الجمعة، 8 مارس 2024

الأيادي البيضاء

 خاطرة الجمعة /437

الجمعة 8 مارس 2024م

(الأيادي البيضاء)

 

تناقلت وسائل الإعلام العالمية خلال الأيام السابقة خبراً عن امرأةٍ أمريكيةٍ تبرعت بمليار دولار لإحدى كليات الطب في «نيويورك» مُسددةً الرسوم الدراسية لجميع الطلاب وإلى الأبد! والمتبرعة هي أستاذةٌ سابقةٌ في الجامعة، وأرملة أحد المستثمرين في «وول ستريت»، وهذا المبلغ يضمن التعليم المجاني للطلاب في منطقة «برونكس». وقالت المؤسسة التي تم التبرع لها، والتي تضم كلية الطب: "إن هذا التبرع يُحدث ثورةً جذريةً في قدرتنا على مواصلة جذب الطلاب الراغبين في دراسة الطب المؤهلين لذلك". فرحةٌ عارمةٌ انتابت الطلبة لحظة إعلان خبر هذا التبرع السخي، حيث قفز بعضهم من على الكراسي، بينما صفق آخرون بحرارةٍ ووقفوا احتراماً للسيدة المتبرعة. وقالت المتبرعة في كلمةٍ لها: "في كل عامٍ، يدخل أكثر من مائة طالبٍ إلى كلية الطب، وأنا ممتنةٌ جداً لزوجي الراحل؛ لأنه ترك لي هذه الأموال، وأشعر بالسعادة الغامرة لحصولي على شرف تقديم هذه الهدية لأولئك الطلاب الذين يحلمون بأن يكونوا أطباء".

 

أحبتي في الله.. قصة هذه المرأة صاحبة (الأيادي البيضاء) أبهرت الملايين حول العالم لما اعتبروه تبرعاً شديد السخاء، لكن هؤلاء ربما لم يعلموا أن رجلاً عربياً مسلماً سبقها وتبرع للأعمال الخيرية بأكثر بكثيرٍ مما تبرعت به؛ فقبل حوالي أربع سنواتٍ تربَّع رجل الأعمال السعودي "سليمان الراجحي" على عرش أكبر المنفقين والمحسنين والمتبرعين لأعمال الخير في العالم العربي، وكان هو العربي الوحيد في قائمة المحسنين العشرة الكبار على مستوى العالم؛ إذ احتل وقتها المركز السادس عالمياً من حيث حجم الأموال التي أنفقها في أعمال الخير والأموال التي تبرع بها للفقراء ولمشاريع الخير والإحسان في العالم؛ فقد كشفت شركة أبحاثٍ عالميةٍ متخصصةٍ في دراسة حركة الثروات ورؤوس الأموال في العالم أنه قدَّم تبرعاتٍ وأموالاً لدعم أعمال الإحسان في العالم بلغت قيمتها 5.7 مليار دولار. وقالت شركة الأبحاث إن إجمالي المبالغ التي تبرَّع بها أكبر عشرين مُحسناً في العالم من ذوي (الأيادي البيضاء) تجاوزت مائة مليار دولار أميركي؛ وهو ما يعني أن المبالغ التي يُساهم بها هؤلاء الأثرياء في أعمال الخير تتفوق أحياناً على ما تُقدمه بعض الدول الكبرى من معوناتٍ للمحتاجين في مختلف أنحاء العالم.

 

وأنقل لكم فيما يلي ما قرأته عن قصة نجاح الملياردير رجل الأعمال السعودي "سليمان الراجحي"، والتي قيل عنها إنها تختلف عن كل القصص الملهمة التي سمعنا وقرأنا عنها، لأنها تُجسد حكاية رجلٍ فقيرٍ بدأ من الصفر، وعاد إليه طواعيةً بعد ثمانين سنة من الكفاح والتحدي؛ حيث تبرَّع هذا العام بثلثي ثروته التي تزيد عن سبعة مليارات دولار للأعمال الخيرية؛ فأنشأ شركة أوقاف سليمان الراجحي القابضة، وقام بتوزيع الأرباح الناتجة من استثماراته المختلفة على المشروعات الخيرية التي تُعنى بالفقراء والتعليم وبناء المساجد، كما قام ببناء جامعة سليمان الراجحي في مسقط رأسه في «البكيرية». اشتُهر الراجحي بحبه للأعمال الخيرية؛ حتى أنَّ موسوعة «غينيس» للأرقام القياسية سجلت مزرعة الراجحي كأكبر وقفٍ خيريٍ في العالم؛ إذ يبلغ عدد النخيل فيها 200 ألف نخلة!

وأبقى "سليمان الراجحي" ثُلث ثروته لأبنائه ليعود فقيراً مثلما بدأ، قائلاً: "وصلتُ لمرحلة الصفر مرتين في حياتي، إلا أن وصولي هذه المرة كان بمحض إرادتي"!

نشأ "الراجحي" فقيراً، وعمل في بداية حياته حمالاً وكناساً وطباخاً وقهوجياً وصرافاً، إلى أن أسس مصرف الراجحي، أول بنك إسلامي في «السعودية»، وأحد أكبر البنوك الإسلامية في العالم بقيمة 33 مليار دولار أميركي، ويبلغ رأسماله أربعة مليارات دولار ويعمل فيه أكثر من ثمانية آلاف موظف، كما امتلك الراجحي العديد من الشركات المساهمة في التنمية الزراعية والصناعية والتعليمية والخيرية.

لم يُكمل "سليمان" تعليمه، وترك مقاعد الدراسة في الصف الثاني الابتدائي، وكان كثير التغيب عن المدرسة بسبب انجذابه الشديد للتجارة؛ يقول في أحد حواراته الصحفية إنه في طفولته اشترى طائرةً ورقيةً بقرشٍ واحدٍ -كان لا يملك سواه في جيبه- وفككها ليتعرف على طريقة صنعها، ثم جمع سعف النخيل ليصنع منه الطائرات، ويبيع الواحدة منها بنصف قرش! وفي سن الـ 12 بدأ "سليمان" جمع البلح لأصحاب مزارع النخيل، الذين كانوا يدفعون له ستة ريالاتٍ شهرياً لقاء ما يقوم به من عمل. ثم انتقل للعمل بوظائف بسيطةٍ مختلفةٍ؛ فعمل كناساً وحمالاً وحارساً وطباخاً، ولم يكن يتردد في القيام بأي عملٍ مهما كان بسيطاً، الأمر الذي أكسبه خبرةً واحتكاكاً مع الناس، كما عمل في البناء، واكتسب خبرةً جيدةً بالسوق وأساليب التعامل مع فئات المجتمع المختلفة. يقول "سليمان الراجحي": "لم أكن أُفطر، كنتُ حمّالاً لأغراض الناس، وأنتظر الثوب الوحيد حتى يجف لألبسه". حينما بلغ عامه الـ 15 كان يدّخر القرش على القرش -على حد قوله في أحد اللقاءات الصحافية- حتى تمكن من إنشاء دكانٍ بسيطٍ خاصٍ به يبيع فيه بعض السلع الاستهلاكية؛ كالشاي والسكر والحلوى والكبريت، تمكن من خلال عمله في البقالة من جمع 1500 ريال، وهي ثروةٌ كبيرةٌ في ذلك الوقت، فحقق رغبة والديه في الزواج، رغم أن ذلك كلفه كل ما جمعه. يقول "الراجحي": "وُفقت بالزواج من أربع نساءٍ ساعدنني في حملي الكبير". بعد سنواتٍ قرر "سلیمان" العمل مع شقيقه الأكبر "صالح" في مؤسسة صرف العملات؛ فكان يُغيّر العملة في شوارع «مكة» للحجاج ويحمل الطرود والأمانات على ظهره لإيصالها للمطار، فيقطع ما يزيد على 10 كيلو مترات ليوفر أجرة الحمّال والنقل، ولم يكتفِ بذلك فتاجر في أوقات فراغه في الأقفال والأقمشة ومواد البناء لتحسين دخله. في عام 1970م قام "سليمان" بافتتاح شركةٍ خاصةٍ به لتبادل العملات، بعد أن انفصل عن أخيه "صالح"، وبدأت أعماله تنجح وتتوسع، وحقق نجاحاً باهراً، وتنامت ثروته واستثماراته. وفي عام 1987م أسس مصرف الراجحي برأسمال 15 مليار ريال، وتعددت فروعه لتصل إلى 500 فرع، كما امتلك أكبر شبكة صرافاتٍ آليةٍ في «السعودية» بعدد يزيد على 2750 ماكينة صرافٍ آليٍ في جميع أرجاء المملكة، إلى جانب عددٍ كبيرٍ من الفروع المنتشرة في العالم. ودخل الراجحي العديد من المجالات التجارية الأخرى؛ فكان يمتلك شركةً للورق والبلاستيك، فضلاً عن امتلاكه عدداً كبيراً من الأسهم في شركة الاستثمار الأسرية التي تُنفذ العديد من المشروعات الزراعية والصناعية داخل المملكة وخارجها كما في «إفريقيا» و«أوروبا الشرقية». بالإضافة إلى امتلاكه شركتي: الوطنية للصناعة والوطنية للنقل. وقد احتفظت شركة الراجحي بأصولٍ أخرى تبلغ قيمتها أكثر من مليار دولار، بما في ذلك الدواجن الوطنية التي تُعتبر من أكبر مزارع الدواجن في منطقة الخليج. حافَظ ثالث أغنى رجلٍ في العالم العربي على تواضعه وحُبه للعمل، فهو يُتابع -رغم كبر سنه- أعماله بشغفٍ، ويُراقب كل شيءٍ بنفسه، ويتمنى لو أن الأسبوع تسعة أيامٍ ليقضيها في العمل، فهو أول من يأتي إلى مكان العمل وآخر من يخرج منه. كما أنه يلبس ثوباً أبيضاً عمره أكثر من 30 عاماً؛ لكي يُذكِّر نفسه دائماً بأنه كان فقيراً، ولكي لا ينسى ماضيه وبداياته!

وكتب الملياردير السعودي "سليمان الراجحي" في وصيته أنه لا يريد أن يُقام له عزاءٌ بعد موته، وأن يتم التبرع بكلفة ذلك للجمعيات خيرية.

 

لقد استجاب "الراجحي" لنداء الله سبحانه وتعالى الذي يحثنا فيه على الإنفاق بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ﴾، وبقوله عزَّ وجلَّ: ﴿إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾. لقد وعد سبحانه المنفقين بمضاعفة ما أنفقوا وبالأجر الكريم وبالأمن؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ﴾، ويقول سُبحانه: ﴿الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾.

وحثاً على الإنفاق قال النبي صلى الله عليه وسلم: [لا حَسَدَ إلَّا في اثْنَتَيْنِ] ذكر منهما [رَجُلٌ آتاهُ اللَّهُ مالًا فَهو يُهْلِكُهُ في الحَقِّ]. وقال صلى الله عليه وسلم: [مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ]. وقال أيضاً: [إِذَا مَاتَ الإنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِن ثَلَاثٍ] ذكر منها [صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [قالَ اللَّهُ تَبارَكَ وتَعالَى: يا ابْنَ آدَمَ أنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ].

 

أحبتي.. إنّ الإنفاق في الخير ليس قاصراً على الأغنياء فقط، وإنما هو دعوةٌ لأن يقوم كلٌ منا بالإنفاق في وجوه الخير بما يستطيع؛ يقول تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾، وقال صلى الله عليه وسلم: [سبقَ دِرهمٌ مائةَ ألفِ درهمٍ] قالوا وكيف؟ قال: [كانَ لرجلٍ درهمانِ تصدَّقَ بأحدِهِما، وانطلقَ رجلٌ إلى عُرضِ مالِهِ، فأخذَ منهُ مائةَ ألفِ درهمٍ فتصدَّقَ بِها] فالأول تصدَّق بنصف ماله، أما الآخر فقد تصدَّق ببعض ماله.

فلنُنفق على كل وجهٍ من أوجه الخير المتعددة، حتى نكون من المحسنين فنحظى بمحبة الله؛ يقول تعالى: ﴿اللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾. ولننتهز فرصة قدوم شهر رمضان المبارك لنُكثر من إنفاقنا، وليكن لنا أسوةٌ حسنةٌ في رسولنا الكريم؛ فقد "كان صلَّى الله عليه وسلَّم أجْوَد النَّاس، وكانَ أجوَدُ ما يَكونُ في رَمَضَانَ". ولنتذكر قوله عليه الصلاة والسلام: [ما مِن يَومٍ يُصْبِحُ العِبادُ فِيهِ، إلَّا مَلَكانِ يَنْزِلانِ، فيَقولُ أحَدُهُما: اللَّهُمَّ أعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، ويقولُ الآخَرُ: اللَّهُمَّ أعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا].

اللهم أعِنّا على أن نتغلب على شُح أنفسنا؛ لنكون من ذوي (الأيادي البيضاء) الذين يُنفقون سراً وعلانية، وتقبل اللهم منا صالح الأعمال.

 

https://bit.ly/43b5fSF