الجمعة، 2 نوفمبر 2018

جهاد النفس



خاطرة الجمعة /١٥٩
(جهاد النفس)

لطالما تحدثت مع زميلٍ لي عن أهمية المشي إلى المسجد والصلاة فيه مع جماعة المسلمين، وكيف تتحول الصلاة مع الجماعة، مع الوقت، من التزامٍ ثقيلٍ على النفس إلى إحساسٍ بلذة الإيمان تُذاق بالقلب كما تُذاق لذة الطعام باللسان، ففيها سعادة القلب، وراحة النفس، وسعة البال، وانشراح الصدر. كان الرسول صلى الله عليه وسلم يجد راحته فيها؛ قال عليه الصلاة والسلام: [يَا بِلَالُ أَقِمِ الصَّلَاةَ أَرِحْنَا بِهَا]. من ذاق حلاوة الإيمان وأحسها في قلبه ينتظر الصلاة إلى الصلاة انتظار المحب الذي يَعُّد الثواني قبل الساعات يتعجل لقاء محبوبه، أو كالمشتاق تحرق أحشاءه لوعة الشوق فلا يطفئها سوى أن يلقى معشوقه!
كان زميلي هذا يتحجج، في كل مرةٍ أفتح معه هذا الموضوع، بأن المشي يتعبه!
أقعده المرض فألزمه داره لفترةٍ، ثم رأيته يوماً وهو يمشي قريباً من منزله، فهنأته بأنْ أصبح المشي سهلاً عليه دون مشقة، أخبرني أنه مضطرٌ لذلك لأن هذه تعليمات الطبيب؛ فعاودتني الرغبة في أن أحدثه مرةً أخرى في ذات الموضوع، خاصةً وأن المسجد قريبٌ من منزله؛ فقلت له إنها فرصةٌ ذهبيةٌ طالما أنه مضطرٌ للمشي؛ فليكن مشيه إلى المسجد وليجاهد نفسه فيضبط مواعيد المشي مع مواعيد الصلاة ليكسب ثواباً عظيماً. رد عليّ بأن المشكلة في دَرَج المسجد؛ فصعود الدَرَج يتعبه! فوجئ بي أسأله: "وماذا أنت فاعلٌ لو طلب منك الطبيب صعود الدَرَج خمس مراتٍ في اليوم؟!".

ولأنه عزيزٌ عليّ أكملت حديثي معه بنصيحةٍ؛ قلت له: "لندخل المسجد عمودياً قبل أن ندخله أفقياً"، قال لي: "ماذا تقصد؟"، قلت له: "أقصد: ندخل المسجد بأقدامنا نصلي مع جماعة المسلمين فيه، قبل أن ندخله محمولين على الأكتاف يُصلى علينا فيه!".

أحبتي في الله .. ذكرني هذا الموقف بجيرانٍ يسكنون في شارعنا أراهم، وأنا ذاهبٌ إلى المسجد لصلاة الفجر، عائدين إلى منازلهم، وما أن يصلون إليها حتى تكون أصوات المؤذنين من أكثر من مسجدٍ مجاورٍ عاليةً تملأ الأفق تصدح بأذان الفجر؛ فأتمنى في قرارة نفسي لو أنهم غيروا اتجاههم وذهبوا إلى المسجد فصلوا الفجر ثم عادوا إلى بيوتهم أو توجهوا إلى أعمالهم لكان خيراً لهم، وأسأل نفسي: ألا يستمعون إلى عبارة "الصلاة خيرٌ من النوم" تصل إلى آذانهم؟ إنها عبارةٌ تحرك همة المؤمنين وتستحث عزيمتهم لمجاهدة النفس فيتركوا في ليالي الشتاء الباردة فُرُشَهم الدافئة الوثيرة، ويتوضأون بماءٍ كاد أن يكون ثلجاً مذاباً، وينزلون يمشون في الظلام، وربما تحت المطر، هؤلاء صدق إيمانهم، وأدركوا أن الأذان نداءٌ من الله سبحانه وتعالى لهم ليذهبوا إلى بيته. هم يعلمون أنه شرفٌ لأي إنسانٍ أن يدعوه رئيسه في العمل لزيارته في بيته، ويزداد الشرف إذا كان من يدعوه هو المدير، فإذا كان من يدعوه هو الوزير فلن يستطيع أن ينام الليل في انتظار تلبية الدعوة، وهو يباهي غيره بهذه الدعوة، كما أنه يتوقع أن يكرمه الداعي إكراماً يليق بمكانته ومنزلته؛ هذه دعوة بشرٍ لبشر، فما بالنا بدعوة رب البشر لمخلوقٍ ضعيف! يدرك المؤمنون أنهم، عندما يستمعون للأذان فهم يتلقون دعوةً من أكرم الأكرمين لزيارته في بيته، وهم يوقنون أن أبواب كرمه قد فُتحت أمامهم بلا حدود، وعندما يستمعون إلى عبارة "الصلاة خيرٌ من النوم"، وهي خصوصيةٌ لصلاة الفجر ليست لغيرها، تخشع قلوبهم وتلين جلودهم وتدمع عيونهم وتستكين جوارحهم، وهم يعلمون أنهم سيكونون في ذمة الله وضمانه وأمانه طوال اليوم طالما صلوا الفجر مع جماعة المسلمين بالمسجد.
قلت لأحدهم مرةً أن يأتي معنا للصلاة في المسجد، فقال إنه ذاهبٌ إلى العمل وطلب مني أن أدعو له بأن يهديه الله، قلت له منبهاً إياه بأن عليه أن يأخذ بالأسباب: "لا تذهب للعمل إذن"، سألني متعجباً: "ولمَ؟!"، قلت له: "سأدعو الله لك أن يرزقك"!

وسألت واحداً ممن يحرصون على الذهاب إلى المسجد قبل الأذان للصلاة عن مواظبته على ذلك، فقال لي: "جاهدت نفسي كثيراً حتى أقنعتها أن الأذان هو تنبيهٌ للغافلين؛ فلا تكوني منهم!".

يقول أهل العلم أن صلاة الجماعة واجبةٌ؛ فمن تعمد تركها كان آثماً؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: [الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمُ الصَّلَاةُ، فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ]، ولقوله عليه الصلاة والسلام: [بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ الْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلاةِ]. وأن صلاة الصبح ذاتُ فضلٍ عظيمٍ، وهي مع العشاء أثقل الصلاة على المنافقين، فالمداومة على تركها من علامات النفاق والعياذ بالله، ووقتُ الصبح ينتهي بطلوع الشمس بإجماع العلماء، وليس لأحدٍ أن يتعمد تأخيرها حتى تطلع الشمس، فإن فعل فقد ارتكب إثماً عظيماً.
وعن (جهاد النفس) يقول العلماء أن الناس صنفان: صِنفٌ اتخذ إلهه هواه، كلما هوت نفسه شيئاً طاوعها فأصبح كالعبد لهذا الهوى، وأصبح أسيراً لنفسه ولشهواته وملذاته؛ فهذا تصدق عليه هذه الآية: ﴿أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا﴾.
وصِنفٌ آخر جاهد نفسه أشد المجاهدة، حتى قهرها فصارت مطيعةً لله، منقادةً تعمل الأعمال الصالحة بيسرٍ وسهولة.
وهؤلاء عاملوا أنفسهم كطفلٍ رضيعٍ كما قال الشاعر:
 والنفسُ كالطفلِ إنْ تُهملْهُ شَبَّ علىٰ
حبِ الرَضاعِ وإنْ تَفطمْهُ يَنفطمِ 

وقد ذكر الله سبحانه وتعالى مصير هذين الصنفين من الناس في قوله: ﴿فَأَمَّا مَنْ طَغَى . وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا . فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى . وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى . فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾.
إن (جِهاد النّفس) يعني بذل الوُسع والطّاقة لإبعاد النفس عن المعاصي والذّنوب، ومُدافعَتها للصّبر على الطّاعات، وتحمُّل المشاقّ. 

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [الْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي طَاعَةِ اللهِ]. وقال عليه الصلاة والسلام في فضل من يدافع هواه ويُجاهدُه: [لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَواهُ تَبَعَاً لِمَا جِئْتُ بِهِ]. وقال صلى الله عليه وسلم: [حُفَّتِ الجَنَّةُ بِالمَكَارِهِ، وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ]؛ فطريق الجنة محفوفٌ بالمكاره، والنفس بطبعها تميل عن هذا الطريق، فتحتاج إلى نهيٍ حتى تسلك الطريق الموصل للفلاح، وأما طريق النار فإنه محفوفٌ بالشهوات، فالنفس بطبعها تميل إليه، فتحتاج إلى نهيٍ حتى تترك الطريق المؤدية إلى الخسران.
و(جهاد النفس) يكون بمقاومة شهوات النّفس ونزواتها بحيث يقوم المسلم بالتّحكم بها بدلاً من أن تتحكّم فيه؛ حيث ينبغي أن تكون محاسبة النفس منهجاً للمسلم في حياته ممتثلاً لأمر ربه في قوله: ﴿وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ﴾.
يقول الشاعر واصفاً من نجح في جهاد نفسه:
بملء إرادتي وبملء بأسي
عصيتُ بعالم الشهَوات نفسي
وعصياني لها رضوانُ ربي
وعزّةُ حاضري وغدي وأمسي
إذا أسلمتُ للنفسِ انقيادي
جرعتُ الذُّل كأساً بعد كأسِ

أحبتي في الله .. (جهاد النفس) أمرٌ عظيمٌ، خلقنا الله سبحانه وتعالى ولدينا جميعاً القدرة عليه، لكنه لحكمته سبحانه وتعالى، لم يجبرنا عليه رغم قدرته على ذلك، بل ترك الأمر لاختيارنا الحر، اختباراً لإخلاصنا وقوة عزيمتنا وثبات إيماننا؛ فمن نجح في الاختبار استحق الأجر والثواب، ومن فشل فلا يلومن إلا نفسه.

ألا يستحي مسلمٌ أن يسمع الأذان ولا يلبي دعوة الله سبحانه وتعالى لصلاة الجماعة في المسجد؟ ولو أنه اتصل بشخصٍ ما هاتفياً ولو مرةً واحدةً فلم يرد عليه غضب منه، وحين يدعوه الله سبحانه وتعالى خمس مراتٍ كل يومٍ لزيارة بيته يتجاهل دعوته ولا يلبيها، ألا يخاف من غضب المولى عزَّ وجلَّ عليه؟!

اللهم اشرح صدورنا لطاعتك، ويسِّر لنا طريق مرضاتك، وأعنِّا على أنفسنا. يا حي يا قيوم برحمتك نستغيث، أصلح لنا شأننا كله ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.

هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

https://goo.gl/KBK1hw