الجمعة، 27 ديسمبر 2024

تحسبهم أغنياء

 

خاطرة الجمعة /479

الجمعة 27 ديسمبر 2024م

(تحسبهم أغنياء)

 

تحت عنوان "على باب الله: يدٌ تبني"، وفي جريدةٍ مصريةٍ رصينةٍ، كتب أحد الكُتّاب الرائعين عن حياة عُمّال اليومية قبل أكثر من عشر سنواتٍ؛ فقال: الملايين من المصريين ينتظرون رزقاً قد يأتي اليوم أو لا يأتي على الإطلاق، كالطيور ينطلقون في الصباح الباكر من منازلهم بحثاً عن رزقهم الذي يُخرجه الله لهم من السماوات والأرض، داعينه سُبحانه وتعالى أن يُبارك في هذا الرزق، وأن يُتم نعمته عليهم بالصحة والعافية. أبسط تلك المهن وأكثرها انتشاراً، "الفواعلي" أو عامل البناء والهدم ومن يُطلق عليهم "عُمّال التراحيل". «صالح» واحدٌ من هؤلاء العُمّال جاء إلى «القاهرة» من «سوهاج» في أواخر الثمانينات بحثاً عن الرزق، ولكن مع غلاء المعيشة، وسوء الظروف أصبح «صالح» –على حد تعبيره- من معدومي الدخل وليس من محدوديه. وعلى الرغم من تواضع منزله يحرص «صالح» على تزيينه والحفاظ على نظافته وترتيبه قدر الإمكان.

مع فجر كل يومٍ يستيقظ «صالح» على رائحة إفطارٍ من بقايا طعام الأمس تُعده له زوجته، ثم يتوجه إلى زاويةٍ بفناء البيت، يجمع أدوات العمل "مطرقةٌ، وشاكوش، وأجَنَةٌ وأزاميل"، كانت مُتناثرةً منذ الأمس، يربطهم بحزامٍ من الكاوتش، يُعلق عليه كيساً أسود بداخله ملابس العمل، ويرفعهم على كتفه ويمضي مودعاً زوجته وأطفاله الصغار. يقوم «صالح» بالمشي عدة كيلومتراتٍ يومياً لكي يصل إلى الشارع الرئيسي لمركز «أبو النُمرس» حيث يجد أقرب وسيلة مواصلات. يحسب المصاريف التي يصرفها هو وبيته بدقةٍ شديدةٍ، ويستخدم أقل المواصلات تكلفةً حتى يصل إلى مكانِ تَجَمُّعِه مع العمال الآخرين في انتظار عملٍ قد يأتي أو لا يأتي، لذا فإن أية زيادةٍ -حتى لو كانت بسيطةً- في أُجرة المواصلات قد تُخِل بشكلٍ كبيرٍ بالميزانية التي لا تتعدى جنيهاتٍ قليلة. يستقبل «صالح» وأصدقاؤه اليوم الجديد بابتسامةٍ رغم معرفتهم بلحظات الشقاء القادمة منذ بداية اليوم وحتى آخره. على أحد الأرصفة في تقاطع شارع «نصر الدين» بمنطقة «الهرم»، أحد الأماكن التي تحتوي تجمعات العُمّال منذ سنواتٍ عديدة، يقف «صالح»، وسط أصدقائه من عُمّال البناء، لا يُدرك بالتحديد متى بدأ تجمعهم في هذا المكان؛ يقول: "منذ أن جئتُ إلى «مصر» {يعني «القاهرة»} وأنا آتي كل يومٍ إلى هذا المكان، أنتظر زبوناً أذهب معه لتكسير حائطٍ أو تحميل مواد بِناء». يشرب الشاي ويبدأ في ترقب المارة يميناً ويساراً، انتظاراً لمجيء أحد الزبائن، وسط عشرات العُمّال الجالسين على الرصيف بجانبه. لا ينحصر شقاء العمل في مهنة البناء في الجهد المبذول فيها أو كم العرق والدماء التي يُقدمها العُمّال، لكن يُضاف إليها احتمالية الجلوس لأيامٍ دون عملٍ؛ يقول «صالح»: "كل شيءٍ يتوقف على السوق والرزق، أحياناً أشتغل يوماً وعشرة أيام لا أشتغل"، ويُضيف: "تتراوح اليومية بين 30 و60 جنيهاً {وقتها} حسب صاحب العمل، بالإضافة إلى أن تفضيل الزبائن والمقاولين لعامل البناء الشاب، أصبح يُمثل مشكلةً كبيرةً للعُمّال ذوي الأعمار الكبيرة الذين يصعب عليهم مواصلة عملٍ يتطلب بذل جهدٍ بدنيٍ شاق". ويقول «صالح»: "في بعض المرات نذهب إلى مكانٍ لمُعاينة العمل ثم لا يحدث اتفاقٌ؛ فما يكون من نصيبنا إلا تحمل تكاليف مواصلات العودة".

يعمل «صالح» وكُل عُمّال التراحيل في ظروفٍ صعبةٍ للغاية، وربما على ارتفاعاتٍ عاليةٍ دون وجود أدنى مُتطلبات السلامة؛ مما يُعرضهم للكثير من الحوادث التي تُعيقهم عن أداء عملهم بعد ذلك، ولا يجدون مَن يُعوضهم. أُصيب «صالح» بحادثٍ أثناء قيامه بتكسير حائطٍ من الطوب الأحمر في ڤيلا ب«التجمع الخامس» وسقط الحائط عليه، شعر «صالح» بألمٍ شديدٍ في رُكبته اليُسرى ولم يقوَ على النهوض؛ فانتظر مكانه حتى انتبه إليه صاحب الڤيلا بعد توقف صوت التكسير؛ فقام بمساعدته وذهب به إلى مُستشفى «قصر العيني» وتركه في طُرقاتها دون الانتظار حتى لمعرفة حالته! قام الطبيب المُعالج بالمُستشفى بتخييره بين إجراء عمليةٍ لتركيب شريحةٍ في رُكبته، ما يستلزم انتظاره لأسابيع قد تمتد لشهورٍ حتى يتوفر له سريرٌ في "مأوى الفقراء"، أو أن يرفض الانتظار ولا يُصبح أمامه غير إجراء العملية بمُستشفىً خاصٍ، لم يكن أمام «صالح» مِن خيارٍ إلا الانتظار، وبالفعل أجرى العملية بعد شهرٍ، ظلت رجله بعدها في الجبس شهراً آخر، ولولا مساعدة إخوته وأقاربه لكان أطفاله الثلاثة ماتوا جوعاً؛ يقول «صالح»: "كنتُ أدعو الله أن يتوفاني أهون عليّ من أن أظل في حالة العجز التي كنتُ فيها؛ فالمرض يذل الإنسان». لم يتمكن «صالح» بعدها لشهورٍ من المشي على قدمه، يقول: "كنتُ أستخدم عصاً أتكأ عليها لأن الطبيب منعني من المشي برجلي على الأرض"، تخللت فترة ركوده جلساتٌ للعلاج الطبيعي أجراها بالمجان عن طريق أحد الأطباء.

يظل حال «صالح» وآلافٌ مثله مُعلقٌ حسب التساهيل، وسط تجاهلٍ تامٍ من الدولة، رغم أنهم لا يسعون إلا إلى الرزق الحلال، ولا يملكون أية مُهنةٍ أو حرفةٍ أخرى. في نهاية اليوم يُلملم «صالح» أغراضه مرةً أخرى ويعود ببضع جنيهاتٍ قليلةٍ ليُطعم أُسرته، ولكنه يعرف جيداً أنه قريباً لن يقوى على تحمل هذا العمل الشاق، ولا يعرف تحديداً ماذا سيفعل عندما يأتي هذا اليوم. يعود «صالح» إلى منزله بعد يوم عملٍ طويلٍ وشاقٍ ليقوم بفك حبل الغسيل الملتف حول جسده طول اليوم كحزامٍ لبنطاله المهترئ الشاهد على حياته الصعبة.

 

أحبتي في الله.. كانت هذه قصةً واقعيةً تحدث كل يومٍ لعشرات أو مئات الآلاف من هؤلاء العُمّال، الذين يعيشون بيننا، يُفضلون أن يكسبوا عيشهم بالعمل الشاق على أن يستجدوا الناس ويتحولوا إلى مُتسولين، إذا شاهدتهم (تحسبهم أغنياء)؛ تصفهم الآية الكريمة بقوله تعالى: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا ۗ﴾، يقول المُفسرون إن الله سُبحانه وتعالى وصفهم بست صفاتٍ؛ أولها الفقر بقوله ﴿لِلْفُقَرَاءِ﴾، والثاني قوله: ﴿أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ أي: قصروها على طاعة الله من جهادٍ وغيره، فَهُم مُستعدون لذلك محبوسون له، الثالث عجزهم عن السفر لطلب الرزق فقال: ﴿لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ﴾ أي: سفراً للتكسب، الرابع قوله: ﴿يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ﴾ وهذا بيانٌ لصدق صبرهم وحُسن تعففهم.

الخامس: أنه قال: ﴿تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ﴾ أي: بالعلامة التي ذكرها الله في وصفهم، وهذا لا ينافي قوله: ﴿يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ﴾ فإن الجاهل بحالهم ليس له فطنةٌ يتفرس بها ما هُم عليه، وأما الفَطِن المتفرس فمجرد ما يراهم يعرفهم بعلامتهم، السادس قوله: ﴿لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا﴾ أي: لا يسألونهم سؤال إلحافٍ، أي: إلحاح، بل إنْ صَدَرَ منهم سؤالٌ إذا احتاجوا لذلك لم يُلِحّوا على مَن سألوا، فهؤلاء أولى الناس وأحقهم بالصدقات لما وصفهم به من جميل الصفات.

 

هذا هو حال كثيرٍ من العُمّال الذين لا يجدون أمامهم أية فرصةٍ للعمل بشرفٍ إلا أن يبيعوا جهدهم.. تراهم يُحسنون الظن بالله سُبحانه وتعالى؛ يوقنون بأنه هو الرزاق الكريم، وما عليهم سوى التوكل عليه عزَّ وجلَّ والأخذ بالأسباب، ولو كانت شاقةً وصعبةً.. قد تمر أيامٌ لا يطلبهم فيها أحدٌ للعمل، ومع ذلك فهم راضون بما قسمه الله لهم.. (تحسبهم أغنياء) من التعفف؛ لا يسألون الناس، ولا يستجدون، ورغم احتياجاهم يخرجون من بيوتهم للعمل الشاق ليعودوا إلى أُسرهم ببعض الطعام.. أما الثياب والعلاج والدواء ومصاريف دراسة الأبناء؛ فتلك وغيرها هي من الكماليات التي لا يستطيع مُعظمهم تحقيقها إلا في الأحلام!

 

أحبتي.. هؤلاء الناس من البشر هُم منا؛ إما أقارب أو جيرانٌ لنا، يسمع بعضنا عن معاناتهم، وربما عرف تفاصيل عن الصعوبات التي يُعاني منها أفراد أُسرهم، ثم يتجاهل الأمر كما لو أنه لا يخصه، بل ويُزين له الشيطان خذلانهم وعدم مُساعدتهم، ويُوسوس له أنهم غير مُحتاجين؛ فَهُم لم يطلبوا شيئاً!

هؤلاء إخوةٌ لنا، نحن مسئولون أمام الله سُبحانه وتعالى عن الاهتمام بشئونهم، ومُساعدتهم وتقديم العون لهم ولأُسرهم. فلو تدبرنا الآية الكريمة لعلمنا أن مَن يحسبهم أغنياء هو الجاهل؛ فهل نرضى لأنفسنا أن نكون من الجاهلين؟!

هؤلاء الناس الذين قال الله عنهم (تحسبهم أغنياء) هُم أمانةٌ في أعناقنا، علينا أن نتفقد أحوالهم، ونسأل عن أخبارهم، ونُبادر إلى إعانتهم ومُساعدتهم، لا ننتظر منهم السؤال؛ فَهُم أكرم من أن يسألوا، وأعزّ من أن يشكوا أو يُبدوا تبرماً وسُخطاً.

اللهم اجعلنا سبباً في سعادتهم، والتخفيف من معاناتهم، وإدخال السرور إلى نفوسهم وقلوبهم، وألهِمنا ربنا سُبل مُساعدتهم بما يحفظ لهم كرامتهم، واجعل اللهم سعينا هذا خالصاً لوجهك الكريم، وتقبله منا؛ إنك أنت سُبحانك العليم الخبير، وأنت على كل شيءٍ قدير.

https://bit.ly/3P9UOsu