الجمعة، 19 مارس 2021

كفارة اليمين

 

خاطرة الجمعة /283


الجمعة ١٩ مارس ٢٠٢١م

(كفارة اليمين)

 

يقول راوي القصة:

اضطررتُ للعمل وأنا أحضر للماجستير فعملتُ في جمعيةٍ خيريةٍ، وكانت وظيفتي في استقبال التبرعات الخاصة بالأعمال الخيرية، والمشاركة في توزيعها، فضلاً عن تنظيف المكان، وترتيباتٍ إداريةٍ أخرى. وكان إذا حلَّ المساء جلستُ مستقبلاً المتبرعين. في أحد الأيام دخل عليّ رجلٌ وألقى التحية؛ فرددتُ التحية بأحسن منها! سألني: "هل يُدفع هنا لكفارة اليمين؟ وهل تكفي خمسمائة ليرة لذلك؟ فقد أُخبرت أنها مقدار الكفارة"، قلتُ له: "لا يجوز إخراج (كفارة اليمين) نقداً؛ لذا فإنه يمكن لك أن توكلنا لننوب عنك في إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم"، وذكرتُ له الآية الكريمة: ﴿لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾، قال: "أتنصحني بأن أوكلكم"؟ قلتُ: "أنصحك بالأفضل من ذلك؛ أن تذهب بنفسك وتشتري طعاماً لذيذاً يشتاقه أهلك، وتجهزه، ثم تبحث بنفسك عن مساكين توصله إليهم، والإطعام يوجب حُسن العِشرة، فتعرف عليهم"، رد عليّ قائلاً: "سأفعل بإذن الله"، قلتُ: "حسناً تفعل، واعلم أن القيام بمثل هذا العمل، مع مشقته لا يكون كفارةً فحسب، بل ويكون حرزاً بإذنه تعالى عن الوقوع بمثله في المستقبل"، فقال لي: "صدقني؛ لا يخلو شهرٌ من كفارة يمينٍ أرصد لها من الميزانية خمسمائة ليرة!".

ذهب الرجل، ثم التقيتُه بعد مدةٍ فسألتُه: "ما فعلتَ بكفارة اليمين"؟ فأخبرني أنه ذهب إلى الجزار واقتطع لحماً، وذهب به إلى خبازٍ ليعده طعاماً جاهزاً، وتجوَّل في السوق آخذاً معه بعض الفاكهة، وما يُشارَك على المائدة، وكان يُحدِّث نفسه وهو يشتري؛ فيقول: "هذا يحبه ابني، وهذ تستطيبه ابنتي"، وامتلأت يداه طعاماً لذيذاً يُحَبُ للأهل، ثم توجه إلى مختار الحي وسأله عن عائلةٍ فقيرةٍ فأرشده إلى عائلةٍ تسكن على سطح بناءٍ، وعددهم يقارب العشرة. توجه إليهم وبدأ يصعد الدرج ونفسه فَرِحة؛ يقول: "واللهِ إني لأشعر أنني أحقق مراد الله من الآية". وصل السطح وقد تعب من صعود الدرج، ووجد أمام الباب أطفالاً بثيابٍ رثةٍ يلعبون، أسرعوا مهرولين للداخل، فصاح الرجل مستأذناً أهل الدار، فأجابه رجلٌ عجوزٌ: "تفضل! من تريد"؟ قال: "عفواً، أنا أتيتُ لزيارتكم"، استغرب الرجل العجوز وقال: "أهلا وسهلاً، ولكن نأسف فلا شيء يليق عندنا باستقبال الضيوف"، فأجابه الرجل: "بل أنتم أهلٌ، والمكان بأصحابه"، واستأذن دقيقةً ليأخذ له طريقاً. بعد قليلٍ قيل له تفضل، والخجل يعلو وجه العجوز لما يفقد المكان من حُسن الضيافة. فلما دخل الرجل، إذا هي غرفةٌ واحدةٌ، في زاويةٍ من زواياها مربعان صغيران لعلهما المطبخ والحمام، وانزوى الجميع في زاويةٍ، الأطفال جلسوا حول أمهم وجِدَتهم، ومعاقٌ في طرفٍ متمدد، حصيرٌ مهترئٌ، واسفنجٌ رقيقٌ. بيتٌ خالٍ من كل شيءٍ؛ لا موقد ولا ثلاجة ولا أي شيءٍ .. يا الله.. يا الله.. أي فقرٍ هذا؟ وأي حاجةٍ؟ وأي طعامٍ أحمل في يدي؟ واخجلتاه من هذا الطعام! تمالك نفسه وجلس يسايرهم ويسأل عن أسمائهم واقترب من المعاق مُقَبِّلاً رأسه. وأشار العجوز عليهم بأن يصنعوا قهوةً أو شاياً ترحاباً بالضيف المجهول. فقلتُ: "لا يمكن قبل تناول الطعام، فهذا طعامٌ بمناسبة نجاح ابني، وأنا أوزعه في الجوار؛ فتقبلوه هديةً واسمحوا لي بالمغادرة لأنني مكلفٌ بإيصال طعامٍ للأقارب"، تقبل العجوز جد الأيتام الهدية بخجلٍ، وعانق الرجل الذي وعده بزيارةٍ قريبةٍ. يقول الرجل: "حبستُ أنفاسي ودموعي حتى غادرت؛ ولم أتمالك نفسي في حبس دموعي وأنا أنزل الدرج، يا الله!! كم نُقَصِّر في شكر نعمائك!! كم نُقَصِّر في الإحسان للمساكين من خلقك!! يا الله ما أكرمك!! حتى في الكفارة تُحسن وتُصلح خلقك"!!

يقول الرجل: "رجعتُ إلى بيتي، وحدثتُ إخوتي وأهلي عما حدث معي، ثم جمعتُ خير الأثاث ومتطلبات بيتٍ مع بعض الأطعمة الممونة وألبسةً وفرشاً، وزهدت نفسي بكل ما عندي، وتمنيتُ لو أهبه كله لهم". في المساء وصلت سيارةٌ كبيرةٌ أسفل مسكن العجوز والأيتام، وبدأ العمال ينقلون الهدية الجديدة، وعيون الأطفال ترقبهم، ونظرات الجميع تنبيء عن سرور.

ومنذ ذلك الوقت، وهو يتعهدهم بالسؤال، وصار يزورهم وكأنهم من الأرحام. قال لي ودمع عينيه يسابق كلامه: "سبحانه هو الحكيم، وجزاك الله عني خيراً، وواللهِ أول مرةٍ أشعر أني أُكَفِّر عن اليمين بحق".

 

أحبتي في الله .. إن للأحكام، في كتاب الله وسُنة رسوله، أسراراً وحِكماً عظيمةً؛ لا تُدرَك إلا بالإتيان بها على وجهها المأمور به، ومن ذلك أحكام (كفارة اليمين).

 

واليمين -كما يقول أهل العلم- له أنواعٌ:

اليمين الغموس: هي المحلوفة على ماضٍ مع كذب صاحبها وعلمه بالحال، وسُمِّيت هذه اليمين غموسًا؛ لأنها تغمس صاحبها في الإثم، والإتيان بهذه اليمين حرامٌ وكبيرةٌ من الكبائر؛ لما فيها من الجرأة العظيمة على الله تعالى، ويجب على من اقترف هذه اليمين أن يتوب إلى الله عزَّ وجلَّ ويندم على ما فعله، ويعزم على عدم العودة إلى مثله، وعليه (كفارة اليمين).

ويمين اللغو: وهي التي يسبق اللسان إلى لفظها بلا قصدٍ لمعناها؛ كقولهم: "لا والله" و"بلى والله" في نحو صلة كلامٍ أو غضبٍ، سواءً أكان ذلك في الماضي أو الحال أو المستقبل، وهذه اليمين لا إثم على قائلها، ولا كفارة عليه.

واليمين المعقودة: وهي كل يمينٍ لا تُعَدُّ لغوًا. ومَن حلف يمينًا معقودةً على أمرٍ وحنث فيها، تكون (كفارة اليمين) واجبةً عليه، ويُخَيَّر فيها بين ثلاثة أمور:

-إطعام عشرة مساكين من أوسط ما يُطعم أهله، فيعطي كل مسكينٍ نصف صاعٍ من غالب طعام البلد، كالأرز مثلاً، ومقداره كيلو ونصف تقريباً، وإذا كان يعتاد أكل الأرز مثلاً ومعه إدام وهو ما يُسمى في كثيرٍ من البلدان "الطبيخ" فينبغي أن يعطيهم مع الأرز إداماً أو لحماً، ولو جمع عشرة مساكين وغداهم أو عشاهم كفى.

-كسوة عشرة مساكين، فيكسو كل مسكينٍ كسوةً تصلح لصلاته، فللرجل قميصٌ "ثوب" أو إزارٌ ورداءٌ، وللمرأة ثوبٌ سابغٌ وخمار.

-تحرير رقبة مؤمنة.

وبما أنّ الرّقبة في هذا الزمان تكاد تكون معدومةً وغير موجودةٍ؛ فإنّ الإنسان الذي لزمته كفّارة اليمين مخيّرٌ بين الإطعام أو الكسوة، فإن لم يقدر على أيٍّ منهما وجب عليه حينها صيام ثلاثة أيّامٍ متتابعة.

وجمهور العلماء على أنه لا يُجزئ إخراج الكفارة نقوداً؛ لأن الله ذكر الطعام فلا يحصل التكفير بغيره، ولأن الله خَيَّرَ بين الأشياء الثلاثة، ولو جاز دفع القيمة لم يكن التَخْييرُ منحصراً في هذه الثلاثة.

 

ومن صيغ اليمين: واللهِ، باللهِ، تاللهِ، وربِ العالمين، والحي الذي لا يموت، ونحو ذلك من أسماء الله عزَّ وجلَّ. أو من صفاته مثل: وعظَمةِ الله، وعزةِ الله، ورحمةِ الله، وقدرةِ الله، ونحو ذلك. أو يحلف بكتاب الله، أو القرآن، أو المصحف؛ لأنها كلام الله سبحانه وتعالى.

إن الإنسان عند حلف اليمين أمامه أمران لا ثالث لهما: إما الحلف بالله، وإما السكوت وعدم الحلف بغيره، ولو كان ذلك الغير بالغاً من التعظيم اللائق به ما بلغ؛ كأنبياء الله ورسله وملائكته والكعبة، فلا يجوز أن يقول المسلم في حلفه: والنبي، وجبريل، والكعبة، وبيتِ الله، وحياتي، وحياتك، وحياة فلان، وغير ذلك من المخلوقات؛ قال صلى الله عليه وسلم: [ألا إنَّ اللَّهَ يَنْهاكُمْ أنْ تَحْلِفُوا بآبائِكُمْ، مَن كانَ حالِفًا فَلْيَحْلِفْ باللَّهِ أوْ لِيَصْمُتْ]، فوجب علينا أن نأخذ بما آتانا به رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأن ننتهي عما نهانا عنه؛ يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾، ويقول سبحانه: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً﴾، ويقول تعالى: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾.

 

أحبتي .. أنصحكم -وأنصح نفسي- بأن نتجنب كثرة الأيْمان والحلف ما استطعنا، وأن نتذكر دائماً قوله تعالى: ﴿وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ﴾، فإذا اُضطررنا إلى الحلف علينا أن نقلل منه، وألا نحلف بغير الله. ثم يجب علينا الوفاء بما حلفنا وأقسمنا عليه، فإن لم نستطع، أو رأينا أن المصلحة تقتضي الحنث وعدم التنفيذ، صارت (كفارة اليمين) لزاماً علينا، فلنؤدها طعاماً للفقراء والمساكين، فإن لم نستطع فكسوةً لهم، فإن لم نستطع فصيام ثلاثة أيامٍ متتابعة، ولا يجوز إخراج قيمتها نقداً.

اللهم أرنا الحق حقاً ووفقنا لاتباعه، وأرنا الباطل باطلاً ووفقنا لاجتنابه.

 

https://bit.ly/3c1DnHV