الجمعة، 13 يناير 2023

فضيلة الرفق

 

خاطرة الجمعة /378


الجمعة 13 يناير 2023م

(فضيلة الرفق)

 

قصةٌ حقيقيةٌ حصلت في مدينة الباحة بالمملكة العربية السعودية. القصة هي لأبٍ كبيرٍ في السن، كانت وظيفته مُعلماً، من جيل الطيبين كما يُسمونه. بعد أن تقدم به العُمر، وتُوفيت زوجته، صار يسكن مع أولاده ليخدموه، وقد رزقه الله أربعة أولاد كُلهم وبفضل الله من البارين. كان هذا الأب معروفاً بقوته وهيبته ونفاذ كلمته، وكان إذا قيل اسمه يخافه جميع من في المدرسة، وكان كذلك في بيته ومع أبنائه؛ يضربهم دائماً ضرباً شديداً، ويُعلق لهم خيزرانةً عند الباب يُسميها "وسمة" لأنها تترك أثراً على الجلد مثل وسم الكي.

عندما شاخ هذا الأب وأدركه الضعف، شعر بأن أولاده يُدركون هذا الشيء ويتعاملون معه على أساس هذا المنطق.

يروي لنا القصة أحد أولاده فيقول: إن والدهم أرسل لهم رسالةً يقول فيها:

العادات غالباً تسوقنا للخطأ، عذراً أولادي على ما بدر مني في صغركم؛ كنتُ شديد القسوة عليكم ليس لأني لا أُحبكم، لا والله، بل أنتم أغلى من أنفاسي التي تشق صدري، ولكن في زماننا كان الأب القاسي هو الوحيد الذي يُربي أولاده، أما الحنون الذي ينتهج (فضيلة الرفق) فهو أبٌ فاشلٌ يسوق أبناءه إلى الفشل، فنهجت نهج القوة متوقعاً أن ذلك أنفع لكم وأفضل، ولم يكن العلم يؤثر في هذه العادات كثيراً. عندما أراكم تُقبِّلون أبناءكم وتترفقون بهم فوالله إن قلبي يتقطع من الوجع، وأود أن أصيح وأقول لكم وأنا أيضاً كنتُ أحبكم ولا أزال؛ فلماذا عندما يُقبّل أحدكم ولده ينظر إليّ نظرةً كالخنجر المسلول ليطعن بها قلبي، وكأنكم تقولون تعلّم الحب والحنان، وافهم كيف ينبغي أن يتعامل الآباء مع الأبناء.

أولادي هذا ليس زماننا، ولا يُمكن أن يرجع شيءٌ فات أوانه، فلا تُعلّموا شيخاً ما لم يعد ينفعه، وأنا أطلب منكم التماس العُذر وقبول السماح، وإلا أنا أمامكم الآن، وتلك عصاتي، وهذا جنبي، فاقتصّوا مني ولا تُعذبوني بنظراتكم تلك.

يقول أصغر أولاده الذي هو الآن أبٌ لولدين وبنت: كلنا تأثرنا برسالة والدي، وذهبنا نُقبل رأسه ويديه وقدميه، وأجمعنا كُلنا بأنه لولا الله ثم تربيته لنا لما كُنا رجالاً ناجحين.

ثم يقول الابن: عندما ذهبتُ إلى سريري لأنام ظلت كلمات والدي ترن في أذني وتؤلمني في قلبي، وحينها أُجهشت بالبكاء بُكاءً مراً فكتبتُ لأبي قائلاً: أبي الحبيب؛ قد تكون أدركتَ جُزءاً من نظراتنا لك حين نحتضن أولادنا، وهذا دليل فطنتك، ولكن لا يعلم الغيب إلا الله، فوالله إني أنظر إليك وأقول ماذا لو قبّلني أبي الآن؟! فأنا وإن كنتُ كبرتُ وأصبحتُ أباً وخالط الشيب سواد شعري، فهذا لا يعني أني لا أحتاج لحضنك الدافئ وقبلاتك الحارة!! فهل لي بحضنٍ واحدٍ وقُبلة؟"، أرسلتها إلى هاتف أبي ونمتُ، وعند الفجر خرجتُ من غرفتي لأجل أن أُصلي فوجدتُ أبي واقفاً على عكازه عند الباب، ويقول لي باللغة العامية:

تعال يا بوي أضمك إلى صدري..

ما حسبت الضرب بيشب جمري..

إن كان أني أصبت فلله درّي..

وإن كان أني غلطت فلك عذري..

ما تدري عن غلاك لكن أنا أدري..

أنت الروح والكبد وحزام ظهري..

تعال يا بني أضمك وخذني لقبري..

وضمني إلى صدره وقبّلني وبكينا نحن الاثنان، وخرجت زوجتي وشاهدت هذا المنظر المؤثر فبكت بُكاءً شديداً، وما هي إلا دقائق حتى شهق الأب شهقةً طويلةً ووقع على الأرض وتُوفي، حاولنا أن نُسعفه لكن أجله كان قد حان. رحم الله والدنا العظيم.

 

أحبتي في الله.. علّق راوي القصة عليها بقوله: احرصوا يا أبناء على (فضيلة الرفق) بوالديكم؛ فقد يكون لديهم ما يقولون ولكن لا يستطيعون البوح به، كما فعل هذا الأب، فانسوا أي ماضٍ مؤلمٍ، وتذكروا أن لهم فضلاً؛ فهُم من قاموا على مصالحكم حتى أصبحتم رجالاً راشدين وأمهاتٍ صالحات.

 

يقول أهل العلم إن قسوة الأب لا تُسقط حقه في البِر؛ فلقد أمرنا الله بالإحسان إلى الوالدين، وجعل ذلك من أعظم الفرائض بعد الإيمان بالله؛ يقول تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا﴾.

أما عن قسوة الأب فهي لا شك من الأخلاق السيئة والصفات المذمومة، لكن مهما كان من سوء خُلُقه وظُلمه لأبنائه، فإن ذلك لا يُسقط حقه في البِر وعدم جواز مُقاطعته أو الإساءة إليه، فإن الله قد أمر بالمصاحبة بالمعروف للوالد المُشرك الذي يأمر ولده بالشرك؛ يقول تعالى: ﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ﴾.

وإنما لك أن تنصحه بالرفق، أو تستعين بمن ينصحه ممن يقبل نصحه، وتُكثر له الدعاء بالهداية، ولا تيأس أبداً، فليست هدايته في هذه السن أمراً بعيداً على الله، واعلم أنك إذا قمتَ بما أمرك الله نحوه من البر والإحسان، فلا يضرك غضبه وعدم رضاه، ونُنبهك إلى أن حرصك على بر والدك والإحسان إليه، إذا كان خالصاً لله، فهو من أقرب الطُرق إلى الجنة؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [الوالِدُ أوسطُ أبوابِ الجنَّةِ، فإنَّ شئتَ فأضِع ذلك البابَ أو احفَظْه].

التربية الناجحة هي القائمة على التعليم والصبر عليه، والتوجيه والتقويم الرفيق، والحزم عند التجاوز بعد تفهيمٍ وتوضيحٍ، والثواب النافع، والعقاب الذي ينفع ولا يضر. إن أبناءنا لحومٌ رقيقةٌ ونفوسٌ هشةٌ، وعقولٌ تبدأ في البناء، وقلوبٌ لا تزال تتعرف على الحياة والكون من حولها، فلو أردنا تربيتها فلنعلم أن السبيل إلى ذلك هو العلم والرفق والفهم ومُتابعة منهاج القرآن الكريم وسُنة الرسول صلى الله عليه وسلم. إن بناء القيم هو الطريق الأمثل لتوجيه السلوك، فالضغط لتوجيه السلوك عادةً ما يأتي بنتائج سلبيةٍ، إنما التربية تكون بالرفق؛ قال صلى الله عليه وسلم: [إنَّ الرِّفْقَ لا يَكونُ في شَيءٍ إلَّا زانَهُ، ولا يُنْزَعُ مِن شَيءٍ إلَّا شانَهُ].

 

وإلى كل أبٍ قاسٍ على أبنائه نقول -كما قال الأولون- هُم ثمار قُلوبنا، وعماد ظهورنا، ونحن لهم أرضٌ ذليلةٌ، وسماءٌ ظليلةٌ، فإن طلبوا فأعطهم، وأن غضبوا فأرضهم، يمنحوك وُدهم، ويُحبوك جهدهم، ولا تكن عليهم ثقيلاً فيملوا حياتك، ويُحبوا وفاتك.

 

وهذه نصيحة عالمٍ إلى كل أبٍ قاسٍ:

تذكر أن لك يوماً عند ربك ستُحاسب فيه على كل صغيرةٍ وكبيرةٍ، واعلم أن من أعظم الأشياء أن تترك ولداً بعد موتك يدعو لك بالمغفرة والرضوان والسكنى في أعالي الجنان. تأمل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إِذَا مَاتَ الإنْسَانُ انْقَطَعَ عنْه عَمَلُهُ إِلَّا مِن ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِن صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو له]؛ فما أجمل أن يكون لك بعد موتك ولدٌ أو فتاةٌ يدعوان لك بكل خيرٍ، لكن ماذا لو كنتَ قاسياً لوجدتَ من يدعو عليك لا لك، ولوجدتَ من يتمنى موتك ويبحث عن رحيلك.

 

ويرى الخبراء في التربية أنه إذا كانت الشدة الزائدة، والقسوة المفرطة، غير مقبولةٍ تربوياً وشرعياً، فإن الدلال الزائد مرفوضٌ تربوياً أيضاً، والخير في التوسط، وسلوك السبيل التربوي الصحيح، المبني على الترغيب والترهيب؛ فيتم تشجيع الأبناء وترغيبهم ومُكافأتهم على الأفعال الحسنة والتصرفات الجيدة، والتفوق في الدراسة، وإنجاز الأعمال المنوطة بهم، لكن إذا أساؤوا فينبغي تقويمهم، ومنعهم من الخطأ، بما يقتضيه المقام، وحجم الخطأ، وبالوسائل الشرعية والتربوية، يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾.

 

أحبتي.. ليكن منهجنا في تربيتنا لأبنائنا قائماً على التوجيه الإلهي لسيد الخلق؛ النبي صلى الله عليه وسلم؛ يقول له رب العزة: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾، فتمثلت رحمة الله للنبي -عليه الصلاة والسلام- في أن جعله الله -عزَّ وجلَّ- ليناً مع المؤمنين، مُهتماً بشئونهم، حريصاً عليهم، رؤوفاً رحيماً بهم، وهذا ما ينبغي علينا أن نتخذه قُدوةً لنا ومثالاً نحتذي به؛ يقول تعالى: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾. ولا نعني بالرأفة والرحمة ترك الحزم بالكُلية، وإنما المقصود هو البُعد عن القسوة الشديدة غير المُبررة، والالتزام بنهج التوازن بين القسوة الزائدة والتدليل المُبالغ فيه؛ فالوسطية بينهما مع المُرونة والحكمة في الميل أحياناً لأيٍ منهما، وتغليب (فضيلة الرفق) والصفح والتسامح قدر الإمكان هو الطريق الأمثل للتربية؛ يقول الشاعر:

فَقَسا لِتَزدَجِروا وَمَن يَكُ حازِماً  فَليَقسُ أَحياناً وَحيناً يَرحَمُ

كما أن على الأبناء أن يُظهروا لآبائهم (فضيلة الرفق) على الدوام، وفاءً وعرفاناً منهم بالجميل تجاه من أفنوا أعمارهم لتربيتهم.

اللهم اغفر لنا، ولآبائنا وأمهاتنا، وارحمهم كما ربونا صغاراً.

 

https://bit.ly/3iByMSF