الجمعة، 28 نوفمبر 2025

البِر لا يبلى

 

خاطرة الجمعة /527

الجمعة 28 نوفمبر 2025م

(البِر لا يبلى)

 

قال راوي القصة: في عام 2002م، كنتُ طالباً في كلية الهندسة بجامعة «الإسكندرية». كانت حالتي المادية بسيطةً جداً؛ فوالدي موظفٌ بسيطٌ ووالدتي ربة منزل. في أحد الأيام، قرَّر بعض زملائي الميسورون أن يمزحوا معي مزاحاً ثقيلاً؛ حيث دعوني للخروج معهم إلى أحد المقاهي الفاخرة، كان عددهم عشرة، وبعد أن طلب كل واحدٍ منهم مشروبه، أخذوا يتسللون واحداً تلو الآخر بحججٍ واهيةٍ، تاركين المكان، حتى وجدتُ نفسي وحيداً، ولم يكن معي هاتفٌ محمولْ لأتصل بأحدٍ، عندما هممتُ بالمغادرة، سألتُ المُحاسب عن قيمة الفاتورة، فأخبرني أنها 250 جنيهاً، بينما لم يكن في جيبي سوى 35 جنيهاً فقط! شعرتُ بصدمةٍ وإحراجٍ شديدين، وطلبتُ التحدث مع صاحب المكان، جاءني رجلٌ وقورٌ في الخمسينيات من عُمره، فشرحتُ له ما حدث، وعرضتُ عليه أن أترك بطاقتي الشخصية وبطاقتي الجامعية كضمانٍ لحين إحضار المبلغ في الغد، لكنه ابتسم وقال لي بلطفٍ: "عيبٌ يا بني، احتفظ ببطاقتك، وأحضِر المبلغ غداً أو بعد غدٍ، أو في أي وقتٍ يتيسر لك، وإن لم تستطع السداد فأنت في حِلٍّ منه"، دمعت عيناي من نُبل أخلاقه، وشكرته وانصرفت، وفي اليوم التالي، أحضرتُ له المبلغ الذي كنتُ أدخره، وأصررتُ عليه أن يأخذه.

مرَّت الأيام، وتخرجتُ في الكلية، وسافرتُ إلى «ألمانيا» حيث حصلتُ على الماجستير والدكتوراه، وأكرمني الله بوظيفةٍ مرموقةٍ ورزقٍ وفيرٍ. بعد عشر سنواتٍ، عدتُ إلى «مصر» في إجازةٍ، وقادني الوفاء للذهاب إلى ذلك المقهى لزيارة الرجل الطيب، لكنني فوجئتُ بأن المقهى مُغلقٌ! سألتُ عن عنوان صاحب المقهى وذهبتُ إلى منزله، وهناك استقبلني ولم يعرفني في البداية، فذكرته بنفسي وبالموقف القديم فتذكرني، سألته عن سبب إغلاق المقهى، فأخبرني بحزنٍ أن الديون والضرائب تراكمت عليه، ولم يعد قادراً على دفع رواتب العمال، سألته: "كم تحتاج لتُعيد فتح المقهى وتُسدد ديونك؟"، بعد إلحاحٍ مني، أخبرني أنه يحتاج إلى 120 ألف جنيه، طلبتُ منه أن ينتظرني في اليوم التالي، وعندما حضرتُ رحَّب بي، قدمتُ له مبلغاً أكبر مما كان يحتاجه؛ ذُهل الرجل وبكى بشدةٍ، وقال: "لماذا تفعل هذا يا بُني؟" قلتُ له مازحاً: "لأني أرغب في أن آتي لشُرب القهوة في محلك بعد أُسبوعٍ!"، أراد الرجل أن يكتب لي إيصال أمانةٍ بالمبلغ ليُسدده حين يرزقه الله، فابتسمتُ وقلتُ له: "أتذكر ماذا قلتَ لي قبل سنواتٍ؟ قلتَ لي سدِّد حين يتيسر معك، وإن لم تأتِ فأنت مُسامح.. وأنا اليوم أقول لك: لا أُريد ورقاً، وإن لم تستطع السداد فأنت في حِلٍّ من هذا المال"، احتضنني الرجل وهو يبكي، وأيقنتُ حينها أن الله لا ينسى أصحاب القلوب الرحيمة؛ فسُبحان من ساقني إليه في هذا التوقيت، وسُبحان من دبَّر الأسباب لأرُد الإحسان بالإحسان، وكما تدين تُدان.

 

أحبتي في الله.. حقاً وصدقاً (البِر لا يبلى)، يدور الزمن دورته، ليُثبت لنا أن عمل الخير لا يضيع؛ فهو يعود لفاعله مهما بعدت الأيام وتوالت الشهور والأعوام؛ فهذه قصةٌ أُخرى من الواقع تؤكد على أن هذه الحقيقة سُنةٌ إلهيةٌ تتكرر، وإن تعددت أشكالها واختلفت صورها؛ ففي إحدى العائلات كان هناك رجلٌ كبيرٌ أرمل، ماتت زوجته وتركت له خمس بناتٍ، يعيشون معاً في بيتٍ يملكه الأب. تقدَّم أربعة رجالٍ لخطبة أربعٍ منهن في توقيتٍ مُتقاربٍ؛ فقرر الأب أن يُزوج الكبيرة ثم التي تليها ثم التي تليها، ثم التي تليها، حسب ترتيبهن في السن. لكن البنت الكبيرة كانت حنونةً وطيبةً فرفضت الزواج لأنها أرادت أن تهتم بوالدها وتخدمه، فتزوجت أخواتها الأربع الأصغر منها وظلت هي في خدمة أبيها كما أرادت، ظلت ترعى أباها إلى أن مات ورحل عن الدنيا، بعد وفاته فتحوا وصيةً كان قد تركها؛ فوجدوه قد كتب فيها: "لا تُقسِّموا البيت ولا تبيعوه حتى تتزوج أختكم الكبيرة التي ضحت بسعادتها من أجل سعادتكن". لكن الأخوات الأربع رفضن الوصية، وأردن أن يبعن البيت لتأخذ كل واحدةٍ منهن نصيبها، دون مُراعاة أين ستذهب أختهن الكبيرة التي ليس لها مأوى سوى هذا البيت. تمّ بيع البيت لتاجرٍ ثريٍ، وتقسيم مبلغ البيع على الورثة، ومن بينهم البنات الخمس؛ فعادت كلٌ منهن إلى بيت زوجها وهي في غاية السعادة، لم تُفكرن في مصير أختهن الكبيرة!

لما وجدت الأخت الكبيرة نفسها في هذا الموقف اتصلت بالتاجر الذي اشترى البيت، وحكت له عن وصيّة والدها، وأنها ليس لها إلا هذا البيت يأويها، وطلبت منه أن يصبر عليها بضعة أشهرٍ تمكث في بيت أبيها حتى تجد لها مكاناً مُناسباً تعيش فيه؛ فتفهَّم الرجل حالتها، ووافق على طلبها.

مضت عدة شهورٍ ثم تلقَّت الأخت الكبيرة اتصالاً من الرجل الذي اشترى البيت، فخافت أن يطردها منه، ولم تكن قد وجدت لنفسها مأوىً بعد، حدَّد الرجل معها موعداً، وأتاها للبيت فقالت له: "اعذرني؛ أنا لم أجد مكاناً بعد"! ففوجئت به يقول: "لا عليك، أنا لم أحضر من أجل ذلك، لكني أتيتُ لأُسلِّمكِ ورقةً من المحكمة؛ لقد وهبتُ هذا البيت لكِ مهراً! إن شئتِ قبلتِ أن أكون لك زوجاً، وإن شئتِ رجعتُ من حيث أتيتُ، وفي كلتا الحالتين البيت هو لكِ، وهذه هي ورقة الهبة باسمك موثقةٌ من المحكمة!"، بكت الأخت الكبيرة، وعلمت أن الله لا يُضيِّع عمل المُحسنين، فوافقت على الزواج من ذلك التاجر الطيب، وكسبت زوجاً كريماً، وأصبح بيت أبيها بيتها بعد أن باعته أخواتها ولم تُفكرن في مصيرها، لكن الله عوَّضها خيراً.

علق ناشر القصة عليها بقوله: "مهما فعلتَ من خيرٍ فلن يُضيِّع الله أجرك، فكيف إن كان الخير هو البر بالوالدين؟! لا تنسوا أن (البِر لا يبلى) والذَّنب لا يُنسَى، والدَّيَّان لا يَموت، فَكُن كما شئتَ فَكَما تدينُ تُدان.

 

وهذا أحد الرجال كتب يقول: إنه قبل خمسين عاماً حجَّ مع والده بصحبة قافلةٍ من الجِمال، وعندما تجاوزوا منطقة «عفيف» رغب الأب في أن يقضي حاجته؛ فأنزله الابن من البعير، ومضى الأب إلى قضاء حاجته وقال لابنه: "انطلق مع القافلة وسوف ألحق بكم"، مضى الابن، وبعد بُرهةٍ من الزمن التفت فوجد أن القافلة بعدت عن والده؛ فعاد على قدميه مُسرعاً وحمل والده على كتفه ثم انطلق يجري به، يقول الابن: "بينما أنا أحمل والدي على كتفي أحسستُ برطوبةٍ تنزل على وجهي، وتبين لي أنها دموع والدي، فقلتُ له: واللهِ إنك أخفُّ على كتفي من الريشة؛ فقال أبي: ليس لهذا السبب أبكي، إنما أبكي لأني تذكرتُ أني في هذا المكان كنتُ قد حملتُ والدي"!

 

صدق من قال (البِر لا يبلى)، يقول أهل العِلم إن هذه العبارة جزءٌ من حديثٍ ضعيفٍ، لكن معناه صحيحٌ؛ فالبِر قد فسره رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: [البِرُّ حُسْنُ الخُلُقِ]، و"البِر" يكون بمعنى الصلة، وبمعنى اللُطف وحُسن الصُحبة والعشرة، وبمعنى الطاعة، وهذه الأمور هي مجامع حُسن الخُلُق. ومعنى "يبلى" يزول نفعه، مِن بَلِيَ الثوب أي صار قديماً وتقطع. ومعنى (البِر لا يبلى) أي أن ما يُقدِّمه الإنسان من أنواع البِر وحُسن الخلق يعود لصاحبه، ولو بعد حينٍ، ويبقى أثره، ويجده العبد في صحيفة أعماله فيجازيه الله على إحسانه.

 

وكما يعود عمل الخير لأهله، فإن عمل السوء -كذلك- يعود لأهله، يقول الشاعر:

المَرْءُ يُعْرَفُ فِي الأَنَامِ بِفِعْلِهِ

وَخَصَائِلُ المَرْءِ الكَرِيمِ كَأَصْلِهِ

اِصْبِر عَلَى حُلْوِ الزَّمَانِ وَمُرِّهِ

وَاعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ

لا تَسْتَغِيبَ فَتُسْتَغابُ، وَرُبّمَا

مَنْ قَالَ شَيْئًا، قِيْلَ فِيْهِ بِمِثْلِهِ

وَتَجَنَّبِ الفَحْشَاءَ لا تَنْطِقْ بِهَا

مَا دُمْتَ فِي جِدِّ الكَلامِ وَهَزْلِهِ

وَإِذَا الصَّدِيْقُ أَسَى عَلَيْكَ بِجَهْلِهِ

فَاصْفَحْ لأَجْلِ الوُدِّ لَيْسَ لأَجْلِهِ

كَمْ عَالِمٍ مُتَفَضِّلٍ، قَدْ سَبّهُ

مَنْ لا يُسَاوِي غُرْزَةً فِي نَعْلِهِ!

البَحْرُ تَعْلُو فَوْقَهُ جِيَفُ الفَلا

وَالدُّرُّ مَطْمُوْرٌ بِأَسْفَلِ رَمْلِهِ

وَاعْجَبْ لِعُصْفُوْرٍ يُزَاحِمُ بَاشِقًا

إلاّ لِطَيْشَتِهِ وَخِفّةِ عَقْلِهِ!

إِيّاكَ تَجْنِي سُكَّرًا مِنْ حَنْظَلٍ

فَالشَّيْءُ يَرْجِعُ بِالمَذَاقِ لأَصْلِهِ

فِي الجَوِّ مَكْتُوبٌٌ عَلَىَ صُحُفِ الهَوَى

مَنْ يَعْمَلِ المَعْرُوفَ يُجْزَ بِمِثْلِهِ

 

أحبتي.. إنَّ فِعل الحسنات والإحسان إلى الغير يعود على صاحبه بالخيرات في الدنيا والآخرة، كما أنه مِنْ أسباب دوام الثناء الجميل؛ يقول الشاعر:

قَدْ ماتَ قَوْمٌ وَما ماتَتْ فَضائِلُهُم

وَعاشَ قَوْمٌ وَهُمْ في النّاسِ أَمْواتُ

علينا إذن أن نُبادر إلى كل عمل خيرٍ مُمكنٍ، مع أهلنا وجيراننا وزملائنا، ومع من هُم أغرابٌ عنا، فسيعود عمل الخير علينا، عاجلاً أو آجلاً في الحياة الدُنيا، كما سيُكتب لنا في موازين حسناتنا في الآخرة. وعلينا أن نُعامِل كل إنسانٍ كما نُحب أن نُعامَل؛ فلا نظلم، ولا نكذب، ولا نغتاب؛ فالزمن سيدور ونذوق مُر ما فعلنا.

اللهم ألهمنا رشدنا، واهدنا إلى ما تُحبه وترضاه.

 

https://bit.ly/488xdCR