الجمعة، 6 يونيو 2025

أداء الأمانة

 

خاطرة الجمعة /502

الجمعة 6 يونيو 2025م

(أداء الأمانة) 

 

وقعت أحداث هذه القصة في شهر «ذو الحجة»، وفي مدينة «القُدس» حيث يوجد كان في الشام سوق اسمه سوق "مدحت باشا" أو "السوق الطويل"، وكانت العادة أن توضع الأمانات من أموالٍ وذهبٍ عند أي دُكانٍ في هذا السوق ويُغادر صاحبها الى الحج، وعند عودته يمر على صاحب الدُكان ويأخذ أمانته ويمضي الى بلده. كالعادة جاء رجلٌ من خارج الشام يحمل صُرةً حمراء توقف عند أحد الدكاكين وأعطى صاحب الدُكان هذه الصُرة طالباً منه أن يودعها عنده أمانةً الى حين عودته من الحج. وافق صاحب الدُكان بعد أن تأكد من عددها البالغ ثلاثة آلاف درهم، وتعرف عليه، وغادر الرجل الى الحج قاصداً بيت

الله الحرام. بعد عدة أشهرٍ عاد الرجل ودخل إلى الدُكان فلم يجد صاحبها؛ فسأل عنه فقال له العمال إنه في البيت وسيعود قريباً، وعند عودته طلب منه الرجل ماله؛ فسأله: "كم أودعتَ لدينا؟"، قال له: "ثلاثة آلاف درهم"، قال له: "ما اسمك؟"، قال له: "اسمي فلانٌ، ألا تذكرني؟"، سأله: "في أي يومٍ كان إيداع الأمانة؟"، قال: "يوم كذا"، وبدأ الرجل يرتاب من الأسئلة، سأله التاجر: "ما لون الصُرة التي وضعتهم بها؟"،

قال له: "صُرةٌ حمراء"، قال له: "اجلس قليلاً"، وأمر بإحضار طعام الغداء له واستأذن منه بأن عنده أمرٌ ضروريٌ وسيعود على الفور، انتظر الرجل وقتاً ليس بالقصير، وإذا بصاحب الدُكان قد جاء حاملاً معه صُرةً حمراء وفيها ثلاثة آلاف درهم، عدَّهم الرجل وتأكد منهم، وقال لصاحب الدُكان: "جزاك الله خيراً" وانصرف. وهو يمشي في السوق إذا به يرى شيئاً غريباً! اقترب ليتأكد فدخل إلى الدُكان وكانت المفاجأة هذه هي الدُكان التي وضع أمانته فيها!! قال لصاحب الدُكان: "السلام عليكم"، رد عليه صاحب الدُكان: "عليكم السلام ورحمة الله، تقبل الله منك الحج والحمد لله على سلامتك"، ودخل إلى غرفةٍ خلفية بالدُكان وعاد ليسلم للرجل أمانته؛ فقال له: "هذه صُرتك وفيها ثلاثة آلاف درهم"، أصاب الرجل الدهشة فقص عليه ما حصل وأنه أخطأ في الدُكان ودخل عند جاره فأعطاه المال ولم يُشكك بكلامه! ذهبا إلى التاجر الأول وسألاه: "كيف تُعطي الرجل المال وهو لم يضع عندك أمانته في الأصل؟"، فقال لهما: "والله الذي لا إله إلا هو إني لم أعرفه ولم أتذكر أن لديه أمانةً عندي، ولكن لما رأيتُ أنه واثقٌ من كلامه معي، وأنه غريبٌ عن هذه البلاد فكرتُ أني إن لم أعطه أمانته سيذهب مكسور الخاطر وسيُحدث أهله ويقول إن أمانته سُرقت منه بالشام، وسيذيع الصيت عن أهل الشام كلهم وليس عن الشخص الذي سرق منه الأمانة، وتذكرتُ كلام الله تعالى: ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ﴾ فذهبتُ وبِعتُ بضاعةً كانت عندي بألف درهم فلم تكفِ لسداد الأمانة؛ فاستدنتُ من صديقٍ ألفاً وخمسمائة درهمٍ، وكان معي خمسمائة فأكملتهم له ثلاثة آلاف كما أخبرني"!

 

أحبتي في الله.. صاحب الدُكان الأول رجلٌ يتقي الله سُبحانه وتعالى. كان ذلك في الزمن الجميل، واليوم في زمن أصبح أكل أموال الناس بالباطل شطارةً، وأصبح الأمين عملةً نادرةً، وشيئاً غريباً بين الناس، إلا من رحم ربي.

 

وعن (أداء الأمانة) قصةٌ عجيبةٌ ومُؤثرةٌ حدثت أيضاً في شهر «ذو الحجة» لأحد القُضاة، كان في «مكة» في موسم حجٍ، وكان مُفلساً لا يملك شيئاً من حُطام الدنيا، وقد اشتد به الجوع ذات يومٍ؛ فخرج يبحث عن كِسرة خُبزٍ أو أي شيءٍ يسد به رمقه، فإذا به يجد صُرةً من الحرير الأحمر مُلقاةً على الأرض، ففتحها فوجد بداخلها عِقداً ثميناً من اللؤلؤ، تُقدر قيمته بخمسين ألف دينار، فأخذ الصُرة وقفل راجعاً، فبينما هو في طريقه، إذا برجلٍ ينشد العِقد، ويُنادي في الناس يقول إنه افتقد صُرةً من حرير، فمن وجدها فله خمسون ديناراً! فسأله: "ماذا يوجد بداخل الصُرة؟"، قال: "بداخلها عِقد لؤلؤٍ ثمين"، فسأله عن علامة العِقد؛ فلما أخبره بها دفع إليه الصُرة على الفور، فأخرج له خمسين ديناراً وناولها له، فأبى أن يأخذها، قائلاً: "ما ينبغي لي أن آخذ مُقابلاً على لُقطةٍ وجدتها وأعدتها لصاحبها، فإني ما أعدتُ لك هذا العٍقد طمعاً في الجائزة، بل طمعاً في رضا ربي"، فرفض أخذ المال وهو حينها يتضور جوعاً ولا يجد كِسرة خبزٍ يابسةٍ يسد بها رمقه، فدعى له ذلك الرجل بخيرٍ، ومضى كلٌ منهما لحال سبيله.

مكث هذا القاضي المُحدِّث في «مكة» أياماً ثم قرَّر أن يركب البحر لعله يُصيب شيئاً يتموَّل به، فبينما هو في السفينة في عرض البحر، إذ هبَّت عاصفةٌ هوجاء، لم تزل تتلاعب بسفينتهم حتى حطمتها وأغرقتها، فتعلق القاضي بلوحٍ من حُطام السفينة، وما زال مُتشبثاً بذلك اللوح والموج يتقاذفه حتى ألقى به على الشاطئ، وقد بلغ به الجهد والإعياء مبلغاً عظيماً، فنظر فشاهد مسجداً فاستجمع قواه وجرَّ نفسه حتى وصل إلى المسجد فارتمى في داخله، وهو لا يدري شيئاً عن هذا المكان، ولا يعرف أحداً من أهله. ثم لم يلبث أن دخل ذلك المسجد رجلٌ، فلما رآه سأله عن حاله، فعرَّفه بنفسه وقصَّ عليه قصته مع غرق السفينة؛ أتى له الرجل بطعامٍ وشرابٍ وثوبٍ يستدفئ به، وقال له إنهم يبحثون عن رجلٍ يستأجرونه ليؤمهم في الصلاة في ذلك المسجد، فلما أخبره أنه يحفظ كتاب الله تعالى، سارعوا إلى استئجاره إماماً للمسجد، فلما علموا أنه يُجيد الكتابة، استأجروه ليُعلِّم لهم أبناءهم.

قال القاضي راوي هذه الحكاية: "فتموَّلتُ، وأصبحتُ بخير حالٍ، فجاءوني يوماً وقالوا لي إن لديهم فتاةً يتيمةً يُريدون أن يُزوِّجوني بها، وألحُّوا عليَّ في ذلك فوافقتُ، فلمَّا أدخلوني عليها رأيتُ على صدرها عِقداً من اللؤلؤ، فلم أتمالك نفسي من إمعان النظر في ذلك العِقد، وأنا في حالٍ من الذُهول والعجب، إذ أنه هو ذات العِقد الذي وجدته في «مكة». فبينما أنا أُحملق في العِقد؛ إذا بالفتاة تخرج باكيةً مُنتحبةً، تقول: "إنه لا يُريد أن ينظر إلى وجهي، فهو لا يرفع بصره عن العِقد الذي على صدري". يقول الرجل: "فلما صليتُ بالناس صلاة الفجر ذكروا لي ما قالته الفتاة، فأخبرتهم أنني قد وجدتُ هذا العِقد قبل كذا وكذا مُلقىً على الأرض في صُرةٍ من حريرٍ أحمر ببيت الله الحرام، وقد أعدته لصاحبه، فكبَّروا جميعاً، حتى ارتجّ المسجد بتكبيرهم! تعجبتُ؛ فلا أعلم ما الذي دعاهم لذلك، فلما رأوا الدهشة تعلو وجهي أخبروني أنصاحب العِقد هو والد هذه اليتيمة، وليس لديه سواها، وكان يؤمهم في الصلاة بهذا المسجد، وأنه تُوفي قبل مُدةٍ، ولكنه منذ أن عاد من الحج لم يفتأ يدعو بهذا الدعاء، ونحن نؤمِّن من خلفه: {اللهمَّ إني لن أجد أحداً مثل صاحب العِقد؛ اللهم لقني به حتى أزوِّجه وحيدتي}، وها قد استجاب الله تعالى لدعائه فجاء بك وزوَّجك ابنته، وإن بعد موته، وهذا جزاء الأمانة وعِفة النفس"!

 

يقول أهل العلم إن الله سُبحانه وتعالى وصف المؤمنين الصالحين الذين كتب لهم الفلاح والرشاد في الدُنيا والآخرة بأنهم يرعون أماناتهم ويؤدونها حق الأداء؛ يقول تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِم ْرَاعُونَ﴾. والأمانة تشمل كل ما يحمله الإنسان من أمر دينه ودُنياه قولاً وفعلاً، والأمانة هي أداء الحقوق، والمُحافظة عليها، فالمُسلم يُعطي كل ذي حقٍ حقه؛ يؤدي حق الله في العبادة، ويحفظ جوارحه عن الحرام، ويؤدي ما عليه تجاه الخَلْق. والأمانة خُلقٌ جليلٌ من أخلاق الإسلام، وهي فريضةٌ عظيمةٌ حملها الإنسان، بينما رفضت السماوات والأرض والجبال أن يحملنها لعِظمها وثقلها؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً﴾. ولقد أمرنا الله تعالى بأداء الأمانات؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾.

ولقد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم الأمانة دليلاً على إيمان المرء وحُسن خلقه، قال: [لاَ إِيمَانَ لِمَنْ لاَ أَمَانَةَ لَهُ، وَلاَ دِينَ لِمَنْ لاَ عَهْدَ لَهُ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [أَرْبَعٌ إِذَا كُنَّ فِيكَ، فَلاَ عَلَيْكَ مَا فَاتَكَ مِنَ الدُّنْيَا: حِفْظُ أَمَانَةٍ، وَصِدْقُ حَدِيثٍ، وَحُسْنُ خَلِيقَةٍ، وَعِفَّةٌ فِي طُعْمَةٍ]. وكانت من آخر وصايا النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع الوصية بالأمانة فقال: [وَمَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ أَمَانَةٌ فَلْيُؤَدِّهَا إِلَى مَنِ ائْتَمَنَهُ عَلَيْهَا -وَبَسَطَ يَدَيْهِ فَقَالَ- أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ].

 

وعن (أداء الأمانة) قال الشاعر:

فَعَلَيكَ تَقْوى اللهِ فالْزَمْها تَفُز

إنَّ التَقيَّ هُوَ البَهيُ الأَهْيَبُ

وَاعْمَلْ بِطاعَتِهِ تَنَلْ مِنْهُ الرِّضا

إنَّ المُطيعَ لِرَبِهِ لَمُقَرَّبُ

أدِّ الأمانَةَ، وَالخيانَةَ فاجْتَنِبْ

وَاعْدِلْ وَلا تَظْلِمْ يَطيبُ المَكْسَبُ

 

أحبتي.. من الأمانة حفظ الودائع و(أداء الأمانة) لأصحابها عندما يطلبونها كما هي، مثلما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم مع المُشركين، فقد كانوا يتركون ودائعهم عنده صلى الله عليه وسلم ليحفظها لهم، وليس هذا بغريبٍ؛ فهو الذي كانوا يُلقبونه بالصادق الأمين. وقد حثنا عليه الصلاة والسلام على رد الودائع إلى أصحابها؛ فقال: [مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا، أَدَّاهَا اللهُ عَنْهُ، وَمَنْ أَخَذَهَا يُرِيدُ إِتْلاَفَهَا، أَتْلَفَهُ اللهُ، عَزَّ وَجَلَّ].

اللهم اجعلنا من المُتقين، وممن يحفظون الأمانات ويؤدونها إلى أصحابها، واجعلنا اللهم من المُتعففين، الذين يردون ما عليهم من أماناتٍ، لا ينتظرون مُكافأةً من بشرٍ، ولا يرغبون في سُمعةٍ، بل خوفاً منك، وحرصاً على رضاك، وطمعاً في رضوانك.

https://bit.ly/4dQHJQ5