الجمعة، 17 فبراير 2023

حِب لأخيك ما تُحب لنفسك

 

خاطرة الجمعة /383


الجمعة 17 فبراير 2023م

(حِب لأخيك ما تُحب لنفسك)

 

تحكي امرأةٌ حكايتها فتقول: تزوجتُ من رجلٍ صالحٍ عشتُ معه حياةً سعيدةً، رزقتُ منه بثلاثة أطفالٍ، نسكن بمدينةٍ وأهل زوجي يسكنون بمدينةٍ أخرى. وفي يومٍ من اﻷيام وقع حادثٌ مؤلمٌ ﻷهل زوجي؛ توفي أبوه وإخوته، وبقيت أُمه وواحدةٌ من أخواته أُصيبت بإعاقة. كان الحزن يُخيّم على الجميع. مرت اﻷيام، وبدأ الحُزن يتلاشى كعادة البشر، ولكن الهم أصبح مُلازماً لزوجي، يشعر بمسؤوليته التامة عن أُمه وأخته، طلب مني أن تسكنا معنا وأن نراعي أخته المُعاقة ﻷن والدته أصبحت كبيرةً في السن، ضاقت بي الدنيا بما رحبت واعترضتُ؛ فقال: "سوف تُنهي أُختي علاجها، ربما بعد سنةٍ، ثم تسكن معنا؛ فليس لها بعد الله إلا أنا". عشنا أيام نكدٍ كلما أتذكر أنهما ستعيشان معي أتضايق وأفكر؛ كيف آخذ راحتي؟ كيف تكون لي خُصوصية؟ كيف يزورني أهلي؟ وكلما قرب الموعد زادت هواجسي وزاد النكد مني لزوجي، وبعد سنةٍ أراد الله أن يستمر علاج أخت زوجي سنةً أخرى؛ لم أشعر بالفرح ﻷنني سأظل أترقب وتزول كل سعادةٍ تلوح لي.

لكن حصل ما لم يكن بالحُسبان، حصل ما لم يخطر لي على بال؛ فقد تُوفي زوجي إثر حادثٍ أليمٍ؛ مما جعلني -مرغمةً- أحمل حقائبي وأولادي لأعيش مع أم زوجي وابنتها، وأقوم أنا وأولادي بخدمتهما، نادمةً على عدم حبي لهما ما كنتُ أحب لنفسي لو أني كنتُ مكانهما. كم من اﻷيام حرمتُ نفسي وزوجي السعادة خوفاً من أن تعيشا معي؟ فأصبحتُ أنا من أعيش معهما، كم يوماً تألم قلب زوجي من كلامي وعتابي؟ وها هو يرحل ويتركنا مع أُمه كبيرة السن، وأُخته التي كان قلقاً ومُشفقاً على مُستقبلها.

‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‏

أحبتي في الله.. ذكّرتني هذه القصة بأخرى مشابهةٍ لها مع اختلاف التفاصيل؛ تقول القصة: في جلسةٍ عائليةٍ هادئةٍ قال الزوج لزوجته: "لقد اشتقتُ لأهلي وإخوتي وأولادهم؛ أرجو منك أن تُعدّي غداً طعام الغداء، وسأقوم بدعوتهم اليوم؛ منذ زمنٍ بعيدٍ لم نجتمع"، فقالت الزوجة بتأففٍ: "إن شاء الله يصير خير"، فقال الزوج: "سأقوم إذاً بدعوتهم". في صباح اليوم التالي ذهب الزوج إلى عمله، وفي الساعة الواحدة حضر إلى المنزل وسأل زوجته: "هل أعددتِ طعام الغداء؟ سيحضر أهلي بعد ساعة"، قالت الزوجة: "لا، لم أطبخ؛ لأنّ أهلك ليسوا غُرباء، ويأكلون من الموجود بالبيت"، قال الزوج: "الله يُسامحك، لماذا لم تقولي لي أمس أنك لن تطبخي؟ سيصلون بعد ساعةٍ، ماذا أفعل؟"، قالت الزوجة: "اتصل بهم واعتذر لهم، لا شيء في ذلك؛ هم ليسوا غُرباء، إنهم أهلك". خرج الزوج من المنزل غاضباً، وبعد عدة دقائق إذا بباب المنزل يُطرَق، قامت الزوجة وفتحت الباب، وتفاجأت بأن أهلها وإخوتها وأخواتها وأولادهم يدخلون البيت! سألها أبوها: "أين زوجك؟"، فقالت له: "خرج قبل قليل"، فقال أبوها: "لقد قام زوجك البارحة بدعوتنا إلى طعام الغداء اليوم عندكم، هل من المعقول أن يعزمنا ويغادر المنزل؟!". صُعقت الزوجة بالخبر، وصارت في حيرةٍ من أمرها؛ فإن الطعام الموجود في المنزل لا يليق بأهلها. اتصلت بزوجها وسألته: "لماذا لم تُخبرني بأنك عزمتَ أهلي على الغداء؟"، فقال لها: "أهلي وأهلك لا فرق بينهم"، فقالت له: "أرجوك أن تُحضر معك طعاماً جاهزاً؛ لا يوجد في البيت طعام"، فقال الزوج: "أنا الآن بعيدٌ عن البيت، وهؤلاء أهلك، ليسوا غرباء؛ قدمي لهم الطعام الموجود في البيت!".

 

الدرس المُستفاد من هاتين القصتين هو أن الزوجة في كلتا الحالتين لم تُفكر إلا في نفسها، ولم تلتزم بقاعدة (حِب لأخيك ما تُحب لنفسك)؛ ولو كانت التزمت بها لكان خيراً لها؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾، ويقول سبحانه: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾، ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾.

 

وعندما سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أفضل الإيمان قال: [أَفْضَلُ الْإِيمَانِ أَنْ تُحِبَّ للِه، وَتُبْغِضَ فِي اللهِ، وَتُعْمِلَ لِسَانَكَ فِي ذِكْرِ اللهِ] قيل: وماذا يا رسول الله؟ قال: [وَأَنْ تُحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ، وَتَكْرَهَ لَهُمْ مَا تَكْرَهُ لِنَفْسِكَ، وَأَنْ تَقُولَ خَيْرًا أَوْ تَصْمُتَ].

وقال عليه الصلاة والسلام: [... فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ، وَيُدْخَلَ الْجَنَّةَ، فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ]. "وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ": أَي ليؤدِّ إِلَيْهِم، وَيفْعل بهم، مَا يُحب أَن يفعل بِهِ. وقال صلى الله عليه وسلم: [لَا يُؤْمِنُ أحَدُكُمْ، حتَّى يُحِبَّ لأخِيهِ ما يُحِبُّ لِنَفْسِهِ]. كما قال: [...وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ تَكُنْ مُسْلِمًا...]. وسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد الصحابة: [أَتُحِبُّ الْجَنّةَ؟] قال: نعم، قال: [فَأَحِبَّ لِأَخِيكَ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ].

يقول أهل العلم إنه مما يُستفاد من هذه الأحاديث: الحث على محبة الخير للغير، وتقوية الروابط بين الناس، وأنّ من خصال الإيمان أن يُحب الإنسان لأخيه ما يُحب لنفسه، بل إنّ الإيمان لا يكمل حتى يُحب المُسلم لأخيه ما يُحب لنفسه من الخير؛ لأن هذا مُقتضى الأُخوة الإيمانية. كما أن الإيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وفعل الخيرات، وينقص بالمعصية، وأنّ من الإيمان أن يُبغِض المُسلم لأخيه ما يُبغِض لنفسه من الشر.

إن هذه الأحاديث تقرر حقيقةً فطريةً؛ أنَّ الإنسان يحبُّ الخير لنفسه، وعليه أن يرتقي ويتسامى فيُضيف إلى جانب ذلك حبَّ الخير للآخرين، وهي تُرَغِّبُ فيه فتَعدَّه من كمال الإيمان، وتُقرر أصلاً من أصول رُقيّ المجتمع وسعادته: وهو قاعدة (حِب لأخيك ما تُحب لنفسك) أي أن تُساعد غيرك في بحثه عن سعادته أثناء بحثك عن سعادتك، وبذلك سيجد كل فردٍ في المجتمع من يُساعده في بحثه عن سعادته.

قال العلماء إنّ الإسلام حرص بتعاليمه وشرائعه على تنظيم علاقة الناس بربهم تبارك وتعالى، حتى ينالوا السعادة في الدنيا والآخرة، وفي الوقت ذاته شرع لهم ما يُنظم علاقتهم بعضهم ببعض؛ حتى تسود الألفة والمحبة في المجتمع المسلم، ولا يتحقق ذلك إلا إذا حرص كل فردٍ من أفراده على مصلحة غيره حرصه على مصلحته الشخصية، وبذلك ينشأ المجتمع الإسلامي قويّ الروابط، متين الأساس.

 

قال الشاعر:

الناسُ بالناسِ مادام الحياءُ بهم

والسعدُ لا شكَ تاراتٌ وهباتُ

وأفضلُ الناسِ ما بين الورى رجلٌ

تُقضى على يده للناسِ حاجاتُ

لا تمنعنَ يدَ المعروفِ عن أحدٍ

ما دمتَ مُقتدراً والعيشُ جناتُ

قد ماتَ قومٌ وما ماتت مكارمهم

وعاشَ قومٌ وهُم في الناسِ أمواتُ

 

أحبتي.. لتكن قاعدة (حِب لأخيك ما تُحب لنفسك) أساساً لمُعاملاتنا مع الناس؛ فلا نأتيهم إلا بما نُحب أن يؤتى إلينا؛ فنُعاملهم باللُطف واللين وحُسن الكلام، ولا نكذب عليهم، ولا نغشهم، ولا نخدعهم، ولا نُحب لهم الشر؛ فهذا الذي يُزحزِح عن النار ويُدخِل الجنة. ولنجعل هذه القاعدة نبراساً لنا عند تعاملنا مع مَن نعرف ومَن لا نعرف، مع المُسلم ومع غير المُسلم، مع الصغير ومع الكبير؛ فتعم السعادة الجميع وتغشى المحبة قلوب العباد.

اللهم اجعلنا ممن يُشيعون المحبة والسلام والسعادة بين الناس، وحبِّب إلينا حُب الخير للآخرين؛ فأنت سبحانك على كل شيءٍ قدير.

https://bit.ly/3lFS8au