الجمعة، 5 يوليو 2019

إنهم يحركون الوتد

الجمعة 5 يوليو 2019م

خاطرة الجمعة /١٩٤
(إنهم يحركون الوتد)

تقول الأسطورة أنه في ذات يومٍ أراد إبليس الرحيل من موقعٍ كان يسكن فيه مع أبنائه، فرأى أحد أولاده خيمةً فقال: "لا أُغادرن حتى أفعلن بهم الأفاعيل"، فذهب إلى الخيمة فوجد بقرةً مربوطةً بوتدٍ، ووجد امرأةً تحلب هذه البقرة، فقام فحرك الوتد؛ فخافت البقرة وهاجت، فانقلب الحليب على الأرض، فغضبت المرأة، فدفعت البقرة بشدةٍ؛ فسقطت البقرة وماتت، فجاء زوجها فرأى البقرة وقد ماتت، فضرب زوجته وطلقها؛ فجاء قومها فضربوه؛ فجاء قومه فاقتتلوا واشتبكوا. تعجب إبليس فسأل ولده: "ويحك ما الذي فعلت"؟! قال: "لا شيء، فقط حركت الوتد"!

وهكذا يظن أغلب الناس أنهم لا يفعلون شيئاً، وهم لا يعلمون أن بضع كلماتٍ فقط في الأُذن تُسمى وشايةً، وهي وقيعةٌ بين الناس تقلب الحال رأساً على عقبٍ، تُسبب الخلاف، وتُشعل المشاكل، وتقطع الأرحام، وتشحن الأجواء، وتخطف الفرحة، وتقضي على البهجة، وتكسر القلوب، ثم يظنون أنهم لم يفعلوا شيئاً؛ إنهم فقط قد حركوا الوتد!

أحبتي في الله .. إنها الوقيعة بين الناس، حيث يحدث (إنهم يحركون الوتد) فتقع المشاكل في الأُسر والعائلات، وبين الجيران، وبين الأصدقاء، وبين الزملاء في العمل!
نادراً ما يتم تحريك الوتد بغير قصدٍ، وكثيراً ما يكون تحريكه عن سبق إصرارٍ وترصدٍ وترقبٍ وتخطيط! إنها النفس الإنسانية الأمارة بالسوء التي تميل للشر وتجنح للإيذاء والتخريب. ولا عجب في أن يكون لمن يحرك الوتد قصدٌ وتكون له مصلحةٌ فيما خطط له، لكن العجيب أن تجد أشخاصاً يحركون الوتد وهم لن يستفيدوا شيئاً من وراء ذلك؛ هؤلاء الذين يحبون الشر للشر ذاته!

لقد حرص الإسلام على تهذيب اللسان وما يتبعه من جوارح فقال تعالى: ﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً﴾، كما حثنا الرسول صلى الله عليه وسلم على حفظ ألسنتنا فقال: [مَنْ كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ والْيَومِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا، أوْ لِيصْمُتْ]، وقال عليه الصلاة والسلام: [الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ]، وقال صلَّى الله عليه وسلَّم: [كُلُّ كَلَامِ ابْنِ آدَمَ عَلَيْهِ لَا لَهُ، إِلَّا أَمْرًا بِمَعْرُوفٍ أَوْ نَهْيًا عَنْ مُنْكَرٍ أَوْ ذِكْرًا لِلَّهِ]، وقال عليه الصلاة والسلام: [مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ أَضْمَنُ لَهُ الْجَنَّةَ]. فالنمام خائنٌ - ولو كان صادقاً - يستهين بالتعاليم الربانية التي ذَمَّت وتوعدت كل ﴿هَمّازٍ مَشّاءٍ بِنَميمٍ﴾؛ ففي الحديث الصحيح، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ بقبرين فقال: [إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرِ إِثْمٍ؛ أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ، وَأَمَّا الآخَرُ فَكَانَ لا يَسْتَتِرُ مِنَ الْبَوْلِ]. وقد توعد النبي صلى الله عليه وسلم من ينقل كلام الناس قصد الإفساد بينهم، فقال: [لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ نَمَّام]. وقال عليه الصلاة والسلام: [مَنْ كَانَ لَهُ وَجْهَانِ فِي الدُّنْيَا كَانَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِسَانَانِ مِنْ نَارٍ].

يقول أهل العلم أن من أكبر المصائب التي يمكن أن تصيب أي مجتمعٍ بشرىٍ هو وجود تلك الفئة المتخصصة في إثارة المشاكل، والتعرض لأعراض الناس وخصوصياتهم وأمورهم الشخصية، فترى الذي يُصاب بهذه الآفة الخطيرة والمؤذية من الناس يتحول إلى إنسانٍ فاجرٍ بكل ما لهذه الكلمة من معنىً؛ فهو ينتهك كل المحرمات، ويعتدي على الناس الذين لا يتوافقون مع أفكاره، وكم من الأمثلة والشواهد التي نراها في حياتنا اليومية؛ فنرى مثلاً أناساً شرفاء كريمي النفس والخلق يتعرضون للأذى والنيل من سمعتهم وكرامتهم من آخرين أقل ما يُقال عنهم أنهم باعوا ضمائرهم وكرامتهم للشيطان؛ فتحولوا إلى كائناتٍ تحركهم النزوات وشهوة الانتقام والثأر المزعوم من أولئك الشرفاء الكرام. إن للظلم والعدوان على الآخرين - ولو بالإساءة المتعمدة إلى سمعتهم وكرامتهم - نهايةً مهما طال الأمد، وليتذكر الإنسان أن الله تعالى يراقب كل الأعمال، فهل يتذكر الأشرار والحاقدون من مثيري الفتن هذا الأمر أم لا؟! إن الفتنة نائمةٌ لعن الله من يريد إيقاظها، يكفيه أن حسابه سيكون عند ربٍ عزيزٍ ذي انتقام.
إن أكثر الوشاة يحاولون تزيين أقوالهم للوقيعة، وكأنهم يحاولون المحافظة على المعنى اللُغوي للفعل الذي اُشتقت منه الوشاية؛ لأن وَّشِيَ الثوب معناه طرَّزه وحلَّاه وحَسَّنه، فالواشون يستخدمون من أساليبهم الخسيسة ما يُحسِّنون به بضاعتهم السيئة الرديئة ومساعيهم المسمومة للدسِّ والخديعة، ويجعلون من ألسنتهم أداةً طَيِّعةً لمآربهم الدنيئة التي توعز الصدور وتُباعد بين الناس في مختلف مجالات الحياة، إنهم يوقعون بين الناس، (إنهم يحركون الوتد)!
فكم من كلمةٍ سيِّئةٍ أو خاطئةٍ أحدثَتْ بين قبيلةٍ أو جماعةٍ مُتَآلِفةٍ أعظمَ ممَّا تُحدثه النار في الحطب اليابس.
إن شر الناس ذو الوجهين الذي يأتي هذا بوجهٍ، وهذا بوجهٍ، وينقل كلام هذا لذاك على سبيل الإفساد بينهما، وقد يتقوّل على أحدهما ما لم يقل، فيجمع بين النميمة والبهتان؛ فنجد الواشي ساعياً بالغيبة والنميمة محاولاً الوقيعة بين الأصدقاء والإخوان، فلا يرتاح له بال، ولا يطمئن له حال، إلا إذا قطع الأوصال، وفرَّق بين الناس؛ فإذا بالصداقة تصبح عداوةً، وإذا بالتفاهم والوِد يتحول إلى حقدٍ وبغضاء، والتقارب والتعارف يصير تباعداً ونُكرانا.

وعن الوشاية يقول الشاعر:
دعْ الوشاةَ وما قالوا وما نقلوا
بيني وبينكم ما ليس ينفصلُ
رسائلُ الشوقِ عندي لو بعثتُ بها
إليكم لم تسعها الطرقُ والسبلُ
يا غائبين وفي قلبي أشاهدهم
وكلما انفصلوا عن ناظري اتصلوا
وعن الواشي يقول الشاعر:
لئنْ كنتَ قد بُلِّغتَ عني خِيانَةً
لَمُبْلغُكَ الواشي أغَشُّ وأكذَبُ
ويقول المثل العربي: "من نقل إليك نقل عنك".

أحبتي .. إن مَنْ يسعون بالوشاية في حاجةٍ لأن يمسكوا ألسنتهم عن الوقيعة وبث الضغينة بين الناس، أمَّا من يسمعون لمن يسعى بالوشاية فليراجعوا أنفسهم ويتفهموا قول الحق تبارك وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾. ومن أروع ما قرأت عن مواجهة النميمة والوشاية والوقيعة بين الناس ما كان من عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - حين دخل عليه رجلٌ فذكر له عن رجلٍ شيئاً، فقال له عمر: "إن شئتَ نظرنا في أمرك، فإن كنتَ كاذباً فأنت من أهل هذه الآية ﴿إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا﴾، وإن كنتَ صادقاً فأنت من أهل هذه الآية ﴿هَمّازٍ مَشّاءٍ بِنَميمٍ﴾، وإن شئتَ عفونا عنك. فقال: العفو يا أمير المؤمنين، لا أعود إليه أبداً.
اللهم لا تجعلنا ممن يُقال عنهم (إنهم يحركون الوتد)، واجعلنا ممن لا يستمعون للواشين، ولا ينقلون عنهم ما يقولون.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

http://bit.ly/2XrqRXp