الجمعة، 26 يناير 2024

حفظ القرآن الكريم

 خاطرة الجمعة /431

الجمعة 26 يناير 2024م

(حفظ القرآن الكريم)

 

 

يقول أحدهم: كنتُ في «المدينة المنورة» وحان موعد صلاة الظهر، توضأتُ ونزلتُ إلى المسجد النبوي، فرأيتُ رجلاً سودانياً يُقال له «أبو مالك»، دائم البسمة، وجهه بشوشٌ يُشع نوراً، أحببته في الله بمجرد النظر إليه، صاحب همةٍ متوقدةٍ، يُقرئ القرآن ولا يَمَلُّ، فإذا ألقيتَ عليه السلام يرد السلام؛ ثم يُجْلِسُكَ بجواره ويقول: "اقرأ عَلَيَّ سورةَ الفاتحة"، يُصحح لك الأخطاء في التلاوة، فإذا فَرَغَ أخذ يدعو ويذكر ربه. سألته: "يا «أبا مالك» هل حدث معك موقفٌ أثَّر في نفسك؟ "، قال: "نعم يا أخي؛ ولن أنساه أبداً ما حَييتُ"، قلتُ: "حدثني ما هو؟"، قال: "جاءني منذ فترةٍ رجلٌ مُسنٌ في أول الثمانين من عُمره، وطلب مني أن أُحفّظَه كتاب الله، فقلتُ له: يا والدي؛ أنت مُسِنٌّ، وحِفْظُكَ صعب".. فقام غاضباً وقال لي: "لن أسامحك؛ وسأُحاجِجُك بهذه الكلمات أمام ربي، أريد لقاء الله وكلامه في صدري"، ثم قام؛ فناديتُ عليه وقلتُ له: "يا والدي على الرأس والعين؛ لك كل الوقت، لك كل ما تُريد؛ فرح الرجل المُسِن، وبدأتُ مشوار التحفيظ له، مَرَّةً يحفظ آيةً واحدةً فقط، ومرةً صفحة، ومرةً إذا حضر لا يحفظ شيئاً، لكنه كان لا ينقطع، وسبحان الله تمر السنوات والرجل لا تنقطع همته، حتى استطاع أن يحِفظَ القرآن كاملاً وكان عُمره وقتها قد ناهز 86 عاماً، وكعادة القُرَّاء بعد ختمه القرآن؛ قرأ سورة الناس ثم الفاتحة ثم أول خمس آياتٍ من سورة البقرة -كي لا تكون آخر ختمةٍ له- ثم سجد بعدها شكراً لله تعالى، كان يبكي فرحاً ويبتسم، فوالله لم يقم من سجدته، وفاضت روحه ومات الرجل في هذه السجدة. لم أدرِ وقتها؛ أأبكي فرحةً له، أم أبكي حسرةً على نفسي ولفراقي لجلساته؟".

أحبتي في الله.. يقول راوي القصة: "لله درُّ الرجل؛ كان ذا هِمَّةٍ متوقدةٍ، ذا صِدقٍ في رجائه ودعائه لله تعالى أن يلقاه وكلامه في صدره؛ فوضع الهدف نُصب عينيه، ولم يلتفت للمثبطين، حتى بلغ ما تمنى".

 

وهذه قصة همةٍ أخرى؛ كتبت «أم طه» الأردنية قصتها مع (حفظ القرآن الكريم) فقالت: "عُمري سبعون سنة، أعيش في مدينة «الزرقاء» وأعمل خيّاطة، كنتُ أميةً لا أقرأ ولا أكتب، ذات يومٍ طلبتُ من إحدى الفتيات اللواتي يترددن عليّ أن تُعلّمني كيفية كتابة لفظ الجلالة، وقلتُ لها أريد أن أتعلم اسم ربي كيف يُكتب؟ وبالفعل تعلمتُ وأصبحتُ أتتبع لفظ الجلالة في القرآن من أوله إلى آخره، أعجبتني الفكرة وأحسستُ بمشاعر عاليةٍ جداً؛ فطلبتُ من الأخت أن تُعلّمني الحروف، وتعلمتُ التهجي، والتحقتُ بمركزٍ لتحفيظ القرآن، وبدأتُ أقرأ بالتهجي من المصحف، واستمريتُ إلى أن ختمتُ قراءة القرآن كاملاً.. لم أصدق نفسي بعد كل هذا العمر أنني أصبحتُ قارئةً للقرآن؛ فأقمتُ حفلةً كبيرةً لجميع الأخوات بمناسبة انتهائي من قراءة القرآن، وأهدتني إحداهن كتاباً عن كيفية (حفظ القرآن الكريم)؛ ففجّر هذا الكتاب عندي الرغبة في الحفظ؛ حيث علمتُ من الكتاب أن من لديه الهمة يُمكن له أن يحفظ ولو كان فوق الأربعين؛ فبدأتُ الحفظ، وأحسستُ بسعادةٍ عجيبةٍ جداً، وأنا الآن قد حفظتُ القرآن الكريم كاملاً والحمد لله".

 

وها هي امرأةٌ أخرى لها قصةٌ مميزةٌ مع (حفظ القرآن الكريم)؛ إنها «أم أحمد» امرأةٌ في الخمسينات من عُمرها، ربة منزلٍ جل اهتماماتها المطبخ والأولاد وزوجها، سمعت يوماً بفتح مركزٍ لتحفيظ القرآن الكريم بالمسجد العتيق في البلدة، وبوجود مُحفظين سيشرحون كل ما يختص بالقرآن وتلاوته الصحيحة، ويقومون بالتحفيظ؛ عرضت «أم أحمد» على زوجها وأبنائها أن تبدأ في (حفظ القرآن الكريم) بالمسجد؛ فرحبوا بذلك؛ فحفظت في أوقاتٍ قياسيةٍ أجزاءً من القرآن، وقررت الذهاب إلى معهد القراءات لصقل معرفتها القرآنية بمعرفةٍ أكاديميةٍ أكثر شمولاً وعموماً، واستطاعت ختم القرآن، وأصبح القرآن الكريم أسلوب حياةٍ بالنسبة لها، فقررت فتح أحد المجالس لاستقبال الدعاة وللاجتماع والذِكر مع الأصدقاء، بعد ذلك شرعت في عمل مشروعٍ للحضانات الإسلامية وتطبيق بعض المناهج التي تُمكن الطفل من حفظ أكبر قدرٍ ممكن من الآيات والسور القرآنية، وأن يختم القرآن في السنة مرةً واحدةً على الأقل.

 

يقول الله -سبحانه وتعالى- في كتابه الكريم: ﴿بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾ والمقصود بعبارة ﴿آياتٌ بَيِّناتٌ﴾ القرآن الكريم، وفى الآية دعوةٌ للمسلمين إلى (حفظ القرآن الكريم) في الصدور، وليس في الكتب أو أية وسيلة حفظٍ أخرى فحسب. ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرآن لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾، وفي الآية دليلٌ على تسهيل الله القرآن للناس تلاوةً وحفظاً.

 

ويقول أهل العلم إن (حفظ القرآن الكريم) عبادةٌ يبتغي بها صاحبها وجه الله والثواب في الآخرة، وبغير هذه النية لن يكون له أجرٌ. كما يجب على حافظ القرآن ألا يقصد بحفظه تحصيل منافع دنيويةٍ لأن حفظه ليس سلعةً يُتاجر بها في الدنيا، بل هي عبادةٌ يُقدمها بين يدي ربِّه تبارك وتعالى.

ومع ذلك فإن من ثمرات (حفظ القرآن الكريم) في الدنيا أن الحافظ يُقدَّم على غيره في الصلاة إماماً؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يَؤُمُّ القَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللهِ]. كما أنه يُقدَّم على غيره في القبر في جهة القبلة إذا دُفن مع غيره؛ فقد كان النَّبي صلى الله عليه وسلم يجمع بين الرجلين من شهداء أُحد في ثوبٍ واحدٍ ثم يقول: [أيُّهُمْ أكْثَرُ أخْذًا لِلْقُرْآنِ؟] فإذا أُشير له إلى أحدهما قدَّمه في اللحد. ويرفع الله -سبحانه وتعالى- حافظ القرآن عن غيره فيما يشاء من مجالاتٍ؛ قال صلى الله عليه وسلم: [إنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بهذا الكِتَابِ أَقْوَامًا، وَيَضَعُ به آخَرِينَ].

ومن ثمرات (حفظ القرآن الكريم) في الآخرة أن منزلة الحافظ تكون عند آخر آيةٍ كان يحفظها؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: [يُقالُ لصاحِبِ القرآنِ اقرأ وارتَقِ ورتِّل كما كنتَ ترتِّلُ في الدُّنيا فإنَّ منزلَكَ عندَ آخرِ آيةٍ تقرؤُها]، ومعنى القراءة هنا: الحفظ. كما أنه يكون مع الملائكة رفيقاً لهم في منازلهم؛ قال عليه الصلاة والسلام: [مَثَلُ الذي يَقْرَأُ القُرْآنَ وهو حافِظٌ له، مع السَّفَرَةِ الكِرامِ البَرَرَةِ]. وأنه يَشفع فيه القرآن عند ربِّه؛ قال صلى الله عليه وسلم: [اقْرَؤُوا القُرْآنَ فإنَّه يَأْتي يَومَ القِيامَةِ شَفِيعًا لأَصْحابِهِ]. وأنه يُلبَس تاج الكرامة وحُلة الكرامة؛ قال عليه الصلاة والسلام: [يَجيءُ القرآنُ يومَ القيامةِ فيَقولُ: يا ربِّ حلِّهِ، فَيلبسُ تاجَ الكَرامةِ، ثمَّ يقولُ: يا رَبِّ زِدهُ، فيلبسُ حلَّةَ الكرامةِ، ثمَّ يقولُ: يا ربِّ ارضَ عنهُ، فيقالُ لَهُ: اقرأْ وارْقَ، وتزادُ بِكُلِّ آيةٍ حسنةً]. كما يُلبَس تاج الوقار، ويُكسى والداه حلتين لا مثيل لهما في الدنيا؛ قال صلى الله عليه وسلم: [وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْوَقَارِ، وَيُكْسَى وَالِدَاهُ حُلَّتَيْنِ لَا يُقَوَّمُ لَهُمَا أَهْلُ الدُّنْيَا، فَيَقُولَانِ: بِمَ كُسِينَا هَذِهِ؟ فَيُقَالُ: بِأَخْذِ وَلَدِكُمَا الْقُرْآنَ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: اقْرَأْ وَاصْعَدْ فِي دَرَجَةِ الْجَنَّةِ وَغُرَفِهَا، فَهُوَ فِي صُعُودٍ، مَا دَامَ يَقْرَأُ هَذًّا كَانَ أَوْ تَرْتِيلًا]. ويكون حفظ القرآن والعمل بما فيه سبباً في إلباس والدي حافظ القرآن تاجاً يوم القيامة؛ قال عليه الصلاة والسلام: [مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَعَمِلَ بِمَا فِيهِ، أُلْبِسَ وَالِدَاهُ تَاجًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ضَوْءُهُ أَحْسَنُ مِنْ ضَوْءِ الشَّمْسِ فِي بُيُوتِ الدُّنْيَا].

 

أما العارفون من أصحاب الخبرة فيقولون إن القرآن يجب أن يبدأ بالتلقين؛ وهذا يستوجب أن يكون الحفظ عند مُحفظٍ حاصلٍ على الإجازة، لكي يقوم بتصحيح الأخطاء ومخارج الحروف وطريقة التلاوة ونُطق الكلمات؛ حتى يتم الحفظ بصورةٍ سليمة. وتكون البداية بالنية الصادقة، ثم وضع خطةٍ ذات أهدافٍ واضحةٍ، بها مواعيد محددةٌ لإكمال حفظ أجزاء القرآن وسوره، والالتزام بتنفيذها. ولابد من اختيار مُصحفٍ مُحددٍ طوال مدة الحفظ؛ حتى لا يتغير شكل ترتيب الآيات والكلمات ما بين الخريطة الذهنية الخاصة بالحافظ وتلك الموجودة في المُصحف. ويجب اختيار أفضل المواعيد التي يتوفر بها الهدوء والنقاء والصفاء الذهني؛ حتى يسهل الحفظ، وأفضل أوقات الحفظ -كما أجمع العلماء- بعد صلاة الفجر. كما أن اختيار الصحبة الطيبة يُعين على شحذ الهمم وعدم النكوص أو الكسل.

 

قال الشاعر:

قَد نلتَ يا حامِلَ القُرآنِ مَنزِلةً

تَبقى عَلى الدَهرِ للأسْلافِ تِذكارا

قَد خَصكَ اللهُ بالخَيْراتِ والمِننِ

إذ كُنتَ مِمَن لِحِفظِ الآيِ مُخْتارا

وقال آخر:

طوبى لِمَن حَفِظَ الكِتابَ بِصَدْرِه

فَبَدا وَضيئاً كالنُجومِ تَألَقا

وَتَلاهُ في جُنحِْ الدُجى مُتَدَبِراً

وَالدَمْعُ مِنْ بَيْنِ الجُفونِ تَرَقْرَقا

هَذي صِفاتُ الحافِظينَ كِتابَهُ حَقاً

فَكُنْ بِصِفاتِهِم مُتَخَلِقا

 

أحبتي..

أختم بما ختم به راوي القصة الأولى؛ كتب يقول: "وسائل التحفيظ منتشرةٌ بفضل الله، ومتوفرةٌ بكل مكانٍ، فلِمَ الغفلة والزهد في هذا الأمر؟! سلْ نفسك كم ساعةً وكم دقيقةً تضيع منك في اليوم على مواقع التواصل الاجتماعي وعلى تصفح الإنترنت؟ وكم ساعةً أخرى تضيع في لا شيء؟ اُدعُ ربك واستعن به سبحانه، وتوكل عليه، وسله صادقاً ألا يُميتك إلا والقرآن في صدرك؛ فهو والله خيرٌ عظيمٌ وفضلٌ لا يكون إلا لمن اصطفى من عباده؛ فابدأ من الآن".

اللهم أعنّا على حفظ كتابك الكريم في صدورنا، ويَسّر لنا ذلك؛ فأنت سبحانك على كل شيءٍ قدير.

 

https://bit.ly/3HyXVX3