الجمعة، 11 فبراير 2022

مودةٌ ورحمةٌ

 

خاطرة الجمعة /330


الجمعة 11 فبراير 2022م

(مودةٌ ورحمةٌ)

 

في أحد الأيام دخل طبيبٌ إلى عيادته في الساعة العاشرة صباحاً، ودخل رجلٌ عجوزٌ تجاوز السبعين من عمره، جاء لإزالة بعض الغرز من إصبع قدمه المُصاب، كان العجوز متعجلاً من أمره فقال للطبيب: "أرجوك أيها الطبيب فك الغرز سريعاً؛ فلديّ موعدٌ هامٌ في العاشرة والنصف"، تساءل الطبيب في نفسه متعجباً، ماذا يمكن أن يكون موعد العجوز المسن؟ وأين سيذهب؟ فسأل الطبيب الرجل بفضولٍ شديدٍ: "أين ستذهب يا أبي في هذا الوقت؟"، ابتسم العجوز قائلاً: "سوف أذهب لأتناول طعام الإفطار مع زوجتي العزيزة في دار المسنين يا بُني". اندهش الطبيب وسأل الرجل: "كيف تضع زوجتك في دار مسنين؟"، فرد العجوز: "هي مصابةٌ بمرض الزهايمر؛ ولا تستطيع تذكر أي شيءٍ"، فقال الطبيب: "وهل تغضب زوجتك إذا تأخرتَ عنها يا أبي؟"، رد العجوز من بين دموعه: "هي لم تعد تتذكرني يا ولدي منذ سنواتٍ كثيرةٍ، ولا تعرف من أكون"، تعجب الطبيب بشدةٍ وقال: "وإن كانت زوجتك لا تتذكرك ولن تغضب منك إذا تأخرتَ؛ فلماذا تُتعب نفسك وتذهب إليها كل يومٍ بدار المسنين؟"، قال العجوز وهو يبتسم: "يا ولدي هي لم تعد تتذكرني، لكنني لا زلتُ أتذكرها وأحبها؛ فلن أنسى سنوات عمرنا التي قضيناها معاً وذكرياتنا الكثيرة وأيامنا الجميلة التي مضت". بكى العجوز بحُرقةٍ، ثم رحل ليلحق موعده مع زوجته.

 

أحبتي في الله .. إنها (مودةٌ ورحمةٌ) بين زوجين عاشا معاً الحياة بحُلوها ومُرّها، جعلها المولى عزَّ وجلَّ بين الأزواج لتكون مفتاحاً لكل خيرٍ، وسبباً لكل سعادةٍ، وباباً يُفضي إلى السكينة؛ يقول تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾. ومن أفضل ما قيل عن هذه الآية الكريمة إنها تتضمّن آيةً من آيات الله الكونيّة، وهي أنّ الله تعالى قد جعل الزَّواج سكناً، وجعل بين الزَّوجين -مهما تباعدا في النَّسب- مودةً ورحمةً؛ وبالتالي فإنّ الشِّقاق بين الزَّوجين -إن حدث- هو خلافُ الأصل، لابد أن يُعالج؛ إذ أن كلَّ واحدٍ من الزوجين يعلم وقتها أنه قد خرج عن الأصل الَّذي تُبنى عليه العلاقة الزوجية؛ فإنّ فقدان المودَّة والرَّحمة، أو ضعفهما وعدم السَّكن والاستقرار، داءٌ ينبغي معرفة سببه؛ ليتيسَّر علاجه، فليقف الزوجان وقفةً متأمّلةً، عند هذه الآية الكريمة، ويجتهدان في النظر إلى مسار حياتهما ليعرفا سبب العلّة والداء، ومن ثمّ يتطلّعان إلى معرفة الشفاء والدواء، والعودة إلى حال الصِّحَّة والعافية.

 

إنّ أعظم صور المودة والرحمة تتجلى في الوفاء من الزوج لزوجته ومن الزوجة لزوجها. وعن هذا الوفاء اطلعتُ على قصةٍ قصيرةٍ يقول صاحبها: مرت عدة أشهرٍ على زواجي، وزوجتي الآن نائمةٌ بجانبي، وأنا أتابع التلفاز، فجأة اهتز هاتفي، نظرتُ إلى شاشته فإذا بي أجد هذه الرسالة "أنا فلانة، سمعتُ أنك تزوجتَ لكني ما زلتُ مشتاقةً لك"، إنها صديقةٌ قديمةٌ؛ فتاةٌ جميلةٌ وأنيقةٌ. أغلقتُ الرسالة ونظرتُ إلى زوجتي فإذا هي في سُباتٍ عميقٍ من تعب النهار وأعراض الحمل، تأملتها كثيراً، وفي رأسي أكثر من سؤال: مَن أعطاها هذا الأمان لتنام بهذا النوم العميق في بيتٍ جديدٍ عنها بعيدةً عن بيتها الذي قضت فيه ستاً وعشرين سنةً، وأهلها الذين نشأت بينهم؟ ما الذي جعلها تترك كل شيء وتأتي معي لبيتٍ جديدٍ عنها لتهتم بي؛ تطبخ وتغسل وتسهر على راحتي؟ بل وفوق هذا هي الآن نائمةٌ مطمئنةٌ وواثقةٌ أنها بجانب رجلٍ يتكفل بحراستها؛ فأمسكتُ هاتفي وقمتُ بحظر صاحبة الرسالة، والتفتُ إلى زوجتي، ونمتُ بجانبها؛ فأنا رجلٌ لا أخون زوجتي التي وثقت بي، وتركتْ أهلها وبيتها وإخوتها من أجلي، لن أُدمر عائلتي، ﴿إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾.

 

وهذا رجلٌ نبيلٌ لم يتفق مع زوجته فذهب ليطلقها؛ فسألوه عن سبب طلاقها فقال: "لا أتحدث عن زوجتي بما يسوؤها ولا أفشي سراً لها". وبعد أن طلقها قالوا له: "الآن طلقتها، فأخبرنا عن سبب طلاقك لها"؛ فقال: "لا يحل لي أن أتكلم عن امرأةٍ صارت أجنبيةً عني". إنها أخلاق الرجال عندما تتأصل في نفوسهم قيم النبل والوفاء، كأني به وقد امتثل لقول الله سبحانه وتعالى: ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾.

 

الوفاء -يقول أحدهم- ليس محصوراً في الأساطير، ولا في القصص النادرة التي تُحكى، إنه سلوكٌ يحملنا على الامتنان للناس الذين قضوا معنا جُزءاً طيباً من حياتنا، فنذكرهم بالخير، ونُثني عليهم بما هُم أهله، وننسى ما نُظنه إساءةً أو خطأً في حقنا، ونتذكر معهم قول الله تعالى: ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ﴾. الحياة الزوجية ليست شراكةً اقتصاديةً تقوم على الكسب، ولا رفقةَ سفرٍ عابرٍ، إنها امتزاجُ روحٍ بروح، ودمٍ بدم، هي مستقبلٌ واحدٌ، وأسرةٌ واحدةٌ، ويا لجمال التعبير القرآني حين يصف عقد الزواج بـ "الميثاق الغليظ"، والسياق يجعل الميثاق هنا لصالح المرأة، وأنها أخذته من الرجل ﴿وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا﴾. وحين يُعبر عن الزوجية بأنها سكنٌ و(مودةٌ ورحمةٌ) هنا لم يذكر الجانب المادي البتة. الوفاء خُلُقٌ إنسانيٌ رفيعٌ، ومعنىً شريفٌ، وعلاقةٌ جميلةٌ، لن تأتي حينما نقتصر على انتظارها من الآخرين، أو حين نلومهم على التفريط فيها، إنما تأتي حينما نرمي بسهمنا فيها، ونبدأ بصياغة حروفها الأولى؛ ليجد الشريك الآخر نفسه منساقاً طوعاً إلى مجازاة الجميل بالجميل، ومقابلة الحُسنى بالحُسنى، وكلما عرض عارضٌ بقطع حبل الود استدعى الوفاء ساعات الصفاء وتناسى الجفاء. وإذا الحبيب أتى بذنبٍ واحدٍ؛ جاءت محاسنه بألف شفيع. صحبة الزوجين تعني رصيداً عاطفياً يكبر مع الزمن، تعني شجرةً تمتد أغصانها وتبسق، وتضرب جذورها في أعماق التربة، وليست صلةً مصلحيةً آنيةً تزول بمرور الزمن، ولا شجرةً سريعةَ الذبول يجتثها صاحبها ليغرس بدلاً منها غيرها دون تردد. أليس لنا في رسول الله محمد -صلى الله عليه وسلم- أسوةٌ حسنةٌ؟ لقد ظل وفياً للسيدة خديجة -رضي الله عنها- حتى غارت منها السيدة عائشة -رضي الله عنها- وقالت: "أبدلك الله خيراً منها"، فقال عليه الصلاة والسلام: [ما أبدَلَني اللهُ عزَّ وجلَّ خَيرًا منها، قد آمَنَتْ بي إذ كفَرَ بي الناسُ، وصدَّقَتْني إذ كذَّبَني الناسُ، وواسَتْني بمالِها إذ حرَمَني الناسُ، ورزَقَني اللهُ عزَّ وجلَّ ولَدَها إذ حرَمَني أولادَ النِّساءِ]. الحياة الزوجية أخذٌ وعطاءٌ، فهي تصالحٌ وتسامحٌ، وإعراضٌ وإغماضٌ، وتراحمٌ وتلاحمٌ. والحب والوفاء والمروءة والمودة والرحمة والإيثار هي الأُسس التي تطيب معها النفوس، وتحلو بها الحياة.

 

وفي وصفةٍ سحريةٍ للسعادة الزوجية التي قوامها (مودةٌ ورحمةٌ) بين الزوجين كتب أحدهم: خلق الله تعالى آدم عليه السلام من التراب، ثم خلق حواء من ضلعه، فحواء بهذا المفهوم هي جزءٌ من آدم، والجزء مفطورٌ على أن يتبع الكُل، والكُل مفطورٌ على أن يقود الجزء؛ فالرجل قائد المرأة لا سيدها، والمرأة تعيش في كنفه وليست أمَته، لم تكن القضية يوماً من يُسيطر على من؟ ولا من يُلغي من؟ القضية كانت دوماً في أن يحنو الكُلّ على جزئه، وأن يحتمي البعض بكُلّه. وحين فطر الله الرجل ليكون قوّاماً، هذا يعني أنه جعل المرأة إحدى مسؤولياته، لا إحدى ممتلكاته! وحين فطر المرأة لتعيش في كنف الرجل، فلأنه فطره أولاً أن يُحب رقتها، ويستعذب لجوءها إليه، لجوءٌ أنثويٌ تُمارس فيه المرأة فطرتها دون أن تشعر أن إنسانيتها تُمتهن، إنها الطريقة المتقنة التي أبدعها الله لتستمر الخليقة؛ فالرجل حين يتصرف على أساس أنه يحمي امرأته ويعطف عليها، لا يشعر أنه يتصدق عليها بقدر ما يشعر أنه يحقق رجولته. والمرأة حين تعيش رقيقةً في كنف رجُلها، لا تشعر أنها تابعةٌ له، بقدر ما تشعر أنها تحقق أنوثتها. هناك بيوتٌ كثيرةٌ تقود فيها النساء الرجال، اسألوهن هل هنّ سعيدات؟ سيخبركن أنهن يشتهين رجلاً يُمسك زمام الأمور مكانهن، لأنهن يمارسن وظيفة غير التي خُلقن لها، ويلعبن دوراً خارج السيناريو المكتوب بإتقان. أحياناً تُضطر المرأة أن تسد مكان الرجل، ولكنها تفعل ذلك من باب الاضطرار لا من باب الرغبة، لو كان الأمر إليها ما اختارت أن تلعب دوراً غير ذلك الذي خُلقت له. اسألوا النساء اللواتي يظهرن على أنهن يتصرفن كيف شئن وكيف يشعرن، ستخبركن كل واحدةٍ منهن أنها تشتهي رجلاً يغار عليها. ستحدثكم أنها تبيع الدنيا لأجل رجلٍ قد يرتكب جريمةً إذا حاول أحدٌ أن يمسّ شعرةً من رأسها. ستحدثكم كم تتمنى أن يهديها رجلٌ يحبها هديةً رغم أن بإمكانها أن تشتري ما تريد. الأشياء البسيطة التي لا تأبهون بها ثروةٌ في عيون النساء، لأنهن خُلقن أن يسعدن بالقليل. اسألوا النساء عن رجلٍ يضع يده في يدها ليعبر بها الطريق، رغم أنها تستطيع أن تعبره وحدها. اسألوا النساء عن رجلٍ يضع يده على جبينها يتحسس حرارتها حين تمرض، رغم أن عندها ميزان حرارة. اسألوا النساء عن رجلٍ يهديها وردةً، رغم أن لديها حديقة. اسألوا النساء عن رجلٍ يخلع معطفه ويلبسها إياه في يومٍ ماطرٍ، رغم أنها لا تشعر بالبرد. اسألوا امرأةً عن رجلٍ يكتب لها أحبك دون مناسبة، رغم أن لديها مئة ديوان شعر. اسألوا امرأةً عن رجلٍ يُعدّ لها كوب عصيرٍ، رغم أن عندها خادمة. هؤلاء الرجال لا يُسعدون النساء فقط، هؤلاء يُحلقون بهن إلى السماء، لأن الجزء فيه جوعٌ لاهتمام كُلّه به. أخيراً، ليتذكر كل زوجٍ أمر الله له، والذي تدوم به السعادة الزوجية؛ يقول تعالى: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾.

 

أحبتي .. أختم بآيةٍ كريمةٍ وحديثين من الأحاديث الشريفة؛ أما الآية فأوجهها إلى كلا الطرفين، الزوج والزوجة؛ يقول تعالى: ﴿وَلَا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾. والحديث الأول أوجهه لكل زوجٍ؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: [اسْتَوْصُوا بالنِّساءِ خَيْرًا]، وأما الثاني فأوجهه إلى كل زوجةٍ؛ قال عليه الصلاة والسلام: [لَا يَصْلُحُ لِبَشَرٍ أَنْ يَسْجُدَ لِبَشَرٍ، وَلَوْ صَلَحَ لِبَشَرٍ أَنْ يَسْجُدَ لِبَشَرٍ، لَأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا، مِنْ عِظَمِ حَقِّهِ عَلَيْهَا].

اللهم أصلح ذات بيننا، واجعل اللهم في كل بيتٍ من بيوتنا سكناً وسَكينةً، ومحبةً ووفاءً، واكتب لأسرنا أن تسودها (مودةٌ ورحمةٌ) لتتحقق السعادة الزوجية ويعم الوئام والانسجام؛ فينشأ أبناؤنا في بيئةٍ إسلاميةٍ صحيحةٍ يتعودون فيها من صغرهم على الحب والتعاطف والإيثار والوفاء.

https://bit.ly/3Bf0lGk