الجمعة، 8 مارس 2019

اللهم عليك توكلنا


الجمعة 8 مارس 2019م

خاطرة الجمعة/ ١٧٧
(اللهم عليك توكلنا)

امرأةٌ سُجن زوجُها، ومَرِض ابنُها وارتفعت حرارته جداً، وكانت في بيت أبيها وحالتهم من أفقر ما يمكن، فلم يكن لها ولابنها عونٌ إلا الله؛ فكانت تتوكل عليه وتدعوه عزَّ وجلَّ، وتضع في ذات الوقت الكمادات لابنها لتخفيض حرارته. في منتصف الليل يُطْرَق الباب، فإذا بالباب طبيبٌ يسأل: "أين المريض؟"، فأدخله أبوها؛ ففحص الولد، وكتب له الدواء، وطلب حسابه، وهم لا يدرون من استدعى الطبيب أصلاً! فقالوا له: "واللهِ ما نملك شيئاً"، فغضب وقال: "إذن لماذا تستدعونني في مثل هذا الوقت من الليل؟"، فقالوا له: "والله ما استدعيناك واستغربنا مجيئك!"، فسألهم: "أليس هذا منزل فلان؟"، فقالوا له: "إن منزله في الأعلى". فانتبه الطبيب إلى أن الله عز وجل أرسله إلى هؤلاء الفقراء؛ ليكون بإذنه تعالى سبباً في شفاء ابنهم، سألهم الطبيب عن أحوالهم وعرف منهم أن والد الطفل سجين؛ فقام جزاه الله خيراً بشراء الدواء، وخصص لهم مبلغاً شهرياً إلى أن يخرج عائلهم من السجن. فسبحان الرزاق الكريم الذي يدهشنا عندما نخلص التوكل عليه؛ فهؤلاء كان لسان حالهم يقول: (اللهم عليك توكلنا).

وهذه قصةٌ أخرى من قصص التوكل على الله؛ حيث يُحكى أنه كان هناك ملكٌ عنده وزيرٌ يتوكل على الله في جميع أموره، ويحمد الله على كل حال. في يومٍ من الأيام انقطع للملك أحد أصابع يده وخرج دمٌ غزيرٌ، وعندما رآه الوزير قال: "خير خير إن شاء الله"، فغضب الملك على الوزير، وقال له: أين الخير والدم يجري من إصبعي؟ وأمر بسجنه، فما كان من الوزير إلا أن قال كعادته: "خير خير إن شاء الله"، وذهب إلى السجن. وكعادة الملك في كل يوم جمعةٍ ذهب إلى النزهة وحط رحله قريباً من غابةٍ كبيرةٍ، وبعد استراحةٍ قصيرةٍ دخل الملك الغابة، وكانت المُـفاجأة أن الغابة بها ناسٌ يعبدون صنماً لهم، وكان ذلك اليوم هو يوم عيد الصنم، وكانوا يبحثون عن قربانٍ يقدمونه للصنم، وصادف أنهم وجدوا الملك فألقوا القبض عليه لكي يقدمونه قرباناً إلى صنمهم، لكن حين رأوا إصبعه مقطوعاً قالوا هذا فيه عيبٌ ولا يُستحسن أن نقدمه قرباناً، وأطلقوا سراحه. حينها تذكر الملك قول الوزير عند قطع إصبعه "خير خير إن شاء الله". عندما رجع الملك من الرحلة أطلق سراح الوزير من السجن، وأخبره بالقصة التي حدثت له في الغابة، وقال له فعلاً كان في قطع الإصبع خيرٌ لي، ولكن دعني اسألك سؤالاً: وأنت ذاهبٌ إلى السجن سمعتك تقول "خير خير إن شاء الله" فأين الخير وأنت ذاهبٌ إلى السجن؟ قال الوزير: أنا وزيرك ودائماً معك، ولو لم أدخل السجن لكنت معك في الغابة؛ ولقبض عليّ عَبَدَة الصنم وقدموني قرباناً لآلهتهم فأنا لا يوجد بي عيبٌ؛ لذلك كان دخولي السجن خيراً لي.
أنجاه الله سبحانه وتعالى لأنه من أهل (اللهم عليك توكلنا).

أحبتي في الله .. إنه التوكل على الله حق توكله؛ يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ﴿وَمَن يَتوكّل عَلى الله فَهو حَسبهُ﴾، ويقول تعالى: ﴿فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ﴾، ويقول سبحانه: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً﴾، ويقول عز وجل: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ﴾. بل وجعل الله التوكل شرطاً لصحة الإيمان؛ فقال سبحانه: ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾، وقال موسى عليه السلام لأتباعه: ﴿فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ﴾.
وقال النَّبي صلى الله عليه وسلم: [لو أنكم تتوكّلونَ على اللهِ حقَّ توكلهِ، لرزقكُم كما يرزقُ الطيرُ، تغدُو خماصًا، وتروحُ بطانا]. وقال صلى الله عليه وسلم: [مَنْ سَرَّه أنْ يَكُونَ أقْوَى النَاسِ فَلْيَتَوكلْ عَلَى اللهِ].
وظهر التوكل على الله في أروع صوره يوم الهجرة، عندما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهما في الغار: لو نظر أحد المشركين تحت قدميه لرآنا، قال له النبي: [يَا أَبَا بَكْرٍ، مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا؟].

التوكل لغةً هو إظهار العجز والاعتماد على الغير. يقال توكل فلانٌ بالأمر إذا ضمن القيام به، ووكلت أمري إلى فلانٍ إذا اعتمدت عليه، ووكّل فلانٌ فلاناً إذا استكفاه أمره ثقةً بكفايته، أو عجزاً عن القيام بأمر نفسه.
يقول أهل العلم أن التوكل على الله عز وجل هو سِمةُ العبد الصادق، وبه أمر الله الأنبياء والمؤمنين، والتوكل: هو صدق اعتماد قلب المسلم على الله سبحانه في استجلاب المصالح، ودفع الضرر من أمور الدنيا والآخرة، وتوكيل جميع أموره إليه، وإيمان العبد إيماناً جازماً بأنه لا يُعطي إلا الله، ولا يَمنع إلا الله، ولا يَنفع غيره سبحانه، ولا يَضر سواه. قيل: "التوكل قوام الإيمان"، وقيل: "غايةُ المؤمن القصوى التوكل"، وقيل: "معنى توكل العبد على الله أن يعلم العبد أنَّ الله هو ثقتهُ". وقيل: "التوكل على الله هو الثقةُ بهِ، والاستسلامُ لأمرهِ، ويقين العبدِ بأنَّ قضاءهُ عليهِ ماضٍ"؛ فالتوكل على الله دليلُ صحةِ إيمان العبدِ وصلاح قلبهِ، وهو اعتراف العبد الكامل بربوبية الله، وتسليمه كل أموره للخالقِ الواحد، المتصرف بجميعِ أمورهِ، والمدبر الوحيد لأحوالهِ، صغيرها وكبيرها. ويكون التوكل على الله بعد الأخذ بالأسباب؛ يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ﴾ وهو القادر على نصرة عباده المؤمنين من غير قتالٍ، لكنه مبدأ الأخذ بالأسباب. وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى رجلاً قد ترك ناقته ببابِ المسجد؛ فسأله رسول الله عنها فقال: أطلقتها وتوكّلت على الله. فقال عليه الصلاة والسلام له: [اعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ]. يظن بعض الناس أن التوكل يعني تعطيل الأسباب، لكن تحقيق التوكل لدى العبد لا ينافي السعي والأخذ بالأسباب، التي قدَّر الله عزّ وجل المقدورات بها، وجرت سنة الله في خلقهِ بذلك، فالله سبحانه وتعالى أمر العبد بالأخذ بالأسباب، كما أمرهُ بالتوكلِ عليه سبحانه، فالسعي في الأسباب يكون بالجوارحِ طاعةً لهُ، والتوكل على الله يكون بالقلبِ إيماناً بهِ سبحانه، قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ﴾، وقال سبحانه: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ﴾، وقال سبحانه: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ﴾. والمتأمل في قصة موسى عليه السلام لما واجه البحر، وفي قصة مريم عليها السلام لما ولدت، يجد أنهما أُمرا بفعل أدنى سببٍ؛ فموسى أُمر بضرب الحجر، ومريم أُمرت بهز الجذع. ويغفل الكثير من الناس عن التوكل على الله سبحانه وتعالى، ويقفون على الأسباب الظاهرة المحيطة بهم، ويُتعبون أنفسهم بالأخذِ بالأسباب، ويجتهدون غايةَ الاجتهادِ، ومع هذا كله لا يأتيهم إلا ما كتبهُ الله وقدَّرهُ لهم، ولو أنَّهم إلى جانب أخذهم بالأسباب حققوا التوكل على الله سبحانه بقلوبهم لساق الله إليهم أرزاقهم، مع أدنى وأصغر سببٍ، كما يَسوق للطيور أرزاقها، بمجردِ الغدو والرواح وهو سعيٌ للرزقِ يسير.
يقول العلماء: ليكن عملك هنا ونظرك في السماء. وليس معنى الأخذ بالأسباب الاعتماد عليها، بل الطريقة المثلى في التصور الإسلامي أن يقوم المسلم بالأسباب كأنها كل شيءٍ في النجاح، ثم يتوكل على الله كأنه لم يقدم لنفسه سبباً، ولا أحكم خطةً، ولا سد ثغرةً.
يقول العارفون بالله أن التوكل على الله يتحقق بإيمانِ العبد بأنَّ ما كتب الله سبحانه نافذٌ، وما قدّره الله له كائنٌ، وإن بدت الأمور بعكس ما يريد العبد فعليه الإيمان بأنَّ الله سبحانه قد اختارَ لهُ الأفضل. قال تعالى: ﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾. ويتحقق التوكل بمعرفةِ المسلم أنَّ بتوكلهِ هذا ينالُ رضا الله سبحانه ومحبته، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ ويُجازى المتوكل بالجنة، والتي هي أسمى أماني المؤمن، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ . الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾. ويتحقق التوكل بشعور العبد بضعفهِ، وفقرهِ، وحاجته لله سبحانه وتعالى، فمهما بلغ من أسباب القوة يبقى ضعيفاً، ويحتاج إعانة الله له في أمور حياته، وفي التغلب على مصائبهِ، وكروبهِ، قال تعالى: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا﴾. التوكل على الله يجلب الرزق التوكل على الله يجلب للمسلم الرزق الكثير، فهو يعلم أنَّه لا يضرُّ ولا ينفعُ إلا الله سبحانه، ولا يُعطي ولا يَمنع إلا الله سبحانه، فيتوكل عليه، ويأخذ بالأسبابِ التي تُعينه على ذلك.

أحبتي .. يلخص لنا أحد الصالحين أمر التوكل على الله بكلماتٍ بسيطةٍ؛ يقول: "على المسلم أن يتذكر أن ليس هناك تعارضٌ بين التوكّلِ والأخذ بالأسباب، وعليه أن يأخذ بالأسباب وإن كانت في نظرهِ ضعيفةً أو ليس لها تأثيرٌ، لكنه لا يعتمد بشكلٍ أساسي وقاطعٍ على الأسباب فقط وإنَّما يعتمدُ في البداية والنهاية على الله سبحانه، مع أخذهِ بالأسباب، فالله يُقدّر الأمور بأسبابها".
ونقول نحن: (اللهم عليك توكلنا) فاكتبنا من المتوكلين عليك، المنيبين إليك، الواثقين بقدرتك، الساعين لرضاك، الطامعين في جنتك.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

https://goo.gl/oFVz5z