الجمعة، 4 أكتوبر 2019

فتنة المال


الجمعة 4 أكتوبر 2019م

خاطرة الجمعة /٢٠٧
(فتنة المال)

كان أغنى رجلٍ عربيٍ على الإطلاق، وكان يُلقب بقارون العصر؛ كان يسكن في قصرٍ معلقٍ يتكون من أربعة طوابق في ناطحة سحاب. أجرى معه أحد الصحافيين مقابلةً قبل ثلاثين سنة، وكان مذهولاً بما رآه في بيت هذا الثري من البذخ والتقنية الحديثة السابقة لعصرها وأوانها، والتي لم يرَ مثلها في قصور الأمراء والملوك والرؤساء الذين قابلهم من قبل؛ فقد كان كل شيءٍ في بيته يعمل بالريموت. تاجر هذا الملياردير في السلاح وله عدة صفقات أسلحةٍ مشهورة. تزوج بزوجته الأولى ثم طلقها مقابل تعويضٍ قدره 548 مليون جنيه استرليني. كان لديه يختٌ من أكبر اليخوت؛ على سطحه مطارٌ يتسع لهبوط أربع طائرات، ولديه 610 ملّاحاً وخادماً.
اشتهت ابنته ذات يومٍ لآيسكريم من باريس، وشوكولاتة من جنيف، فأقلعت طائرته الخاصة بكامل طاقمها في رحلةٍ لمدة سبع ساعاتٍ لجلب الآيسكريم والشوكولاتة! كل هذه الثروة والأموال الطائلة كان يوزعها على نفسه وأهله فقط، ويستنكف أن يساعد فقيراً أو مسكيناً أو مريضاً أو محتاجاً، بل ويبخل حتى على عُمّاله الفقراء وخدمه المحتاجين. وكان يردد عبارته الشهيرة: "أنا لستُ وكيل آدم على ذريته".
أفلس في آخر عمره إفلاساً عجيباً، وأصبح فقيراً كأي إنسانٍ مغلوبٍ على أمره. ويُقال إن رجلاً مغترباً كان يعمل خادماً عنده دعا عليه حين احتاج مبلغاً من المال ليرسله لأهله في بلاده لعلاج زوجته المريضة؛ فذهب وطلب المبلغ من الملياردير كمساعدةٍ أو قرضٍ يتم تقسيطه من راتبه الشهري، فوبّخهُ الملياردير وأذلهُ، وطرده من قصره ليلاً شرّ طردة؛ فقال له الخادم مقهوراً: "أسأل الله العلي العظيم ألا يميتني حتى أراك ذليلاً تمدّ يدك للناس"، فغضب الملياردير من هذه الدعوة وقام بفصل العامل وطرده من العمل. ولما افتقر هذا الملياردير قيّض الله له أحد رجال الأعمال الكبار في بلده فاشترى له تذكرةً سياحيةً للسفر إلى بلدٍ آخر، وأعطاه مبلغاً من المال لاستئجار شقة، وقال له: "أنا لم أتفضل عليك، ولكن الله أمرني أن أدفع لك، وكل شهرٍ سيأتيك مصروفك مني محولاً على البنك". وذات يومٍ وهو في البلد الغريب سألته زوجته عن أسوأ لحظةٍ مرّت به في حياته؛ فحكى لها قصته مع خادمه الذي أذله وطرده فدعا عليه، ثم قصته مع رجل الأعمال الذي اشترى له تذكرة السفر وساعده بالمال، ثم قال: "وقبل سفري ذهبتُ إلى رجل الأعمال لاستلام المال الذي وعدني به، فاتصل بأحد العاملين لديه ليحضر لي المال؛ فكانت أسوأ لحظةٍ عشتها في حياتي عندما دخل العامل الذي أعطاني المال؛ فقد كان خادمي الذي طردته وفصلته من العمل!! وقد نظر إليّ مذهولاً مفزوعاً عندما رآني وكأنه لا يصدّق ما يرى، ورأيته خرج وعيناه مبللةٌ بالدموع".

أحبتي في الله .. لأن هذا الملياردير قد صار الآن بين يدي ربه، فنحن لا نحكم عليه بالكلية، ولا على جميع تصرفاته، وإنما نحكم فقط على موقفٍ واحدٍ من مواقفه، فلا يعلم إلا الله سبحانه وتعالى على أيحالٍ مات؛ فعسى أن يكون اعتبر واتعظ مما حدث معه وما آل إليه حاله فتاب وأناب قبل موته؛ فأحسن الله إليه وبدَّل سيئاته حسنات. ثم من أدرانا عن الوجه الآخر له، ربما عَمِل عَمَل خيرٍ واحداً استحق عليه غفران الله كما غفر سبحانه وتعالى لبغيٍ من بغايا بني إسرائيل حينما سقت كلباً كاد يقتله العطش.
وللعبرة فإن موقف هذا الملياردير من خادمه يذكرني بالآية الكريمة: ﴿قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ﴾، وكأني به يقول عن ماله كما قال قارون: ﴿إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي﴾، فيكون قد سقط في الابتلاء، ولم ينجُ من (فتنة المال).
وأتصور أن الكثير من الناس كانوا -وهم يطالعون أخبار هذا الرجل- يقولون كما قال الذين يريدون الحياة الدنيا عندما رأوا قارون في زينته: ﴿يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾.
وكأني بالعامل المغترب الذي أذله ذلك الرجل وأهانه وطرده شر طردة يتمثل قول المولى عزَّ وجلَّ: ﴿لَّا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا﴾، ويتمثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: [ثلاثة لا تُرَدُّ دَعْوَتُهُمْ الإِمَامُ الْعَادِلُ، وَالصَّائِمُ حِينَ يُفْطِرُ، وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ يَرْفَعُهَا فَوْقَ الْغَمَامِ وَتُفَتَّحُ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَيَقُولُ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ وَعِزَّتِي لأَنْصُرَنَّكِ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ].
يقول أهل العلم عما ورد بالآية الكريمة على لسان قارون: ﴿إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي﴾ إن فعل "أوتيته" مبنيٌ للمجهول، أي أن قارون أغفل عن عمدٍ ذِكر الفاعل، ولم يُرد أن يعترف أن الله هو الذي أنعم عليه بهذا المال، بل ادعى أنه عليمٌ يعرف كيف يكسب المال، وكيف يستثمره، وأنه قد كسبه بعلمه وبجهده، وأنه حرٌ في إنفاقه كيفما شاء.
لقد فات قارون -وكل من يشبهه في تصرفاته- أن يدرك أن للمال حظاً من اسمه: ما.. لك.. أي ليس لك، ما.. له.. أي ليس له!
إن قصة قارون -ومن قبله ومن بعده كثيرون مماثلون له- تجعلنا نفكر في مصيره ﴿فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ﴾. لقد استحق هذا المصير حينما لم يستمع إلى خمس نصائح وجهها له الصالحون من قومه حين قالوا له: ﴿لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ . وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾. لم ينسب قارون الفضل لله سبحانه وتعالى، ولم يقم بحق المال الذي هو في الأصل مال الله؛ هكذا وصف عزَّ وجلَّ المال: ﴿وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ﴾.
يقول العلماء أن من دروس وعبر قصة قارون أنَّ المال يكون وبالاً وحسْرةً على صاحبِه إذا لَم يستخْدِمْه في طاعة الله، وأنَّ كثرة المال ليستْ دلِيلاً على محبَّة الله ورضاه عن العبد، وأنَّ المعاصي قد تُعجَّل عقوبتها في الدنيا قبل الآخرة، وأنَّ الله تعالى يبسط الرِّزق لِمَن يشاء ويُضيِّق على مَن يشاء لحكمةٍ بالغةٍ، وأنَّ هذا المال عرَضٌ زائلٌ. وأن مما يهلك الإنسان الفرح بالدنيا فرح زهوٍ وكِبرٍ وغرور. وأن مقياس السعادة في الدنيا هو طاعة الله تعالى والإحسان إلى عباده وليس الغنى وكثرة المال. وأن أهل الفساد ممقوتون بعيدون من محبة الله. وأن على أهل العلم أن يقوموا بواجب النصيحة لكل ظالمٍ طاغٍ باغٍ متكبرٍ سادرٍ في غيه.
إنها (فتنة المال) التي وصفها الشاعر بقوله:
رأيتُ الناسَ قد مالــوا
إلى مَن عنــده مــــالُ
ومَن لا عنــده مـــــالُ
فعنه الناسُ قد مـالوا
رأيتُ الناسَ قد ذهبوا
إلى مَن عنــده ذهـبُ
ومن لا عنــده ذهــبُ
فعنه الناسُ قد ذهبوا
رأيتُ الناسَ منفضــة
إلى مَن عنــده فضـة
ومَن لا عنــده فضــة
فعنه الناسُ منفضــة

أحبتي .. لنأخذ العبر والدروس والمواعظ من قصة قارون، ومن موقف ذلك الملياردير؛ كيف كانت حياتهما، وما صار إليه مآلهما حينما أخذتهما العزة بالإثم وتغلبت عليهما (فتنة المال).
ليس منا من لا يدعو الله سبحانه وتعالى أن يوسع عليه رزقه ويغنيه، فإذا منَّ الله علينا بوفرة المال فالحذر من أن نكون ممن وصفهم سبحانه بقوله: ﴿وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ . فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَّهُم مُّعْرِضُونَ . فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾.
أذكر نفسي وأذكركم أحبتي أن نتقي الله فيما آتانا من مالٍ- قلَّ أو كثُر- فنخرج حقه من زكاةٍ وصدقةٍ ونفقةٍ في وجوه الخير والبر. ولا نتكبر، ولا نطغى ولا ننسى أبداً أن المال مال الله وأننا مستخلفون فيه، مسئولون عنه سؤالين: من أين اكتسبناه، وفيما أنفقناه؛ فلنكسبه من حلالٍ، ولنصرفه بغير إسرافٍ ولا تقتيرٍ ولا سفهٍ في مصارفه الشرعية ابتغاء وجه الله.
هدانا الله وإياكم إلى ما فيه رضاه، وأبعدنا عن كل ما يكون سبباً في سخطه وغضبه، ونجانا من (فتنة المال).
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

http://bit.ly/3348FXg