الجمعة، 26 أبريل 2019

يسارعون في الخيرات/1


الجمعة 26 إبريل 2019م

خاطرة الجمعة /١٨٤
(يسارعون في الخيرات)

وقفت امرأةٌ ثريةٌ على طريقٍ سريعٍ بعد أن تعطلت سيارتها فنزلت منها وتركتها بجانب الطريق حتى ترسل من يصلحها. ووقفت تُلَوِّح بيدها للسيارات المارة المسرعة، لكن لم تقف لها أية سيارة، مضى وقتٌ طويلٌ، تغير لون السماء وتلبدت الغيوم وبدأ رذاذٌ من مطرٍ خفيفٍ ينذر بهطول أمطار، وخشيت حلول الظلام. فجأةً، توقفت لها سيارةٌ قديمةٌ يسوقها شابٌ حنطي البشرة، نظرت إليه وإلى السيارة وترددت؛ هل تصعد معه أم تبقى تنتظر حافلةَ نقلٍ عامٍ أو سيارةً بها أسرةٌ أو سيارةَ أجرةٍ أو لو اقتضى الأمر سيارةً يقودها شخصٌ أكبر سناً؟ كانت تخشى أن يطمع فيها هذا الشاب خاصةً أن علامات غناها وثروتها باديةٌ عليها. حسمت أمرها وتوكلت على الله وقررت أن تصعد وتركب مع الشاب في سيارته القديمة. في الطريق سألته عن اسمه وعمله - وقد كانت تظهر عليه علامات الفقر والحاجة - فأخبرها بأن اسمه آدم، وأنه يعمل بوظيفةٍ متواضعةٍ؛ اطمأنت نوعاً ما، وعاتبت نفسها وأنّبها ضميرها لسوء ظنها به، خاصةً بعد أن لفت انتباهها أن الشاب كان مؤدباً ولم يلتفت إليها منذ أن صعدت إلى سيارته. وصلت إلى المدينة وهي تضمر في نفسها أن تعطيه ما يطلب من الأجرة؛ فطلبت النزول وتوقف، سألته: "كم حسابك؟"، قال: "لا شيء!!"، قالت له: "لا يمكن؛ أنت ساعدتني وأوصلتني"، رد آدم: "أجرتي أن تفعلي الخير مع غيري!". انصرفت مذهولةً مندهشةً من تصرفه. مشت قليلاً في طريقها ثم وقفت أمام مقهى فدخلت وطلبت كأساً من القهوة أتت العاملة به. لفت نظر المرأة الغنية شحوب وجه العاملة وكبر بطنها؛ فقالت لها: "أراكِ متعبة"، قالت: "إني على وشك الولادة"، قالت المرأة: "ولِمَ لا ترتاحين؟"، قالت العاملة: "مضطرةٌ للعمل كي أوفر ما يكفي تكاليف ولادتي". أعطت المرأة للعاملة ورقةً نقديةً تساوي عشرة أضعاف قيمة القهوة؛ فذهبت العاملة إلى المحاسب لتأتي لها بالباقي من الحساب، وعندما عادت بالباقي لم تجد المرأة، نظرت يميناً وشمالاً، فلم تجدها، لكنها وجدت ورقةً صغيرةً مكتوبٌ فيها: "تركتُ باقي الحساب هديةً لك". فرحت العاملة كثيراً، لكنها لاحظت عبارةً مكتوبةً بخطٍ صغيرٍ تحت العبارة السابقة: "اقلبي الورقة"، أسرعت بقلب الورقة فوجدت كلاماً آخر: "وتركتُ لك ما تحت غطاء الطاولة هديةً لمولودك". كادت تصرخ من الفرح وهي ترى مبلغاً يزيد عن ستة أضعاف مرتبها الشهري. دمعت عيناها من الفرح، ذهبت سريعاً واستأذنت من عملها، وسابقت الريح مشتاقةً لإفراح زوجها الذي يحمل همّ ولادتها. دخلت البيت مسرعةً تنادي زوجها الذي تعجب من عودتها من العمل قبل وقت انتهائه، وخشي أن يكون وقت الولادة قد حان، أو يكون صاحب العمل أنهى خدماتها، غير أنه سمع صوتها مخلوطاً بنغمة الفرح وبه نبرة شكرٍ وامتنانٍ وهي تقول وقد احتضنته: "أبشر يا آدم قد فرجها الله علينا وأكرمنا"!
سبحان الله؛ إنه آدم إذن! صاحب السيارة الذي أقل المرأة الثرية قبل قليل، إنه حقاً عالمٌ صغير! ويا لكرم المولى عزَّ وجلَّ مع من (يسارعون في الخيرات) فيرد لهم أعمالهم أضعافاً مضاعفة.

أحبتي في الله .. أمرنا الله سبحانه وتعالى بأن نكون من الذين (يسارعون في الخيرات) ويتسابقون إلى فعلها؛ قال تعالى: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾، وقال سبحانه: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾، وقال عزَّ وجلَّ: ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾.
وعمل الخير لا يضيع أبداً، يعود حتماً إلى صاحبه، يعود أضعافاً مضاعفةً، محملاً ببركة الله سبحانه وتعالى.
مدح الله الذين (يسارعون في الخيرات)؛ قال تعالى في وصف المؤمنين: ﴿أُولئِكَ يُسارِعونَ فِي الخَيراتِ وَهُم لَها سابِقونَ﴾، وقال في وصف الصالحين: ﴿يُؤمِنونَ بِاللَّهِ وَاليَومِ الآخِرِ وَيَأمُرونَ بِالمَعروفِ وَيَنهَونَ عَنِ المُنكَرِ وَيُسارِعونَ فِي الخَيراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصّالِحينَ﴾، وبيَّن أن المسارعة في الخيرات سببٌ لإجابة الدعاء؛ قال سبحانه: ﴿فَاستَجَبنا لَهُ وَوَهَبنا لَهُ يَحيى وَأَصلَحنا لَهُ زَوجَهُ إِنَّهُم كانوا يُسارِعونَ فِي الخَيراتِ وَيَدعونَنا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكانوا لَنا خاشِعينَ﴾.



المسارعة إلى الخيرات دليلٌ على حب الله سبحانه وتعالى للعبد؛ قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ﴾.
وقد اختار الله سبحانه وتعالى الذين (يسارعون في الخيرات) وجعلهم مفاتيح للخير؛ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: [إِنَّ مِنَ النَّاسِ مَفَاتِيحَ لِلْخَيْرِ، مَغَالِيقَ لِلشَّرِّ، وَإِنَّ مِنَ النَّاسِ مَفَاتِيحَ لِلشَّرِّ، مَغَالِيقَ لِلْخَيْرِ، فَطُوبَى لِمَنْ جَعَلَ اللَّهُ مَفَاتِيحَ الْخَيْرِ عَلَى يَدَيْهِ، وَوَيْلٌ لِمَنْ جَعَلَ اللَّهُ مَفَاتِيحَ الشَّرِّ عَلَى يَدَيْهِ].
وكان عليه الصلاة والسلام يقول في دعائه: [اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ، وَتَرْكَ الْمُنْكَرَاتِ، وَحُبَّ الْمَسَاكِينِ، وَأَنْ تَغْفِرَ لِي وَتَرْحَمَنِي ...].
وبيَّن النبي عظم ثواب تنفيس الكرب والستر والتيسير وإعانة المسلم لأخيه المسلم؛ قال صلى الله عليه وسلم : [مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ ..].
وورد في وصف النبي صَلَّى اللَهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ. ولو تأملنا العبارة الأخيرة في وصف نبينا الكريم "أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ" لوجدنا أنها أبلغ كلماتٍ يمكن أن يُعبر بها عن مدى مسارعته في الخيرات، وهو الأسوة الحسنة لنا جميعاً؛ قال تعالى: ﴿لَقَد كانَ لَكُم في رَسولِ اللَّهِ أُسوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كانَ يَرجُو اللَّهَ وَاليَومَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثيرًا﴾.

وهذه أبيات شعرٍ من أروع ما كُتب وصفاً لأحد الذين (يسارعون في الخيرات):
تراهُ إذا ما جئْتَه مُتَهَلِّلاً
كأنَّك تُعطيه الذي أنتَ سائلُهْ
هُوَ اليَمُّ مِنْ أَي النَّواحي أتيتَهُ
فلُجَّتُه المعروفُ والجُودُ سَاحِلُهْ
تعوَّدَ بسط الكفِّ حتى لو أنَّه
ثناها لقبضٍ لمْ تُجبهُ أنامِلُهْ
ولو لم يكنْ في كفِهِ غيرُ روحِهِ
لجادَ بها، فليتقِ اللهَ سائلُهْ

قال العلماء: المسابقة إلى الخيرات خُلُقٌ لا يتصف به إلا المؤمن الصادق، والمسارعة إلى أعمال البر طبعٌ لا يتخلق عليه إلا من وهبه الله تعالى رجاحةً في العقل وانشراحاً في الصدر وسلامةً في القلب.
وقالوا: إن استطعت ألا يسبقك إلى الله أحدٌ فافعل تكن من الفائزين المفلحين.
وقال الشاعر:
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبَهُم
فطالما استعبدَ الإنسانَ إحسانُ
وكُنْ على الدّهرِ مِعْوَانًا لذي أملٍ
يرجو نَداكَ فإنّ الحُرَّ مِعْوانُ
من كان للخير منّاعًا فليس له
على الحقيقة إخوانٌ وأخْدانُ
من جاد بالمال مالَ النّاسُ قاطبةً
إليه والمالُ للإنسان فتّانُ

وهناك كثيرٌ من صور عمل الخير يحرص المسلمون على أدائها؛ منها على سبيل المثال: كفالة اليتيم، مساعدة الفقراء والمحتاجين، إماطة الأذى عن الطريق، إغاثة الملهوف، إكرام الضيف، التعاون والتكافل بين الأشخاص، الإصلاح بين المتخاصمين، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تشجيع الناس على فعل الخيرات، تقديم النصيحة والكلمة الطيبة للآخرين، صلة الأرحام، الصلاة على الجنازة واتباعها، الإكثار من ذكر الله سبحانه وتعالى بالحمد والتسبيح والتكبير والتهليل والاستغفار، قراءة القرآن الكريم، تقديم الرّعاية للمرضى، تعليم الناس، زيارة المرضى، البدء بالسلام على الناس، وغير ذلك كثير.
ولقد أكّد القرآن الكريم على أن من ينفقون أموالهم في سبيل الله تعالى وفي أعمال الخير سينالون الأجر العظيم منه سبحانه، وأن أجورهم ستتضاعف أضعافاً مضاعفة؛ قال تعالى: ﴿مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾.
ويتضاعف ثواب عمل الخير والمسارعة فيه وفقاً للزمان الفاضل؛ مثل: شهر رمضان الكريم، وعشر ذي الحجة، ووفقاً للمكان الفاضل: كالحرمين، فإن الحسنات تُضاعف في مكة والمدينة مضاعفةً كبيرة. فلنحرص على المسارعة في عمل الخير دائماً كلما استطعنا إلى ذلك سبيلا.

أحبتي .. أقتبس كلماتٍ أعجبتني يقول كاتبها: اتقوا الله وبادروا في اغتنام حياتكم قبل فنائها، وأعماركم قبل انقضائها؛ بفعل الخيرات والإكثار من الطاعات، فإن الفرص لا تدوم، والعوارض التي تحول بين الإنسان وبين العمل كثيرةٌ وغير مأمونةٍ؛ فإذا سمعت بمشروعٍ خيريٍ أو عملٍ فيه صدقةٌ جاريةٌ فحاول أن تساهم فيه ولو بالقليل، ولا تجعل الخير يفوتك دون أن تشارك؛ فقد جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الصَّدَقَةِ أَعْظَمُ أَجْرًا؟ قَالَ: [أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تَخْشَى الفَقْرَ، وَتَأْمُلُ الغِنَى، وَلاَ تُمْهِلُ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الحُلْقُومَ، قُلْتَ لِفُلاَنٍ كَذَا، وَلِفُلاَنٍ كَذَا وَقَدْ كَانَ لِفُلاَنٍ].
وفي هذا المعنى يقول الشاعر:
مَضَى أَمْسُكَ الْمَاضِي شَهِيدًا مُعَدَّلا
وَأَعْقَبَهُ يَوْمٌ عَلَيْكَ جَدِيدُ
فَإِنْ كُنْتَ اقْتَرَفْتَ بِالأَمْسِ إِسَاءَةً
فَثَنِّ بِإِحْسَانٍ وَأَنْتَ حَمِيدُ
فَيَوْمُكَ إِنْ أَعْتَبْتَهُ عَادَ نَفْعُهُ عَلَيْكَ
وَمَاضِي الأَمْسِ لَيْسَ يَعُودُ
وَلا تُرْجِ فِعْلَ الْخَيْرِ يَوْمًا إِلَى غَدٍ
لَعَلَّ غَدًا يَأْتِي وَأَنْتَ فَقِيدُ

اللهم انفع بنا، واجعلنا سباقين إلى الخير من الذين (يسارعون في الخيرات)، واجعل أعمالنا خالصةً لوجهك الكريم، وتقبلها اللهم قبولاً حسناً يا رب العالمين.
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

http://bit.ly/2IMjmHB