الجمعة، 7 سبتمبر 2018

لَا تُعِينُوا عَلَيْهِ الشَّيْطَانَ


الجمعة 7 سبتمبر 2018م

خاطرة الجمعة /١٥١
(لَا تُعِينُوا عَلَيْهِ الشَّيْطَانَ)

كتب يقول: منذ أن بدأت أعفي لحيتي وأنا أعاني من التصنيف ووُضعت في خانة {شيخ}؛ أركب وسيلة المواصلات يسألني السائق: أين تنزل يا {شيخ}؟"، لو أخطأت، فأنا بشرٌ، أجد من يقول لي: "عيبٌ عليك أن تخطئ وأنت {شيخ}"، لو تعصبت وتضايقت أجد من يقول لي: "كيف تتعصب وأنت {شيخ}؟". حتى حُرمت من أن أكون إنساناً يجوز له أن يخطئ ويُذنب ويتوب ويتقبل الله توبته.
أنا لست {شيخاً}، ولا حتى طالب علمٍ، أنا مسلمٌ أعانني الله أن أفعل شيئاً من الدين لا تفعله أنت، وقد تفعل أنت من الدين ما لا أستطيع أنا أن أفعله. قد تكون أنت أفضل مني عند الله مئة مرة،
وقد أفعل ذنوباً لا تفعلها أنت والله يسترني.
علينا أن نتعامل مع الناس بسلوكياتهم وأخلاقهم وليس بمظهرهم، وعلينا أن ننظر إلى أخطاء غيرنا باعتبارهم بشراً وليسوا ملائكةً معصومين.

أحبتي في الله .. عندما قرأت ما كتب هذا الشاب الملتحي على أحد مواقع التواصل الاجتماعي، استدعت ذاكرتي أمثلةً أخرى لتصرفاتٍ تصدر من بعضنا: كعدم الصبر على تجاوزات أو أخطاء بعض الأطفال الصغار أثناء صلاة الجماعة في المسجد، التعليقات غير الحكيمة نقولها لفتاةٍ ربما ترتدي الحجاب لأول مرة، محاسبة شابٍ ملتحٍ على أخطاء بسيطةٍ أو هفواتٍ أو تقصير. رُبَّ كلماتٍ نقولها لهم بقسوةٍ تنفرهم من المسجد، أو من الصلاة، أو من ارتداء الحجاب، أو من إطلاق اللحية. وربما بسبب كلمةٍ غير مناسبةٍ منا أو تصرفٍ غير حكيمٍ ابتعد بعضهم عن طريق الهداية وسبيل الرشاد.
لماذا تسبق كلماتنا القاسية الجارحة أحياناً كلماتنا الحانية المسامحة؟ ولماذا نقسو على غيرنا لمجرد هفواتٍ بسيطةٍ صدرت منهم نتيجة جهلٍ أو قلة فهمٍ أو عدم انتباهٍ أو لظروفٍ خاصةٍ لا ندري عنها شيئاً؟ ماذا إذن لو كان ما صدر منهم أكبر وأعظم من تلك الهفوات البسيطة؟
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ﴿وَالَّذينَ إِذا فَعَلوا فاحِشَةً أَو ظَلَموا أَنفُسَهُم ذَكَرُوا اللَّهَ فَاستَغفَروا لِذُنوبِهِم وَمَن يَغفِرُ الذُّنوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَم يُصِرّوا عَلى ما فَعَلوا وَهُم يَعلَمونَ﴾، الله سبحانه وتعالى يغفر لمن فعلوا الفواحش والكبائر، فما بالنا نحن لا نغفر لمن يرتكب الهنات والهفوات والصغائر، ولا نتسامح مع من قصَّر أو زلَّ أو أخطأ؟!

تذكرت موقفاً لرسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام يُعلم فيه أصحابه رضي الله عنهم، ويوجهنا ويرشدنا؛ فقد أُتِيَ للنَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَكْرَانَ فَأَمَرَ بِضَرْبِهِ، يقول الراوي من الصحابة: فَمِنَّا مَنْ يَضْرِبُهُ بِيَدِهِ، وَمِنَّا مَنْ يَضْرِبُهُ بِنَعْلِهِ، وَمِنَّا مَنْ يَضْرِبُهُ بِثَوْبِهِ، قَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: "أَخْزَاكَ اللَّهُ"، فقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [لَا تَكُونُوا عَوْنَ الشَّيْطَانِ عَلَى أَخِيكُمْ].وفي روايةٍ قال عليه الصلاة والسلام: [وَلَكِنْ قُولُوا اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ]، وفي روايةٍ قال: [لَا تَقُولُوا هَكَذَا، لَا تُعِينُوا عَلَيْهِ الشَّيْطَانَ، وَلَكِنْ قُولُوا: رَحِمَكَ اللَّهُ]؛ ذلك لأنَّ الشيطان يريد بتَزْيينه المعصية للعاصي أن يحصلَ له الخزي، فإذا دعوا عليه بالخزي، فكأنهم قد حَصَّلوا مقصود الشيطان. ولأن العاصي إذا سمع إخوانه يدعون عليه بمثل ذلك ازداد في عتوّه ونفوره، وأخذته العزّة بالإثم، ولربما أيس من رحمة الله فانهمك في المعاصي والموبقات، ولذلك جاء التوجيه النبوي بأن قولوا: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ". هذا التوجيه النبوي للتعامل مع صاحب الكبائر، فأين نحن من هذا التوجيه مع صاحب الصغائر؟!
المؤمن الصادق إذا رأى صاحب معصيةٍ، حمد الله عزَّ وجلَّ في نفسه أن عافاه الله منها، ودعا للمبتلى بها بالتوبة، لا يسبه، ولا يشتمه، ولا يلعنه، ولا يُشهِّر به، فهذا ليس من سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
فلنساعد الناس ونأخذ بأيديهم ليسلكوا طريق التوبة والمغفرة بالمنهج القرآني العظيم: ﴿ادعُ إِلى سَبيلِ رَبِّكَ بِالحِكمَةِ وَالمَوعِظَةِ الحَسَنَةِ﴾، لا نُنَصِّب أنفسنا قضاةً على غيرنا ولا نقسو عليهم، وإنما علينا أن نعفو ونصفح لننال مغفرة الله ورحمته سبحانه وتعالى؛ يقول عزَّ وجلَّ: ﴿... وَليَعفوا وَليَصفَحوا أَلا تُحِبّونَ أَن يَغفِرَ اللَّهُ لَكُم وَاللَّهُ غَفورٌ رَحيمٌ﴾. ولا ننسى ما كنا نحن عليه قبل أن يمن الله علينا بالهداية؛ يقول عزّ وجلّ: ﴿.. كَذلِكَ كُنتُم مِن قَبلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيكُم فَتَبَيَّنوا إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعمَلونَ خَبيرًا﴾، ولنتذكر دائماً التوجيه النَّبَوي الكريم (لَا تُعِينُوا عَلَيْهِ الشَّيْطَانَ)؛ فهو منهجٌ قويمٌ في التعامُل مع أصحاب المعاصي.
وفي الحديث القدسي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [قَالَ رَجُلٌ: وَاللَّهِ لا يَغْفِرُ اللَّهُ لِفُلانٍ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "مَنْ ذَا الَّذِي يَتَأَلَّى عَلِيَّ أنْ لا أَغْفِرَ لِفُلانٍ، فَإِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لِفُلانٍ وَأَحْبَطْتُ عَمَلَكَ"]. فمَنِ الذي يعلم ما يؤول إليه حال ذلك العاصي غير الله؟! فقد يختم له بخيرٍ، ويختم لمن يقسو عليه بشرٍّ؛ ففي الحديث: [فَوَالله الَّذِي لاَ إِلَهَ غَيْرُه إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُوْنُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إلا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إلا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا].
ما أجملَ أن يستشعرَ الإنسان حال توجيه اللَّوم لأخيه العاصي أنه مكانه؛ لو كان الناصح هو الشخص المبتَلَى فماذا يحب أن يسمعَ؟ وكيف يريد مَن حوله أن يتعامَلُوا معه؟ ما أجملَ قاعدةَ: "ضع نفسك مكانه" إذا ما اقترنت بتوجيه النبي عليه الصلاة والسلام (لَا تُعِينُوا عَلَيْهِ الشَّيْطَانَ).
صدق الله سبحانه وتعالى حين يقول: ﴿فَبِما رَحمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُم وَلَو كُنتَ فَظًّا غَليظَ القَلبِ لَانفَضّوا مِن حَولِكَ فَاعفُ عَنهُم وَاستَغفِر لَهُم ...﴾. هذا هو المنهج للتوجيه والإصلاح: أن نرحم ونلين ونبتعد عن الفظاظة والغلظة في القول أو الفعل، ونعفو ونصفح ونستغفر وندعو للمقصرين والمذنبين بالهداية، ونحنو عليهم؛ وإلا ضاع منا أطفالٌ وفتيةٌ وشبابٌ كانوا في بداية طريق الإيمان فانفضوا من حولنا، وابتعدوا عن جادة الصواب والطريق المستقيم لقسوتنا وكلماتنا الجارحة وتصرفاتنا غير الحكيمة.
يقول أحد الوعاظ: "واجبنا نصح العاصي وليس الازدراء منه أو تحقيره أو الاستهزاء به أو التعالي عليه؛ فربما أوقعك تعاليك عليه في نفس ما وقع هو فيه. كن ناصحاً رفيقاً، ودع عنك الكبر والاستهزاء والتعالي".
علينا إذن بمكارم الأخلاق التي قال الشاعر عنها:
إن المكارمَ أخلاقٌ مطهرةٌ
الدينُ أولها والعقلُ ثانيها
والعلمُ ثالثها والحلمُ رابعها
والجودُ خامسها والفضلُ ساديها
والبرُ سابعها والشكرُ ثامنها
والصبرُ تاسعها واللينُ باقيها

أحبتي .. فلنبدأ نحن بأنفسنا أولاً؛ فنصلح من عيوبنا، ثم نرتقي لنكون المثال والقدوة لغيرنا في القول والعمل. ثم إن علينا أن نُعِين غيرنا وقد بدأوا في وضع أقدامهم على الطريق الصحيح، طريق الإيمان والاستقامة، نساعدهم ونأخذ بأيديهم، ونتعامل معهم بحكمةٍ، ونصبر عليهم، ونتجاوز عن هفواتهم، ولا نعين الشيطان عليهم بلعنهم أو تحقيرهم أو الإساءة إليهم، بل ننصح المقصرين والمذنبين، ملتزمين بالمنهج القرآني، متأسيين في التعامل معهم بأخلاق الرسول عليه الصلاة والسلام. تذكروا أحبتي، عندما ترون من أخطأ أو زلَّ أو قصَّر، قول خير البشر (لَا تُعِينُوا عَلَيْهِ الشَّيْطَانَ)؛ لا تلعنوه، لا تدعو عليه، وإنما ادعوا له.
ولنعلم أن كل كلمةٍ قاسيةٍ جارحةٍ لها كلمةٌ طيبةٌ رقيقةٌ حانيةٌ مرادفةٌ لها، تؤدي ذات المعنى، فلنتخير كلماتنا، ونتلطف في أقوالنا، امتثالاً لأمر الله: ﴿وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً﴾، ﴿وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾؛ فبذلك تتحقق الألفة، وينتشر الخير وتسود المحبة والمودة.

اللهم اهدنا، واهدِ بنا، واجعلنا هداةً مهديين. اهدنا إلى أحسن الأقوال والأفعال والأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت سبحانك. وألهمنا اللهم الحِلم والصبر والحكمة.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

https://goo.gl/oh6Xco