الجمعة، 29 يناير 2016

لماذا الهجر؟


29 يناير، 2016م
خاطرة الجمعة /١٦

(لماذا الهجر؟)

صديق لي يذهب إلى النادي الرياضي يومياً ويصلي بالناس إماماً في مسجد النادي صلاتي المغرب والعشاء. يقول صديقي أن أحد المصلين من كبار السن سأله عقب الانتهاء من الصلاة: "هل ما قرأت بعد الفاتحة من القرآن؟!"، تعجب من السؤال لكنه رد باقتضاب: "نعم!"، فعلق صاحب السؤال قائلاً: "أول مرة في حياتي أستمع إلى هذه الآيات!".
ربما انتهى الموقف بالنسبة للسائل ولصديقي، لكنه لم ينته معي؛ تساؤل ظل يلح على ذهني: "هل من المعقول أن يصل مسلم إلى هذا العمر ولم يكن قد قرأ القرآن الكريم كاملاً ولو مرة واحدة في حياته؟"، تبع ذلك تساؤل آخر: "ما هي يا ترى علاقتنا بالقرآن الكريم؟".
فكرت في الأمر ملياً فبدا لي أن علاقة المسلم بالقرآن لا تكون إلا واحدة من ثلاث:
• هجر القرآن، والاكتفاء بما تم تعلمه في الصغر من المدرسة أو الأسرة.
• اهتمام محدود، يظهر في قراءة القرآن خلال شهر رمضان، وفي المناسبات كالامتحانات أو المرض أو عند دفن ميت، مع حفظ بعض قصار السور.
• مواظبة القراءة، بشكل مستمر، سواءً في البيت أو المسجد أو حتى في وسائل المواصلات العامة، والسعي إلى حفظ ما تيسر منه، مع تفاوت في درجة الاجتهاد سواءً في التلاوة أو الحفظ.
ويتبين لي من ملاحظاتي ومشاهداتي الشخصية أن الكثير من المسلمين موزعين على النوعين الأول والثاني، علاقتهم بالقرآن إما هجر كامل أو اهتمام محدود.
بالطبع أغبط الفئة الثالثة المتميزة وأدعو الله لي ولكم أن نكون منهم.
أما هاجرو القرآن ومحدودو الاهتمام به فأتعجب لحالهم؛ ألم يقرأ هؤلاء أو يستمعوا إلى الآية التي تصف إحساس الرسول عليه الصلاة والسلام بالأسى حين يقول: ﴿يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا﴾، فهل نترك أنفسنا لنكون ممن تشير إليهم هذه الآية؟
قراءة القرآن عبادة سهلة وميسرة وغير مكلفة يمكن أداؤها في أماكن كثيرة وأوقات متنوعة، ويحظى المحافظ عليها بثواب كبير، ومع ذلك يغفل الكثيرون عنها أو يتغافلون .. رغم أن الله سبحانه وتعالى قد أمرنا بها؛ قال تعالى: ﴿فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ  عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَىٰ  وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ  وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ﴾، هل لاحظتم أحبتي تكرار الأمر الإلهي لنا "اقرءوا ما تيسر منه" مرتين في آية واحدة، وهل لاحظتم أن الأمر الأول جاء عاماً وأن الأمر الثاني بيَّن أنه مع علم الله سبحانه وتعالى بأنه سيكون هناك مرضى وسيكون هناك من يسعون طلباً للرزق وسيكون هناك من يقاتل في سبيله فإنه أمره لنا ما يزال قائماً "اقرءوا ما تيسر منه"، وهل من عذر -إن كان ثمة عذر- يُفترض معه ترك قراءة القرآن أكثر من الانشغال بالحرب والجهاد في سبيل الله؟
إذن (لماذا الهجر؟)
• هل لأننا لا ندرك ثواب قراءة القرآن؟
- كيف؟ ونحن نعلم أن القرآن الكريم يكون شفيعاً للإنسان يوم القيامة، قال صلى الله عليه وسلم: [اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه].
• أم لأننا نخشى أن نخطئ في قراءة القرآن ولم نتعلم أصول التلاوة؟
- كيف؟ وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: [الماهر في القرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران].
• أم لأنه من الصعب حمل المصحف؟
- كيف؟ وأجهزة الحاسوب والهواتف الزكية توفر لنا فرصة تحميل المصحف للقراءة والاستماع والاطلاع على التفاسير.
• أم لأننا لا نجد الوقت لقراءة القرآن؟
- كيف؟ ونحن نجلس بالساعات يومياً على الحاسوب، نستخدم الإنترنت نتابع أخبار الأصدقاء على الفيس بوك، ونغرد في تويتر، ونتبادل الحوار والنكات والصور ومقاطع الفيديو على الواتس آب، ونشاهد مباريات كرة القدم، وغير ذلك من توافه الأمور، ألا نستحي؟ ألا نخجل من أنفسنا؟!
سألني أخ فاضل: "وهل من السهل علي أن أبدأ الآن بعد كل هذا الهجر؟"
"نعم؛ اعقد العزم وأخلص النية وتوكل على الله راجياً الثواب؛ قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [يُقَالُ لِصَاحب الْقُرْآنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: اقْرَأْ وَارْقَ فِي الدَّرَجَاتِ، وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا؛ فَإِنَّ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ كُنْتَ تَقْرَأَهَا]".
وسأل مرة أخرى: "كيف أبدأ؟ وكيف أستمر؟"
والإجابة: "ابدأ بتخصيص زمن محدد للقراءة في المصحف خمس دقائق أو عشر دقائق، وحدد الوقت المناسب قبل الصلاة أو بعد الصلاة، حدد لنفسك بداية بسيطة كقراءة صفحة واحدة أو صفحتين كل يوم، ثم انتقل لأربع صفحات يومياً، ثم انتقل لقراءة صفحتين عقب كل صلاة، ثم اقرأ صفحتين قبل كل صلاة وصفحتين بعدها، وهكذا قدر ما تستطيع، ثم اجتهد في حفظ ما تيسر من القرآن، وصلِ بما حفظت، تابع القراءة حتى تختم المصحف، استعن بأحد التفاسير المبسطة لفهم ما غمض عليك من الكلمات أو المعاني، استمتع بالجمع بين الاستماع للقرآن وتلاوته في وقت واحد وتعرف على أصول التلاوة الصحيحة. المهم ألا تُسَوِف أو تؤجل، واحذر أن يغلبك الكسل، ابدأ من اليوم، استشعر عظم الثواب، واستحضر همة الشباب، وتذكر أن الله معك".
أحبتي في الله .. أن يأتي أحدنا متأخراً خير له من ألا يأتي أبداً .. فلنبدأ الآن .. يبدأ كلٌ منا في مراجعة علاقته بالقرآن، الهاجر والمقصر يعوض ما فات وعفى الله عما سلف، والمهتم والمجتهد يزيد من اهتمامه واجتهاده ليرتقي بتلاوته وحفظه، حتى نكون جميعاً من أهل السعادة في الدارين: الدنيا والآخرة.
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة في خاطرة جديدة إن أذن الله وأمد في أعمارنا.
تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.