الجمعة، 17 سبتمبر 2021

الإخلاص في العمل

 

خاطرة الجمعة /309


الجمعة 17 سبتمبر 2021م

(الإخلاص في العمل)

 

يحكي وكيل مدرسة ويقول: في عام 1414هـ في إحدى مدارس المنطقة الشرقية بالمملكة العربية السعودية، وعندما كنتُ وكيلاً لهذه المدرسة، حصلت قصةٌ لم تغب عن ذاكرتي إلى هذه اللحظة، فقد اتصلت إحدى الأمهات بمدير المدرسة، وطلبت منه أن تتحدث إلى معلم الدراسات الاجتماعية لأمرٍ ضروريٍ، لكن المدير اعتذر منها وأخبرها أن المعلم في حصةٍ ولا يستطيع إخراجه من الفصل من أجل الرد عليها، عندها قالت الأم إنها سوف تتصل به لاحقاً. في اليوم الثاني اتصلت الأم مرةً أخرى وطلبت الحديث مع نفس المعلم، لكن مدير المدرسة اعتذر منها لنفس السبب أيضاً، وطلب منها إذا كان يستطيع مساعدتها أو إيصال رسالة إلى المعلم، قالت الأم: "نعم، أريد أن تُبلغه أني ولية أمر الطالب فلان بالصف الأول ثانوي، وأني أخذتُ عهداً على نفسي أن أدعو له في سجودي، وصلاتي، وفي قيام الليل، وفي الحج، وفي العمرة، وعند الملتزم؛ أدعو له بالجنة، والمغفرة، والرزق، وصلاح الأبناء". يُحدثني مدير المدرسة يقول: "واللهِ وهي تتكلم شعرتُ بأن شعر جسمي أصبح واقفاً من هول ما أسمع؛ ودفعني الفضول إلى أن أسألها: "ما هو الفضل الذي قام به المعلم حتى ينال هذا الجزاء العظيم؟"، قالت: "يا أستاذ، ابني كان لا يُصلي أبداً، وكنتُ مُتعبةً نفسياً لذلك، وأكاد لا أنام الليل بسبب التفكير في هذا الموضوع، وفجأة، وبدون مقدمات، لاحظتُ أن ابني انتظم في ذهابه إلى المسجد، ويُصلي جميع الفروض في مواعيدها مع جماعة المسلمين، حتى وقت صلاة الفجر، فقلتُ في نفسي ربما هي فترةٌ عابرةٌ. ظللتُ أراقبه أسبوعاً كاملاً وجدتُه محافظاً على الصلاة مع الجماعة في المسجد أشد المحافظة، عندها سألته: "ما الذي طرأ فغيرك؟"، قال: "معلم الدراسات الاجتماعية تكلم عن فضل الصلاة وأهميتها في بداية الحصة، وقد علمتُ منه فضل الصلاة وعقوبة تاركها. سأواظب عليها ولن أتركها بعد اليوم".

الغريب إخواني أن هذا المعلم لم يكن من الإخوة الذين يبدو من ظاهرهم الالتزام والاستقامة؛ فقد كان بدون لحية، لكن كان يتسم بالصلاح والصدق والأخلاق الطيبة. قام مدير المدرسة باستدعاء المعلم -وأنا موجودٌ- وبشره بهذه البشارة العظيمة، وواللهِ يا إخوة لم يتمالك المعلم نفسه وأُجهش بالبكاء من الفرحة، وجلس يحمد الله. موقفٌ لن أنساه ما حييت، لقد حفر في نفسي أن الإخلاص في العمل والصدق فيه من البركة على الإنسان الشيء الكثير.

فهنيئا للمعلمين الناصحين الصادقين الذين يدلّون طلابهم ويرشدونهم إلى ما ينفعهم ويرغبونهم فيما يُرضي الله تعالى ويحذرونهم مما يغضبه سبحانه، هنيئا لهم الحسنات الجارية.

 

أحبتي في الله .. إنه (الإخلاص في العمل) الذي يُعرِّفه أهل العلم بأنّه قيام الإنسان بالفعل ابتغاء مرضاة الله تعالى وحده، والتّقرب إليه وحده، مع الابتعاد عن طلب الرّياء، والشُّهرة بين النّاس، واكتساب حبّهم، وجلب المصالح الدّنيويّة. فحتّى يُقبَل عمل الإنسان يجب أن يتحقّق فيه شرطان؛ الأوّل: أن يكون القصد من الفعل رضا الله تعالى، والثّاني: أن يكون هذا الفعل مطابقاً للأحكام الشرعيّة وموافقاً لها.

يقول تعالى في الكثير من آيات القرآن الكريم قارناً العمل الصالح بالإيمان: ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ﴾، ويقول تعالى حاثاً على العمل الصالح: ﴿فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا﴾.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مبيناً مكانة العمل وأهميته: [إِنَّ اللَّهَ لاَ يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ].

والعمل الصالح هو العمل الذي يتسم بالإخلاص، وهو يحتاج بدايةً إلى تصحيح النية واستحضارها في بداية العمل؛ فإن عليها مدار قبول العمل أو رده. ومن مظاهر (الإخلاص في العمل) أن العبد لا يعمل إلا لله، لا من أجل أن يراه الناس أو يسمعوا به؛ فلا يتعلق قلبه بمدح الناس أو ذمهم له؛ فالمخلص يقوم بجميع أعماله على ما يُرضي الله تعالى ثم بعد ذلك لا يُبالي رضيَ الناس أم سخطوا، مدحوا أم ذموا. وأن يكون إخفاء العمل والإسرار به أحب إليه من إظهاره. وأن يكون حريصاً على البُعد عن مواطن الظهور والشُهرة، إلا أن يكون في ذلك مصلحة شرعية. وألا يزيد في العمل ويُحسنه لرؤية الناس. وألا يرى لنفسه فضلاً، ويعلم أن الفضل كله لله، ولولا الله تعالى لهلك. وأن يُكثِر من الاستغفار بعد العمل لشعوره بالتقصير. وأن يفرح بتوفيق الله له للعمل الصالح. فمن راعى ذلك في عمله عسى أن يكون من المخلصين. وأن يُسيء الظن بالنفس ويتهمها بالتقصير؛ يقول تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ﴾، وقد أوضح النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها؛ عندما سألت عن هذه الآية: يَا رَسُولَ اللَّهِ هُوَ الَّذِي يَسْرِقُ وَيَزْنِي وَيَشْرَبُ الْخَمْرَ وَهُوَ يَخَافُ اللَّهَ؟ قَالَ: [لَا يَا بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ، وَلَكِنَّهُ الَّذِي يُصَلِّي وَيَصُومُ وَيَتَصَدَّقُ وَهُوَ يُخَافُ اللَّهَ].

 

أما القطع بكون (الإخلاص في العمل) مقبولاً أم لا فهذا لا سبيل إلى معرفته؛ لأن علم ذلك عند الله وحده، ولكن على العبد أن يأخذ بأسباب الإخلاص، ويسأل الله تعالى التوفيق إلى حُسن العمل، ولا يقطع به لنفسه، ولا لغيره.

 

أحبتي .. فليخلص كلٌ منا في عمله ما استطاع، في أعمال الدنيا كما في أعمال الآخرة. ومن كانت هذه حاله فليشكر الله ويسأله الثبات وزيادة الإيمان وقبول الأعمال. ومن كان غافلاً أو مقصراً فليتدارك نفسه ما دام في العمر متسع، ينوي الإخلاص في العمل لوجه الله سبحانه وتعالى، دون رياءٍ أو سعيٍ إلى سمعةٍ أو شهرةٍ، ثم يطلب المعونة من الله سبحانه وتعالى ويسعى بعزمٍ وهمةٍ، عسى أن يبلغ مراتب من سبقوه أو يزيد عنهم، بفضلٍ من الله ورحمة.

اللهم اجعل أعمالنا خالصةً لك وحدك، ونقها من كل شائبةٍ تحول دون قبولك لها. اللهم اكتبنا من المخلصين، وألهمنا التوفيق والسداد، وثبت أقدامنا على طريق الهداية والرشاد.

 

https://bit.ly/3nGPbp2