الجمعة، 11 أغسطس 2023

عمل الخير لا يضيع

 خاطرة الجمعة /408

الجمعة 11 أغسطس 2023م

(عمل الخير لا يضيع)

 

يقول طبيب الأطفال صاحب القصة: استيقظتُ علي صوتِ أبي الهادئ وهَزِّه لكتفي بحنانٍ وإصرارٍ وهو يقول لي: "أحمد، محتاجك ضروري في غرفة الصالون". وعندما أفقتُ بصعوبةٍ شديدةٍ وبعينين يداعبهما النوم نظرتُ إلى الساعة المعلقة على جدار غرفتي فرأيتها تشير إلى الساعة الثانية صباحاً، وكنتُ قد ذهبتُ إلى الفراش بعد الساعة الحادية عشرة مساءً بقليلٍ نظراً لاستعدادي لأداء امتحانٍ شفهيٍ في صباح ذات اليوم في مادة الكيمياء الحيوية كمتطلبٍ أساسيٍ للجزء الأول من ماجستير طب الأطفال. قمتُ من الفِراش بملابس النوم وذهبتُ إلى غرفة الصالون مباشرةً ينتابني شيءٌ من القلق؛ فلا أدري لماذا أيقظني أبي؟ ولا أعلم ماذا ينتظرني في غرفة الصالون؟

في غرفة الصالون وجدتُ شاباً في الثلاثين من عمره يبدو من ملابسه وشكل شعره أنه جاء على عجلٍ وكان يصحب معه طفلاً رضيعاً لا يتجاوز عامه الأول تظهر عليه علامات المرض. قال لي والدي، رحمة الله عليه: "هذا سمير ابن عمك إبراهيم، صديقي، وهذا ابنه الصغير مريضٌ، وجاء إليك لتكشف عليه"، بدأتُ أتمالك نفسي وأستعيد درجة الوعي وقوة التركيز الضرورتين للكشف على الطفل؛ وبالسؤال عن التاريخ المرضي وبالفحص تبين أنه يعاني من نزلةٍ معويةٍ حادةٍ وحالة جفافٍ شديدٍ، وكان الإجراء الطبي المناسب هو تركيب محاليل له عن طريق الوريد بصورةٍ عاجلةٍ؛ فاقترحتُ على والد الطفل الذهاب إلى مستشفى الجامعة، وأخبرته بأنني سأقوم بالاتصال بأحد زملائي لاستقباله هناك والقيام باللازم؛ حيث أنني في إجازة امتحاناتٍ ولديّ امتحانٌ شفويٌ صعبٌ في الصباح الباكر. عندما نظرتُ إلى وجه أبي لاحظتُ عليه علامات عدم الرضا من اقتراحي، وإذا به يطلب مني بلهجةٍ فيها شيءٌ من الإصرار: "قُم يا أحمد ارتدِ ملابسك وانزل مع سمير وابنه إلى المستشفى، ولا تتركه إلا بعد أن تُركِّب المحاليل لابنه وتطمئن عليه". نظرتُ إلي أبي مندهشاً وخرجتُ من غرفة الصالون متجهاً إلى غرفة النوم لتغيير ملابسي وتنفيذ ما أمر به أبي، محاولاً أن أفهم ما الحكمة وراء ذهابي إلى المستشفى في هذا التوقيت غير المناسب من وجهة نظري، ناديتُ على أبي وسألته بكل تقديرٍ واحترامٍ لرغبته: "تعلم يا أبي أن لديّ امتحاناً في الصباح، وأن نزولي الآن من البيت يُمكن أن يؤثر علي أدائي في الامتحان"، نظر إليّ وقال بنبرة صوتٍ فيها الكثير من التأثر: "الطفل مريضٌ وأنا متأثرٌ جداً لحالته"، ثم قال لي، وقد تغيرت نبرة صوته إلى أخرى فيها الكثير من الثقة: "نزولك معه الآن سيكون سبباً في أن يكرمك الله في الامتحان.. وسترى"، فما كان منّي إلا أن اصطحبت الطفل وأباه إلى المستشفى، وقمتُ بتركيب المحاليل بنفسي، وتركتهما بعد أن اطمأننتُ على الطفل، ووصيتُ عليه زميلي لكي يتابع حالته. عدتُ إلى المنزل والساعة قد جاوزت الرابعة والنصف صباحاً، وكانت مشاعري في ذلك الوقت مزيجاً من القلق والإرهاق، مع التسليم بقضاء الله فيما سيحدث في الامتحان. بعد محاولاتٍ يائسةٍ للنوم تركتُ فِراشي وقمتُ لتناول طعام الإفطار وكوب الشاي الذي أعدته لي أمي، رحمها الله، ثم بدأتُ أستعد للذهاب إلى لجنة الامتحان بقسم الكيمياء الحيوية بالكلية، والذي بدأ يعج بالطلبة والمعيدين والأساتذة الممتحنين، وامتزجت الأصوات والمشاعر بين الحاضرين. جلستُ أنتظر دوري للدخول على لجنة الامتحان إلى أن تم النداء على اسمي بمعرفة أحد المعيدين بالقسم، وكانت اللجنة تتكون من أقدم ثلاثة أساتذة بالقسم، دخلتُ عليهم وقلبي يكاد يخرج من صدري محاولاً التماسك حتي لا تبدو عليَّ علامات القلق، ولكن عندما نظرتُ إليهم لاحظتُ الابتسامة تُزيَّن وجوههم؛ فزال مني كل التوتر والرهبة من الامتحان، وبدأتُ أستعيد تماسكي بالتدريج، أديتُ الامتحان وأجبتُ عن كل الأسئلة المطروحة على أحسن ما يكون ولله الحمد، ثم خرجتُ من لجنة الامتحان وأنا في حالةٍ بين السعادة والاستغراب مما حدث! كيف لهذا اليوم الطويل، والذي بدأ منذ الصباح الباكر، أن ينتهي هكذا على أفضل وجه؟ وبدأ يُلح على عقلي سؤالٌ: "من أين أتت لأبي هذه الثقة الكبيرة بأن الله سيكرمني إذا ذهبتُ إلى المستشفى مع الطفل؟".. لابد أنه كان على قناعةٍ تامةٍ بأن (عمل الخير لا يضيع)، وأن مهنة الطب مهنةٌ إنسانيةٌ في المقام الأول. لقد أعطاني أبي -رحمه الله- درساً عملياً في ذلك.

الآن، وبعد مرور سنين طويلة على هذا الموقف، لا تزال تفاصيله محفورةً في قلبي لتذكرني دائماً بأن (عمل الخير لا يضيع) أبداً.

 

أحبتي في الله.. يقول سبحانه وتعالى: ﴿وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ﴾، وحبة الخردل في نهاية القِلة والصغر حتى إن الحس لا يُدرك لها ثقلاً؛ إذ لا تُرجح ميزاناً. ويقول سبحانه: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً﴾،

ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ﴾، وفي معنى ﴿مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾ يقول المفسرون إنه وَزْن أصْغر نملةٍ أو هَباءَةٍ؛ فمن يعمل وزن نملةٍ صغيرةٍ خيراً، يرَ ثوابه في الآخرة، وقيل: في الحال قبل المآل؛ فإن (عمل الخير لا يضيع)، وهذا شاملٌ للخير كله، وفيه غاية الترغيب في فعل الخير ولو كان قليلاً.

وقيل عن الآية الأخيرة إنها أحكم آيةٍ في القرآن. وقيل إنها قد جمعت أسمى ألوان الترغيب.

 

وعن أعمال الخير يسيرة الأداء عظيمة الأجر والثواب قال النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: [اتَّقوا النَّار ولو بشِقِّ تمرةٍ فإنْ لم تجِدوا فبكلمةٍ طيِّبةٍ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [مَن تَصَدَّقَ بعَدْلِ تَمْرَةٍ مِن كَسْبٍ طَيِّبٍ، ولَا يَقْبَلُ اللَّهُ إلَّا الطَّيِّبَ، وإنَّ اللَّهَ يَتَقَبَّلُهَا بيَمِينِهِ، ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهِ، كما يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ، حتَّى تَكُونَ مِثْلَ الجَبَلِ]. كما قال صلوات الله وسلامه عليه: [سبقَ دِرهمٌ مائةَ ألفِ درهمٍ] قالوا وَكَيفَ؟ قالَ: [كانَ لرجلٍ درهمانِ تصدَّقَ بأحدِهِما، وانطلقَ رجلٌ إلى عُرضِ مالِهِ، فأخذَ منهُ مائةَ ألفِ درهمٍ فتصدَّقَ بِها]. ولما سُئل صلى الله عليه وسلم: أيُ الصدقةِ أفضل؟ قال: [جُهْدُ المُقلِّ..]، في إشارةٍ إلى الآية الكريمة: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ﴾. وقال المصطفى عليه الصلاة والسلام: [لاَ تَحْقِرنَّ مِنَ المَعرُوفِ شَيئًا؛ وَلَوْ أَنْ تَلقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلِيقٍ].

يقول شُراح الأحاديث إن في هذه الأحاديث ترغيباً في الصدقات وإن كانت بأقل القليل، شرط أن تكون من كسبٍ طيبٍ حلالٍ، وأن يكون المقصود هو وجه الله سبحانه وتعالى، فلا تُقبل صدقة النفاق والرياء والكِبْر والتعالي والتفاخر والسمعة والمباهاة والمن، من هنا كانت أهمية عقد النية والعزم على أن تكون الصدقة -بالمال أو الجهد أو النصيحة- خالصةً لوجه الله تعالى، وكلما خفيت كان ثوابها أعظم؛ قال صلى الله عليه وسلم من السَبْعَة الذين [يُظِلُّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى في ظِلِّهِ يَومَ لا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ]: [..ورَجُلٌ تَصَدَّقَ بصَدَقَةٍ فأخْفَاهَا حتَّى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ ما تُنْفِقُ يَمِينُهُ..].

وضرب النبي عليه الصلاة والسلام أمثلةً عمليةً على أعمال بسيطةٍ وسهلةٍ ترتب عليها ثوابٌ عظيمٌ؛ فقال صلى الله عليه وسلم: [بينما رجلٌ يمشي في طريقٍ إذ وجدَ غصنَ شوْكٍ فأخَّرَهُ فشَكرَ اللَّهُ لَهُ فغفرَ لَهُ]. وعنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: [بيْنَما كَلْبٌ يُطِيفُ برَكِيَّةٍ، كادَ يَقْتُلُهُ العَطَشُ، إذْ رَأَتْهُ بَغِيٌّ مِن بَغايا بَنِي إسْرائِيلَ، فَنَزَعَتْ مُوقَها فَسَقَتْهُ فَغُفِرَ لها بهِ]. {الرَكية: البئر. المُوق: الخُف} لم يغفر الله للرجل والمرأة لكثرة عبادةٍ، وإنما لأنهما قاما بعملين يبدوان في نظر كثيرٍ من الناس بسيطين أو صغيرين أو قليلين، قاصدين وجه الله سبحانه وتعالى، لم يستصغرا عملهما، وكانت سرعة استجابتهما مع إخلاصهما في العمل سببين لمغفرة المولى عزَّ وجلَّ.

 

قال الشاعر:

مَن يَفعَلِ الخَيرَ لا يَعدَم جَوازِيَهُ

لا يَذهَبُ العُرفُ بَينَ اللَهِ وَالناسِ

وقال آخر:

لا تَحقِرَنَّ صَغيرَةً

إِنَّ الجِبالَ مِنَ الحَصى

 

أحبتي.. لا تستصغروا عمل خيرٍ أبداً فثوابه عند الله عظيم؛ و(عمل الخير لا يضيع)؛ فلنحرص على فعل المعروف بجميع أنواعه، وعلى عمل كل خيرٍ ممكن؛ بالمال وإن قلّ، وبالجهد وإن كان بسيطاً، وبالكلمة للشكر أو النصيحة أو التوجيه والإرشاد والتعليم وإن بدت لنا صغيرةً أو غير ذات بال. ولا نحتقر من العمل شيئاً أو نستصغره؛ فاحتقار العمل أو استصغاره أو النظر إليه على أنه قليلٌ مدعاةٌ لتركه، وقد يكون من ينتظر هذا العمل شديد الاحتياج له ولو بدا لنا صغيراً أو تافهاً. ثم مَن يدري؛ لربما كانت نجاتنا في ذلك العمل اليسير. وهل أيسر من شِق تمرةٍ أو كلمةٍ طيبةٍ أو درهمٍ واحدٍ أو وجهٍ طليقٍ نتقي به النار؟

اللهم ألهمنا رشدنا وقنا شر أنفسنا، واهدنا لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها، لا يصرف عنا سيئها إلا أنت. وقنا اللهم شُح أنفسنا، وزيِّن إلينا حب عمل الخير وفعل المعروف، واقبله منا يا رب العالمين.

https://bit.ly/3DSuAoI