الجمعة، 18 مارس 2016

فن إدارة الاختلافات


18 مارس، 2016م
خاطرة الجمعة /٢٣

(فن إدارة الاختلافات)

عرفته عن قرب لسنوات طويلة وتعاملت معه كثيراً خلال فترة عملي .. كانت توجيهاته لنا دائماً سديدة .. واستطاع خلال فترة وجيزة أن يثبت أقدام مهنتنا حديثة العهد بالإمارات لتكون مهنة راسخة مطلوبة تتمتع باعتراف مجتمعي واضح، وبجهده وإخلاصه صارت مهنتنا محل تقدير عالٍ يُنظر إلى ممارسيها والعاملين بها باحترام وتقدير.
على المستوى الشخصي تشي عيناه بذكاء نادر، وكانت له القدرة على الاستحواذ على محبة من يعمل معهم، أدار مجموعة متنوعة من العلاقات الوظيفية على كل المستويات بكفاءة واقتدار كفارس يمسك بلجام الخيل يسيرها ولا تسيره .. وكان دؤوباً مثابراً .. تعلمنا منه الكثير والكثير.
وهو إلى كل ما سبق أديب وفنان له إنتاجاته المتميزة وإسهاماته التي يشهد بها الجميع.
ما ربطنا سوياً هو العمل المشترك، لكن علاقات العمل كما يعلم الجميع فيها المد والجزر، فيها الشد والجذب، فيها التوافق والاختلاف .. ولظروف خاصة .. لا أدري سبباً لها كانت نقاط الجزر والشد والاختلاف بيننا أكثر من نقاط المد والجذب والتوافق .. لعلها كيمياء العلاقات كما يُقال حيث لا يَد لنا في تعديلها أو السيطرة عليها.
استمرت العلاقات بيننا على هذا المنوال سنوات، لم أجد منه إلا طيب التعامل رغم الاختلاف .. كان بحكمته وبُعد نظره يضع الاختلاف بيننا في إطاره الصحيح باعتباره اختلاف وجهات نظر حول العمل .. لا أكثر ولا أقل .. كان كريماً في تعامله معي؛ فقد كان يملك أن يؤذيني في عملي الوظيفي لكنه لم يفعل. وكنت أقابل كرمه في تعامله معي وصبره علي بكل ما أملك من كياسة وحسن تصرف دون نفاق أو رياء أو مداهنة؛ فأنا بطبعي لا أفعل إلا ما أقتنع به، ولا أتنازل عما أراه صحيحاً أو أعتقد أنه حق مهما كانت النتائج.
مرت الإيام، ودار الزمن دورته، ووصلت بنا سفينة العمل الوظيفي إلى شاطئ التقاعد، حيث صارت علاقات العمل وما شهدته من عواصف وبرق ورعد مجرد ذكريات .. وانهزمت بما تحمله من مراراتٍ أو نشواتِ نصر مستسلمةً لواقع جديد .. أضحت تلك العلاقات جزءاً من ماضٍ استقالت أيامه وسلمت عهدتها إلى حاضر هادئ لا تشغلنا فيه خلافات أو اختلافات.
ولأن معدنه أصيل، فقد استجاب سريعاً لدعوة تواصل جمعت عدداً من زملاء العمل، لم أكن للأمانة أتصور أن يستجيب لها .. وجمع بيننا لقاء بعد سنوات طوال من البعد وعدم التواصل فإذا بالإنسان فيه لم يتغير .. وإذا برقي أخلاقه ورقة تعامله وحفاوته بي تُظهر لي جانباً رائعاً من شخصيته كان متوارياً في السابق خلف علاقات العمل .. فلما انتهت هذه العلاقات بحُلوها ومُرها ظهرت طبيعته الشخصية الإنسانية كأروع ما تكون .. وغمرتني محبته، وأسرتني مودته، واعتراني شعورٌ بالندم على تأخر ذلك اللقاء.
لقد ارتقت وتسامت العلاقات بيننا، واستمر تواصلنا، يتابعني وأتابعه من خلال مواقع التواصل الاجتماعي .. لم يَضِّن علي بتوجيه .. ولم يبخل بنصيحة .. بل لَعلي أذيع سراً إذا قلت إني مدين له بفكرة استمرار ما أكتب وأنشر بطريقة منهجية متسلسلة فلا تكون كتاباتي متناثرة متباعدة بغير رابط.
أحبتي في الله .. آية كريمة في كتاب الله كنت أتذكرها دائماً كلما تذكرت علاقتي بهذا الصديق العزيز ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾، صحيح أننا لم نصل أبداً إلى درجة العداوة والحمد لله، لكن "الدفع بالتي هي أحسن" طَوَّر هذه العلاقة وهذبها وخلصها من كثير من الشوائب. وتذكرت حديث النبي عليه الصلاة والسلام وهو يوجهنا إلى عدم الاستسلام للغضب والتمادي فيه [... الشَدِيدُ الَّذِي يَملكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ]، وتوجيهه صلى الله عليه وسلم بالبعد عن الفُجر وقت الخصام واعتبار ذلك خصلة من خصال المنافق والعياذ بالله [... وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ]، ثم توجيهه لنا في حالة الهجر [لا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاثِ لَيَالٍ، يَلْتَقِيَانِ، فَيُعْرِضُ هَذَا، وَيُعْرِضُ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلام].
الاختلاف والتنوع وتعدد الآراء سُنة كونية من سنن الخالق، يقول سبحانه وتعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾، تأملوا ﴿وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ﴾ إنه استمرار مقصود لحكمةٍ يبينها عز وجل بقوله: ﴿وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾، فهلّا تقبلنا هذه السُنة وتعلمنا (فن إدارة الاختلافات) بيننا فيتقبل كلٌ منا الآخر ولو اختلف معه في الرأي .. لا يلغيه ولا يقصيه ولا يؤذيه .. وإنما يستفيد من وجهات نظره وآرائه وأفكاره؛ فمهما كانت مساحة الاختلاف، تبقى دائماً مساحة للاتفاق والتفاهم والتكامل، وبغير هذا لا يستقيم حالٌ ولا تنهض أمة. لن أستشهد بعبارة فولتير المشهورة (قد أختلف معك في الرأي، لكني على استعداد لأن أدفع حياتي ثمناً لحقك في التعبير عن رأيك)، وإنما أستشهد بمقولة الإمام الشافعي (قولي صواب يحتمل الخطأ، وقول غيري خطأ يحتمل الصواب)، ومقولة أحمد لطفي السيد (اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية).
أحبتي .. (فن إدارة الاختلافات) يتمثل في التزامنا بهذه الآداب الإسلامية الرفيعة وتغليب الحكمة في التعامل والصبر وسعة الصدر والتماس العذر وتقديم حسن الظن والتسامح، فالحياة أقصر من أن نضيعها في تعميق "الخلافات"، وهي أجمل عندما نستثمر كل لحظة منها في الاستفادة من "الاختلافات" التي خلقنا الله عليها.
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.
تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.