الجمعة، 16 أغسطس 2024

عطاء الله

 

خاطرة الجمعة /460

الجمعة 16 أغسطس 2024م

(عطاء الله)

 

تقول صاحبة القصة: بعد تخرجي من الجامعة بتقدير جيد جداً، والتحاقي بعملٍ مناسبٍ وانشغالي به، وعدم إيجادي أياً من مواصفات الشريك المُناسب فيمن تقدّموا لي، زاد انشغالي بعملي الذي أُحبه حتى بلغتُ الرابعة والثلاثين من عُمري، إلى أن تقدّم لخطبتي شابٌ يكبرني بعامين يمرّ بظروفٍ صعبةٍ مالياً، لكني رضيتُ خوفاً من فوات فرصة الزواج. بعد الاتفاق على موعد عقد القران، وانشغالي بالترتيبات، اتصلت بي والدته وطلبت مقابلتها بأسرع وقت، ذهبتُ لأقابلها رغم عدم معرفتي سبب إصرارها على مقابلتي خارج المنزل، بدا على وجهها الضيق بشكلٍ واضحٍ، حاولتُ التحدث بمواضيع مختلفةٍ لتخفيف التوتر، لكنها وبشكلٍ مفاجئٍ طلبت مني رؤية بطاقتي الشخصية، وكان أول سؤالٍ منها: "هل تاريخ ميلادي فيها صحيح؟"، أجبتها: "نعم"، قالت: "إذاً أنتِ تقتربين من الأربعين من العُمر"، صدمتني بجملتها، لكنني حاولتُ أن أتمالك نفسي وأجبتها: "أنا في الرابعة والثلاثين فقط"، قالت: "لن يختلف الأمر فقد تجاوزتِ الثلاثين، وقلّت فرص إنجابك، وأريد أن أرى أحفادي". وهكذا انتهى الحديث بيننا بفسخ الخطوبة. مرت عليّ ستة أشهرٍ عصيبةٍ مليئةٍ بالاكتئاب والحزن، لاحظ والدي تغير حالي فاقترح عليّ الذهاب لأداء العُمرة أغسل بها الحزن والهمّ، وأُحسِّن نفسيتي.

بعد أيامٍ ذهبنا فعلياً وأدينا العُمرة، وجلستُ في البيت العتيق أُصلي وأبكي وأدعو الله أن يُهيئ لي من أمري رشداً، أنهيتُ صلاتي، ولفت انتباهي صوت امرأةٍ ترتّل: ﴿وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾ بصوتٍ فائق الجمال، فقدتُ السيطرة على نفسي فبكيتُ رغماً عني، اقتربت هذه السيدة مِني، وأخذت تُردد قول الله تعالى: ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ﴾، هدأت نفسي وكأنني أسمعها لأول مرة.

عُدنا إلى «القاهرة»، وصلنا إلى المطار، وبعد نزولنا من الطائرة وجدنا زوج صديقتي في صالة الانتظار، سأله والدي عن سبب مجيئه فأجابه بأنه في انتظار صديقٍ عائدٍ على نفس الطائرة التي جئنا بها، جاء صديقه لأجد أنه كان جارنا في مقاعد الطائرة. غادرنا المطار، وما إن وصلنا إلى المنزل إذ بصديقتي تتصل بي لتقول لي إن صديق زوجها أُعجب بي، ويرغب برؤيتي في بيتها في نفس الليلة لأنّ خير البر عاجله. استشرتُ والدي في الأمر، فشجعني على الذهاب ففعلت. لم تمضِ أيامٌ حتى تقدّم لخطبتي، وأتممنا أمور الزواج خلال شهرين لا أكثر، وبدأت حياتي الزوجية بتفاؤلٍ؛ إذ وجدتُ في زوجي كل ما أردت. مرت شهورٌ ولم تظهر أي علاماتٍ للحمل، كنتُ قلقةً خاصةً أني تجاوزت السادسة والثلاثين، ما دفعني لأن أطلب من زوجي إجراء بعض التحاليل والفحوصات، لم يرفض طلبي وذهبنا سوياً إلى طبيبةٍ مختصةٍ، وعند استلام النتائج فاجأتنا بخبر حملي!

أثناء حملي حرصتُ على ألّا أعرف نوع الجنين لإيماني بأن كل ما سيأتيني من الله خير، وكلما شكوتُ لطبيبتي من إحساسي بكبر حجم بطني فسرّته بسبب تقدّمي في السن. مرت الشهور بصعوبتها إلى أن حان موعد ولادتي، وأجريتُ عملية ولادة قيصرية بنجاحٍ، ونُقلتُ إلى غرفتي في المستشفى بانتظار رؤية طفلي، جاءت الطبيبة تستفسر مني عن نوع الجنين الذي أرغب، فأجبتها بأني تمنيتُ من الله مولوداً يتمتع بصحةٍ جيدةٍ فقط ولا يهمني نوعه، فكان ردها صادماً: "ما رأيك في أنكِ أنجبتِ ثلاثة توائم!!"، لم أدرك ما قالته، فطلبت مني التحكم بردود فعلي، إذ أن الله تعالى قد عوّضني بثلاثة أطفالٍ دفعةً واحدةً رحمةً منه، وأخبرتني أنها كانت على علمٍ بأني حاملٌ بتوأمٍ لكنها لم تُبلغني بذلك؛ حتى لا أتوتر خلال حملي، تذكرتُ لحظتها قوله تعالى: ﴿وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا﴾.

 

أحبتي في الله.. ونِعْمَ بالله؛ إنه (عطاء الله) الذي إذا أعطى أدهش بعطائه. وعن العطاء يقول تعالى مخاطباً سيدنا سليمان: ﴿هَـٰذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ أي: هذا الذي أعطيناك من المُلك التام، والسلطان الكامل؛ كما سألتنا. ويقول سُبحانه واصفاً ثواب المؤمنين: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ ۖ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾ غير مجذوذٍ أي غير مقطوع. ويقول أيضاً: ﴿كُلًّا نُّمِدُّ هَـٰؤُلَاءِ وَهَـٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ ۚ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا﴾ أي أن رزق ربك ليس ممنوعاً ولا منقوصاً عن جميع عباده في الدنيا؛ سواءً منهم من يُريد الدنيا ومن يريد الآخرة، ثم يختلف بهما الحال في المآل، فالعطاء لطْفٌ إلهيٌّ لا يُشترط فيه الاستحقاقُ والأهلية. ويقول واصفاً عطاءه لعباده المؤمنين: ﴿جَزَاءً مِّن رَّبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا﴾ أي جازاهم جزاءً كثيراً كافياً ووافياً.

 

ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: [إنَّ اللهَ ليُعطي الدُّنيَا مَن يُحبُّ ومَن لا يُحبُّ، ولا يُعطِي الدِّينَ إلَّا مَن يُحبُّ، فمَن أعطاه اللهُ الدِّينَ فقد أحبَّه] فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم، فلو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضةٍ ما سقى كافراً منها شربة ماء.

 

ولأن الدنيا بطبيعتها دار ابتلاءٍ وليست بالضرورة دار ثوابٍ وعطاء، يقول العُلماء إنه ومهما كان العطاء الدنيوي كثيراً فإنه يبقى أشبه بالعدم في مُقابل العطاء الأُخروي؛ ولذلك سمى القرآن العطاء الدُنيوي متاعاً، وسماه متاعاً قليلاً، وسماه متاع الغرور، لأن من طبيعة العطاء الدنيوي -بخلاف الأخروي- أنه قليل القدر، قصير المُدة، وعَكِرٌ لا صفاء فيه.

 

ويقول العارفون عن (عطاء الله):

"عطاء الله مُدهِشٌ، وعوض الله عزيزٌ لا حدَّ له ولا مُنتهى؛ فلا أحد ييأس ويستصعب شيئاً أمام قُدرة الله، إذا جعلك تصبر كثيراً تأكَّد أنَّك ستنال ضعف ما كنتَ تتمنَّى وستندهش من كرمه". "إنما الأعمال، والأرزاق، والحياة كلها بالنيَّات؛ يُعطي الله كل شخصٍ على قدر نيته، فلا تتعجب عندما يُنجيك الله من أي أزمةٍ تُقابلك، لا تتعجب عندما تجد الخير يُلاحقك دون سببٍ واضحٍ، طالما أن نيتَّك صافيةٌ وقلبك سليمٌ، وتُعامل الناس بقلبك، وتُحب الخير للجميع، ولا تحمل ذرة كُرهٍ لأحد، ستجد كرم الله يُلاحقك أينما ذهبت، ودون أي سببٍ واضحٍ، فقط لأنك صافي القلب والنيَّة". ‏"إن الله يُعطي العبد على نيته ما لا يُعطيه على عمله؛ لأن النية لا رياء فيها، فجمِّلوا نواياكم بالنقاء والطُهر فهي تُعرض على الرحمن". ‏"الله عندما يُعطي قد يُعطيك ما تحتاجه وليس ما تريده، وفرقٌ بين العطائين؛ فلا تعلم ما ينفعك أو يضرك، تطلب من الله ما تظن أنه خيرٌ لك فيعطيك ما يعلم أن فيه الخير لك". "عندما يُعطيك الله ما هو أعلى من سقوف أُمنياتك، عوِّد قلبك على الشكر، عوِّد قلبك على أن يوقن أنك إذا حَمدتَ واهب نعمتك؛ سيُغنيك، ويزيدك، ويُكرمك". و"(عطاء الله) قد يتأخر، لكن عندما يُعطي يُدهشك بعطائه!".

 

ويقول الشاعر عن (عطاء الله):

وإني لأدعو الله حتى كأنني

أرى بجميل الظنِ ما الله فاعلُهْ

أمدُ يدي في غيرِ يأسٍ لعله

يجودُ على عاصٍ كمثلي يواصلُهْ

وأقرعُ أبوابَ السماواتِ راجياً

عطاءَ كريمٍ قطُّ ما خابَ سائلُهْ

فيا ليتَ شِعري كيف ينساهُ عاقلٌ!؟

ونعماؤه تترى وتترى جَمائلُـهْ

 

أحبتي.. فليقترب كلٌ منا من الله سُبحانه وتعالى أكثر وأكثر؛ فكلما اقترب بإخلاصٍ ويقينٍ أدهشه الله بعطائه. وحذارِ أن يكون منا من يعبد اللهَ تعالى لمصلحةٍ دنيويةٍ طامعاً في (عطاء الله)، فمتى تحققت مصلحته عاد إلى ما كان عليه، بعيداً عن طريق الله! وحذارِ أن يكون منا من يعبد الله اختباراً له سُبحانه بغيرٍ يقينٍ ولا ثقةٍ فيه فهو يُجرِّب إلهه؛ إذا أصابته مصيبةٌ ارتد عن طريق الصواب الذي بدأه للتو! بل يجب أن يكون إسلامنا إسلام المخلوق لخالقه، ومُدبِّر أمره ورازقه، بكل إخلاصٍ وبكل يقين.

اللهم أتمم علينا عطاياك ظاهرةً وباطنةً، وبارك لنا فيها، ولا تحرمنا عطاياك لقلة شكرنا وغفلتنا.

https://bit.ly/4cuLrg0