبشراً بأن الله يخلف كل ما ننفقه؛ يقول صلى الله عليه وسلم: [ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً]، ومؤكداً على أن الصدقة لا تنقص المال يقول: [ما نقصت صدقة من مال]، ومعرفاً لنا أفضل وقت للتصدق قال: [أفضل الصدقة أن تصدَّق وأنت صحيحٌ شحيحُ، تأمل الغنى وتخشى الفقر، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلان كذا ولفلان كذا، ألا وقد كان لفلان كذا]، وموضحاً أن العبرة ليست بقيمة ما نتصدق به وإنما بمدى الإخلاص في النية وبقيمة ما ننفقه إلى ما نملكه؛ يقول المصطفى: [سبق درهم مائة ألف درهم]، ومحدداً لنا أولوية الإنفاق بقوله: [أفضل الصدقة جهد المُقل، وابدأ بمن تعول]، ومبيناً أن الإنفاق على الأهل صدقة يقول: [الرجل إذا أنفق النفقة على أهله يحتسبها كانت له صدقة]، ومعدداً مصارف الصدقات ومحدداً أفضلها بقوله: [أربعة دنانير: دينار أعطيته مسكيناً، ودينار أعطيته في رقبةٍ، ودينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته على أهلك، أفضلها الدينار الذي أنفقته على أهلك]، وموضحاً أن ثواب الصدقة يكون مضاعفاً إذا كانت على قريب مسكين قال: [الصدقة على المسكين صدقة، وهي على ذي الرحم اثنتان: صدقة وصلة]، ومؤكداً على أن الصدقة الجارية هي مما ينتفع الإنسان به بعد موته يقول: [إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له]، ويقول عليه الصلاة والسلام: [إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علماً علمه ونشره، أو ولداً صالحاً تركه، أو مصحفاً ورثه، أو مسجداً بناه، أو بيتاً لابن السبيل بناه، أو نهراً أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه بعد موته]، ومبيناً مجالات مختلفة لصدقاتنا قال: [أفضل الصدقة سقي الماء]، وقال: [تُطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف]، كما قال: [من بنى مسجداً يبتغي به وجه الله، بنى الله له بيتاً في الجنة]، وقال أيضاً: [من حفر بئر ماء لم يشرب منه كبد حرى من جن ولا إنس ولا طائر إلا آجره الله يوم القيامة، ومن بنى مسجداً كمفحص قطاة أو أصغر بنى الله له بيتاً في الجنة].
وغير ذلك كثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة.

أحبتي .. الأصل اللغوي لكلمة "صدقة" هو الفعل "صَدَقَ" الذي لا يتفرع عنه إلا كل ما هو طيب؛ كالصِدق والتصديق والصداقة والصَداق والصدقة.
ولقد عُني السلف الصالح بالصدقات عنايةً فائقة، وفهموا الآية الكريمة (وأن تصدقوا خير لكم) فهماً صحيحاً فكانوا يسارعون إلى التصدق بكل ما يملكون أو بنصفه أو ببعضه .. وكانوا لا يتصدقون إلا بأحب الأموال والممتلكات لديهم تنفيذاً لأمر الله سبحانه وتعالى للمؤمنين: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ﴾، وكانوا يعلمون أن الصدقة تقع في يد الله سبحانه وتعالى قبل أن تصل إلى يد الفقير؛ لقول المصطفى عليه الصلاة والسلام: [من تصدق بصدقة من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا طيباً، كان إنما يضعها في كف الرحمن، ويربيها كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله، حتى تكون مثل الجبل]، حتى أنه ورد في الأثر عن السيدة عائشة رضي الله عنها أنها كانت تُطَيّب دراهم ودنانير الصدقة بالمسك، وعندما سُئلت رضي الله عنها عن ذلك أجابت: {لأنه يقع في يد الله سبحانه قبل أن يقع في يد الفقير والمسكين والمحتاج}. وأهل العلم يقولون في الآية الكريمة: ﴿وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ*لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾ أن الصدقة تكون للسائل ولو لم يكن محروماً، وللمحروم ولو لم يكن سائلاً.
اعلموا أحبتي أن حاجة المتصدق لأجر الصدقة أكثر من حاجة من يتصدق عليه! وأن المصرف الوحيد الذي له فروع في الدنيا والآخرة هو مصرف الصدقة تودع فيه في دنياك وتسحب منه في آخرتك!
وكلما زادت الصدقة زاد المال بركةً ونماءً وزاد الرزق؛ فالصدقة تُديم النعم وتدفع النقم، ترفع البلاء وتستنزل الشفاء، تُنجي من الكرب وتطفئ غضب الرب.
يقول ابن القيم: أرخِ يدك بالصدقة؛ تُرخَىَ حبالُ المصائب من حول عنقك!
والصدقة لا يعجز عنها أحد؛ فالكلمة الطيبة صدقة، وتبسمك في وجه أخيك صدقة، وإماطة الأذى عن الطريق صدقة.
أحبتي .. مهما تصدقنا فنحن لا نتصدق بمالنا؛ إنما هو مال الله استخلفنا فيه لينظر ماذا نحن فاعلون به، ما أكرمك يا الله ترزقنا المال من غير حول لنا ولا قوة ثم تطلب منا أن نتصدق ببعضه على المحتاجين ثم تجازينا على ذلك ثواباً من عندك، رغم أن المال مالك والخلق خلقك وكلنا عبيدك!
فما أبخل من يستطيع أن يتصدق ولا يفعل، ويا ويل من يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقون منها في وجوه الخير؛ يقول تعالى: ﴿يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ﴾، يقول بعض أهل العلم أن اختيار الجباه والجنوب والظهور بهذا الترتيب ربما سببه أن كانز المال إذا رأى الفقير من بعيد أشاح عنه بجبهته، وإذا اقترب منه أدار جنبه عنه، فإذا وصل إليه أعطاه ظهره!

للمتصدقين أحبتي باب من أبواب الجنة يسمى باب الصدقة، لا يدخل منه إلا المتصدقون، اللهم اجعلنا ممن يدخلون الجنة من هذا الباب. وقانا الله شُح أنفسنا، وحبب إلينا التقرب إليه بالصدقات وإنفاق المال في أوجه البر الخير، وهدانا حتى تكون الآية الكريمة (وأن تصدقوا خير لكم) سلوكاً نلتزم به وليس مجرد قولٍ نحفظه ونردده.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.


https://goo.gl/SBjuYF

ليست هناك تعليقات: