الجمعة، 11 أغسطس 2017

لغة الضاد

الجمعة 11 أغسطس 2017م

خاطرة الجمعة /٩٦
(لغة الضاد)

بزيه الأزهري الوقور اعتلى منبر مسجد الشيخة سلامة أكبر مساجد مدينة العين بدولة الإمارات العربية المتحدة، كان يوم جمعةٍ، وكانت خِطبته يومئذٍ أول خِطبة له بعد استقدامه من مصر ليكون إماماً وخطيباً لهذا المسجد. شابٌ في بداية الثلاثينات من عمره، قصير القامة، مصري الملامح، عَلِمَ المصريون المقيمون بالمدينة وضواحيها بمقدمه فتوافدوا على المسجد من كل حدبٍ وصوب. كنت واحداً ممن تركوا مساجدهم التي اعتادوا أن يصلوا فيها صلاة الجمعة كل أسبوع، وتوجهوا للترحيب بالوافد الجديد، ابن مصر، وابن الأزهر الشريف. بدأ إمامُنا خِطبته بمقدمةٍ قويةٍ مؤثرة من المقدمات المحفوظة التي يغلب عليها السجع ثم أكملها مرتجلاً، فإذا بنا نُفاجَأ بكارثةٍ كانت في انتظارنا، لم يكن أي واحدٍ منا يتوقع حدوثها، خاصةً من إمامٍ معممٍ يرتدي الزي المميز للأزهريين. كانت كارثةً، خاصةً بالنسبة لي على الأقل وبالنسبة لكل من يحب ويعشق (لغة الضاد)؛ فكلما ابتعد صاحبنا عما يحفظه من استشهاداتٍ بآياتٍ من القرآن الكريم وبأحاديثَ نبويةٍ شريفةٍ وبأبياتِ شعرٍ ذات علاقة بموضوع الخطبة، وقع في أخطاءَ لغويةٍ فادحةٍ. كانت كلماته تؤذي مسامع كل من كانت (لغة الضاد) عزيزةً عليه! بدأ ينصب ما يجب أن يُجر، ويجر ما يجب أن يُرفع، ويحرك ما ينبغي أن يكون ساكناً، يتجاهل خبر كان أو إحدى أخواتها فلا ينصبه، ويرفع اسم إنَّ أو إحدى أخواتها! ومع كل خطأٍ يقع فيه كنت أحس بأن ضغط دمي يرتفع، حتى تمنيت أن يُنهي خطبته قبل أن ينفجر رأسي كمداً أو يتوقف قلبي حزناً وألماً! تملكني وقتها شعورٌ بالندم ممزوجٌ بالأسى، ندمٌ لحرصي على حضور هذه الخِطبة للإمام الجديد، وأسىً على خريجي الأزهر الشريف؛ إذ من المفترض أن يكون هذا واحداً من أفضلهم، اُختير لهذا العمل من بين عشراتٍ أو ربما مئاتٍ تقدموا للحصول عليه! مَرَّ بخاطري أنه قد يحدث مثل هذا الموقف في بلدي فيقبله الناس على مضض، أما أن يصدر ممن يمثل مصر ويكون سفيراً للأزهر في بلدٍ آخر فهذا مما لا يمكن تحمله. تساءلت بيني وبين نفسي: "ألهذه الدرجة وصل مستوي خريجي الجامعات المصرية في اللغة العربية؟"، والأدهى أن يكون هذا مستوى خريجي جامعة الأزهر على ما لها من تاريخٍ عريقٍ واهتمامٍ متميزٍ بلغتنا الجميلة (لغة الضاد). تمنيت ألا يكون جميع الخريجين على هذا المستوى من الضعف في اللغة، وهم بالتأكيد ليسوا كذلك. لم أدَعْ هذا الموقف يمر؛ فبعد انتهاء شعائر صلاة الجمعة، وانتظار عشرات المصريين وغير المصريين الذين توجهوا للإمام للسلام عليه والترحيب بقدومه، توجهت إليه وكنا اثنين لا ثالث لنا، رحبت به، وشكرت له حُسن اختياره لموضوع الخِطبة، وأشدت باستشهاداته المناسبة للموضوع، ثم وبصوتٍ أقرب للهمس صارحته بكثرة ما كان منه مما سميتها له تخفيفاً "هنات"، وأعطيته أمثلةً  على بعضها، وهونت الأمر عليه بقولي: "إن ارتجال خطبة جمعةٍ ليس بالأمر السهل خاصةً من فوق منبرٍ تقف عليه لأول مرة، وفي بلدٍ غير بلدك، وأمام جمعٍ من المصلين لم تتعود على تنوع جنسياتهم إلى هذه الدرجة". وقلت له ناصحاً: "سَكِّنْ تَسْلَمْ، قاعدةٌ تفيد المرتجل في مثل هذه المواقف". للأمانة كان الرجل يصغي لما أقول، وإن كانت علامات التعجب تكاد تقفز من عينيه! وبعد أن انتهيت من حديثي سألني سؤالاً واحداً، قال: "هل حضرتك متخصصٌ في اللغة العربية؟"، قلت: "لا"، فالتفت عني كما لو كان يقول لي: "انتهت المقابلة"!، تركني ولسان حاله يقول: "خسارة ما ضيعته من وقتٍ معه!"، وانصرفت عنه وفي ذهني خاطرٌ أن الخسارة أن يظن البعض أن حب اللغة العربية وإجادتها قاصرٌ فقط على خريجي كليات اللغة العربية!

أحبتي في الله .. حدث هذا الموقف في منتصف ثمانينات القرن الماضي، أي منذ قرابة ثلاثين سنة، لكن ما ذكرني به هذه الأيام واحدٌ ممن يُفترض أنهم من أساطين القانون في مصر، لم يكن يرتجل كلاماً بل كان يقرأه من ورقٍ أظن أنه هو الذي كتبه بنفسه، فإذا بالأخطاء اللغوية الفادحة تترى وتتوالى وكأنها مطارق يهوي بها على رؤوس مستمعيه، أخطاء في نطق كلماتٍ لا يخطئ فيها تلميذٌ بالمرحلة الإعدادية! ثم بلغ الأمر مداه فإذا بسيادة المستشار يَلْحَن في الآيات القرآنية التي استشهد بها! لم تقف المصيبة إذن عند حدود الكلام المرتجل بل تعداه إلى ما هو مكتوب، وتجاوز الأمر الخطأ في كلام البشر ليصل إلى الخطأ في كلام رب البشر وفي آيات كتابه الكريم فتحول الخطأ إلى خطيئة. لم أتحمل الصدمة فأغلقت التلفاز، على أهمية ما كنت حريصاً على متابعته، احتراماً لسمعي وحفاظاً على صحتي وتقديراً لمعشوقتي (لغة الضاد)! 
ألهذا الحد بلغت الاستهانة باللغة العربية، ووصلت إهانتها والاستخفاف بها وهي اللغة التي كرمها الله سبحانه وتعالى فأنزل قرآنه بها؟   
قال تعالى: ﴿الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ . إِنَّا أَنْـزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾، وقال: ﴿حم . وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ . إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾، وقال: ﴿وَإِنَّهُ لَتَنْـزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ . نَـزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ . عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ . بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾، وقال: ﴿كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾، وقال: ﴿قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾، وقال: ﴿وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ﴾، وقال: ﴿وَكَذَلِكَ أَنْـزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا﴾، وقال: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ﴾، وقال: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لاَ رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ﴾. أَبَعْدَ كل هذه الآيات التي شرَّف بها الله سبحانه وتعالى اللغة العربية وخصها دون غيرها من اللغات لتكون وعاءً لكتابه الكريم، أَبَعْدَ كل هذا يمكن لمسلمٍ أن يُضَيِّع هذه اللغة؟ والأغرب أن يكون ذلك المسلم الذي تضيع اللغة العربية على يديه عربياً!
أكاد أجزم أن هذه جريمةٌ كبرى لا يمكن السكوت عنها أو المرور عليها مرور الكرام، إنه أمرٌ جلل؛ فالخطأ في قراءة الآيات القرآنية على نحوٍ صحيحٍ يبطل صلاة المسلم فإذا قرأ فيها قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ على هذا النحو: "إنما يخشى اللهُ من عباده العلماءَ"، فقد انقلب المعنى تماماً؛ وبدلاً من أن يكون العلماء هم الذين يخشون الله سبحانه وتعالى، وهذا هو معنى الآية، صار المعنى هو أن الله هو الذي يخشى العلماء، وحاشا لله أن يكون كذلك.
نفس الشيء لو أنه قرأ الآية الكريمة: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ﴾ على هذا النحو: "وإذ ابتلى إبراهيمُ ربَّه بكلمات فأتمهن" فيكون قد عكس معنى الآية؛ فبدلاً من أن يكون الله سبحانه وتعالى هو فاعل الابتلاء، وهذا هو المعنى الصحيح للآية، صار المعنى هو أن إبراهيم هو الذي يبتلي ربه، والقراءة على هذا النحو باطلةٌ ولا تجوز. مثالٌ آخر أكثر وضوحاً، قال تعالى: ﴿وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ﴾ والمعنى: أن الله برئٌ من المشركين، ورسولُه برئٌ منهم. وتُقرأ ﴿وَرَسُولُه﴾ بالضم، على الابتداء، والخبر محذوفٌ، والتقدير: "وَرَسُولُهُ بَرِيءٌ مِنْهُمْ"، ولا تجوز قراءتها "ورسولِه" بكسر اللام؛ لأنها تُوهِم أن الله بريءٌ من المشركين، وبرئٌ من رسولِه، وهذا باطلٌ محالٌ، والاعتقاد به كفر.

أحبتي .. يقول أهل العلم أنه ما من لغةٍ تستطيع أن تطاول اللغة العربية في شرفها؛ فهي اللغة التي اختارها الله سبحانه وتعالى لتحمل رسالته النهائية إلى البشر، رسالة الإسلام. من مميزاتها أنها لغة القرآن الكريم، والأحاديث النبويّة الشّريفة.
ساهمت اللّغة العربيّة في نهوض العديد من الحضارات، وخصوصاً الأوروبيّة، الأمر الذي جعل الأوروبيّين حريصين على تعلُّمها للاستفادة من التقدم الذي حققه المسلمون في العديد من فروع العلم حينما كانت الحضارة الإسلامية في أوج انتشارها. سُمّيت اللغة العربية (لغة الضاد) لأنها اللغة الوحيدة في العالم التي تحتوي على حرف الضاد.

يُنسب إلى خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، عمر بن الخطاب رضي الله عنه، القول: "تعلموا العربية فإنها من الدين".
وقال ابن تيمية عنها: "معرفتها فرضٌ واجبٌ، فإنّ فهم الكتاب والسنّة فرضٌ، ولا يُفهم إلاّ بفهم اللغة العربية، وما لا يتمّ الواجب إلاّ به فهو واجب".
ونظم حافظ إبراهيم قصيدته المشهورة عن اللغة العربية وهي تتحدث عن نفسها فتقول: 
وسِعتُ كِتابَ اللهِ لَفظاً وغاية ً
وما ضِقْتُ عن آيٍ به وعِظاتِ
فكيف أضِيقُ اليومَ عن وَصفِ
آلة ٍوتَنْسِيقِ أسماءٍ لمُخْترَعاتِ
أنا البحرُ في أحشائِه الدرُ كامنٌ
فهل ساءَلوا الغواصَ عن صَدَفاتي
أما الشاعر حمد بن خليفة أبو شهاب فقال عن اللغة العربية:
لغة القرآن يا شمس الهدى
صانك الرحمن من كيد العدى
هل على وجه الثرى من لغةٍ
أحدثت في مسمع الدهر صدى
بين طيّاتك أغلى جوهر
غرّد الشادي بها وانتضدا
نحن علّمنا بك الناس الهدى
وبك اخترنا البيان المفردا
وزرعنا بك مجداً خالداً
يتحدّى الشّامخات الخُلَّدَا
ما اصطفاك الله فينا عبثاً لا
ولا اختارك للدين سُدى
لغةٌ قد أنزل الله بها
بيّناتٍ من لدنه وهدى
وقال مصطفى صادق الرافعي محذراً: "ما ذلّت لغة شعبٍ إلاّ ذلّ، ولا انحطّت إلاّ كان أمره في ذهابٍ وإدبارٍ".

وقبل أن أختم، اخترت لكم طرفتين لُغويتين:
‏سأل رجلٌ الحسن البصري‏:‏ ما تقول في رجلٍ ترك أبيه وأخيه؟ فقال الحسن‏:‏ ترك أباه وأخاه‏ !!‏ فقال الرجل‏:‏ فما لأباه وأخاه؟
فقال الحسن‏:‏ فما لأبيه وأخيه !! فقال الرجل للحسن‏:‏ أراني كلما كلمتك خالفتني‏ !!
وهاكم الطرفة الأخرى:
رُوي أن رجلاً قصد سيبويه لينافسه في النحو فخرجت له جارية سيبويه فسألها قائلاً: أين سيدك يا جارية؟ فأجابته بقولها: "فاء إلى الفيء فإن فاء الفيء فاء".
فقال: والله إن كانت هذه الجارية فماذا يكون سيدها؟! ورجع.

أحبتي .. ما أجمل (لغة الضاد)، لغتنا العربية، وما أروعها من لغةٍ، شرَّفها المولى عز وجل لتكون لغة القرآن الكريم، فاتقوا الله فيها، لا تضيعوها .. تعلموها واتقنوا فنونها، وعلموها أبناءكم، واحرصوا على التحدث بها ما وسعكم ذلك، واعتمدوها لغةً لمكاتباتكم .. وهمسةٌ في أذن كل من يعمل في مجال الدعوة إماماً أو خطيباً أو كاتباً أو مستخدماً لمواقع الإنترنت ووسائط التواصل الاجتماعي: لا تنطقوا أو تكتبوا أو تنشروا إلا ما كان صحيح اللغة، ولتكن نيتكم في ذلك الحرص على سلامة لغة القرآن الكريم، كلام الله، فتُثابوا بإذن الله على نياتكم وعلى قَدْرِ جهدكم في ضبط ألفاظها ومفرداتها والحفاظ عليها غضةً نضرة.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدة، إنْ أَذِنَ الله وأمَّد في أعمارنا.

تقبل الله منا ومنكم.

http://goo.gl/Hd7JsQ