الجمعة، 14 أكتوبر 2022

أفضل عبادة

 

خاطرة الجمعة /365


الجمعة 14 أكتوبر 2022م

(أفضل عبادة)

 

انتهت إجازته وركب الطائرة عائداً إلى بلده، كانت تجلس بجانبه امرأةٌ مُسنةٌ من الفلاحات. قاموا في الطائرة بتقديم وجبات الطعام ومع كل وجبةٍ قطعة حلوى بيضاء. المرأة المُسنة أمسكت بقطعة الحلوى وبدأت تأكلها بالخُبز ظناً منها أنها جبنةٍ بسبب لونها الأبيض، وعندما اكتشفت أنها حلوى شعرت بإحراجٍ شديدٍ ونظرت إلى الرجل الذي بجانبها، فتظاهر بأنه لم يرَ ما حصل.

ثوانٍ قليلةٍ ثم قام الرجل بفتح قطعة الحلوى من صحنه وقام بما قامت به المرأة المُسنة تماماً؛ فضحكتْ المرأة، فقال لها: "سيدتي لماذا لم تخبريني أنها حلوى وليست جبنة؟"، فقالت المرأة: "أنا كذلك كنتُ مثلك؛ ظننها جبنة"!

 

أحبتي في الله.. بالتأكيد كان الرجل يعرف أنها ليست جبنة، كما يعرف أنها رحلةٌ وتنتهي، ويعرف كذلك أنها مجرد امرأةٍ بسيطةٍ، لكنه كان يعرف أيضاً أن جبر الخواطر (أفضل عبادة) أراد ألا يحرم نفسه من ثوابها.

 

وهذا موقفٌ آخر من مواقف أداء هذه العبادة حدث حينما مرت امرأةٌ بجانب شابٍ مُعاقٍ ذهنياً بيده عودٌ يرسم به على الأرض؛ فأشفق قلبها عليه وسألته: "ماذا تفعل هنا؟"، قال: "أرسم الجنة وأقسمها إلى أجزاء"، فابتسمت وقالت له: "هل يمكن أن آخذ قطعة منها؟ وكم ثمنها؟"، نظر إليها وقال: "نعم القطعة بعشرين ريالاً"، أعطته المرأة عشرين ريالاً وذهبت. وفي ليلتها رأت في المنام أنها في الجنة. في الصباح قصت الرؤيا على زوجها وما جرى لها مع الشاب المُعاق؛ فقام الزوج وذهب إلى الشاب ليشتري قطعةً منه، وقال له: "أريد أن أشتري قطعةً من الجنة، كم ثمنها؟"، قال الشاب: "لا أبيع"، فتعجب الرجل وقال له: "بالأمس بعتَ قطعةً لزوجتي بعشرين ريالاً"، فقال الشاب المُعاق: "إن زوجتك لم تكن تطلب الجنة بالعشرين ريالاً، بل كانت تجبر بخاطري، أما أنت فتطلب الجنة وحسب، والجنة ليس لها ثمنٌ؛ فدخولها يمر عبر جبر الخواطر".

 

ومن الأقوال الشهيرة عن جبر الخواطر إنه "من سار بين الناس جابراً للخواطر، أنقذه الله من جوف المخاطر". وهذا موقفٌ يُبين كيف أن من يجبر الخاطر ينقذه الله بالفعل من مخاطر مؤكدة؛ فقد حدث أن شيخاً كان من أشهر الدعاة في مصر، رحمه الله، اتصل ذات يومٍ بطبيبٍ معروفٍ ليحجز للكشف عنده في العيادة، فقال له الطبيب: "لا والله يا مولانا، أنا سآتي إلى بيتك"، وبعد الكشف سأله الطبيب عن (أفضل عبادة) تُقرب المُسلم من الله، فقال له الشيخ: "فكِّر أنت"، فقال الطبيب: "الصلاة؟"، قال له الشيخ: "لا"، قال الطبيب: "الصيام؟"، قال له الشيخ: "لا"، قال الطبيب: "العُمرة؟"، قال الشيخ: "لا؛ (أفضل عبادة) هي جبر الخاطر"، تعجب الطبيب وسأل: "كيف يا مولانا؟ وما دليلك؟"، قال الشيخ: "مَن ألعن ممن يُكذِّب بالدين؟" رد الطبيب: "لا أحد"، قال الشيخ: "يقول الله: ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ﴾، ماذا يفعل؟ ﴿فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ﴾، يعني: يكسر خاطر اليتيم، ﴿وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾، يعني: يطرد المساكين، ولا يجبر خواطرهم، ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ﴾، فجعل أمر الصلاة الأمر الثالث بعد أمرين كان فيهما جبرٌ للخواطر. يقول الطبيب الذي يروي القصة أنه بعد ذلك بعدة أيام، وكان يوم إجازة، تلقى مكالمةً من جاره يقول له: "اجبر بخاطري يا دكتور؛ حاول الذهاب إلى حماتي عندك في المُستشفى مريضة، اطمن عليها وطمّنا"، يقول: "فتذكرتُ نصيحة الشيخ وحديثه عن جبر الخواطر حين جاءت كلمة جبر الخاطر على لسان جاري، فأحسستُ إنها إشارةٌ من الله، فقررتُ الذهاب إلى المُستشفى لأطمئن على حماته، وعندما كنتُ في المُستشفى، شعرتُ بألمٍ شديدٍ في صدري، لقد كانت جلطةً في الشُريان التاجي، فأعطاني الطبيب الدواء وأنقذني من الجلطة، فلو أن تلك الجلطة جاءتني ولم أكن وقتها في المُستشفى، لكنتُ ميتاً، فكأن الله يقول لي: {كما جبرتَ بخاطر جارك، جبرتُ أنا بخاطرك وأنقذتُ حياتك}".

 

وعن أساليب جبر الخواطر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أحبُّ الناسِ إلى اللهِ أنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ، وأحبُّ الأعمالِ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ سُرُورٌ يدْخِلُهُ على مسلمٍ، أوْ يكْشِفُ عنهُ كُرْبَةً، أوْ يقْضِي عنهُ دَيْنًا، أوْ تَطْرُدُ عنهُ جُوعًا، ولأنْ أَمْشِي مع أَخٍ لي في حاجَةٍ أحبُّ إِلَيَّ من أنْ اعْتَكِفَ في هذا المسجدِ -يعني مسجدَ المدينةِ- شهرًا، ومَنْ كَفَّ غضبَهُ سترَ اللهُ عَوْرَتَهُ، ومَنْ كَظَمَ غَيْظَهُ، و لَوْ شاءَ أنْ يُمْضِيَهُ أَمْضَاهُ مَلأَ اللهُ قلبَهُ رَجَاءً يومَ القيامةِ، ومَنْ مَشَى مع أَخِيهِ في حاجَةٍ حتى تتَهَيَّأَ لهُ أَثْبَتَ اللهُ قَدَمَهُ يومَ تَزُولُ الأَقْدَامِ، وإِنَّ سُوءَ الخُلُقِ يُفْسِدُ العَمَلَ، كما يُفْسِدُ الخَلُّ العَسَلَ].

 

ولعل من أجمل ما قرأتُ عن جبر الخواطر ما قاله أحد التابعين: "إن الرجل ليحدثني بالحديث فأُنصتُ له كأني لم أسمعه قط، وقد سمعته قبل أن يولد".

 

أحبتي.. يقول أحد العابدين: "ما رأيتُ عبادةً أجّل ولا أعظم من جبر الخواطر. وما رأيتُ عبادةً يتقرب بها العبد إلى ربه مثل جبر خاطر أخيه المسلم".

ويقول العلماء إن جبر الخواطر خُلُقٌ إسلاميٌ عظيمٌ يدل على سمو نفسٍ، وعظمة قلبٍ، وسلامة صدرٍ، ورجاحة عقلٍ، يجبر المسلم فيه نفوساً كُسرت، وقلوباً فُطرت، وأجساماً أُرهقت، فما أجمل هذه العبادة، وما أعظم أثرها! إن إماطة الأذى عن مشاعر وقلوب الناس لا يقل درجةً عن إماطة الأذى عن طريقهم. ‏اجبروا الخواطر؛ فتلك (أفضل عبادة)، راعوا المشاعر، ‏وانتقوا كلماتكم، ‏وتلطفوا بأفعالكم، ‏ولا تؤلموا أحداً، وقولوا للناس حُسناً، ‏عيشوا أنقياء أصفياء؛ فنحن جميعاً سنرحل وتبقى آثارنا. وأعجبني قول أحدهم: جبر الخاطر - الذي هو (أفضل عبادة) - لا يحتاج إلى كثير جهدٍ ولا كبير طاقةٍ، فربما تكفي البعض كلمةٌ طيبةٌ أو دعاءٌ بإخلاصٍ أو توجيهٌ وإرشاد، وربما يحتاج البعض الآخر إلى مساعدةٍ أو مال أو قضاء حاجة، ويكتفي البعض بابتسامةٍ صافيةٍ حانيةٍ، فعلينا أن نجتهد بإدخال الفرح والسرور إلى قلوب إخواننا، ولا نبخل على أنفسنا، فالصدقة والخير نفعه يعود إلينا.

أحبتي.. اجبروا خواطر بعضكم بعضاً، واحتسبوا الأجر والثواب من الله سُبحانه وتعالى.

https://bit.ly/3D0iMRO