الجمعة، 5 يناير 2024

الفضل لله

 

خاطرة الجمعة /428

الجمعة 5 يناير 2024م

(الفضل لله)

تحكي لنا شابةٌ عن امرأةٍ مُسنةٍ التقت بها أثناء الحج، أخبرتها بقصةٍ أثرت فيها كثيراً؛ قالت المرأة إنها أرملةٌ ولها ولدٌ كان من الصالحين؛ حافظاً للقرآن، باراً بها، وكان يقوم الليل من صغره. وكانت ترى لقريباتها أبناءً ليسوا بمستوى صلاح ابنها؛ فكانت تلومهم على تقصيرهم وتهاونهم في تربية أبنائهم، وتنظر إليهم نظرة استنقاصٍ في سرها، رغم أن أبناءهم لم يكونوا سيئين، إلا أنها كانت في نفسها تقارنهم بابنها. تقول المرأة: "كنتُ أفتخر بنفسي أني ربيته هكذا، وهو يتيم الأب منذ طفولته، فكيف بهؤلاء النسوة وأزواجهن معهن وما استطاعوا تربية أبنائهم مثلي؟!".

تُكمل قائلةً: "وفجأةً.. انتكس ابني الشاب دون أية مقدماتٍ؛ لم يترك الصلاة في المسجد فحسب، بل تركها نهائياً، وأصبح يُرافق صحبةً سيئةً، ثم اكتشفتُ أنه أدمن نوعاً من الحبوب"، وتُكمل بصوتٍ مكسورٍ: "بقيتُ ثلاث سنواتٍ أنصحه وأوجهه وأستعين بأخواله لنصحه، دون جدوى. وعرفتُ لأول مرةٍ شعور هؤلاء الأمهات ومعاناتهن حين كُنّ يُقسمنَ لي أنهن حاولن ويحاولن دون جدوى مع أبنائهن، رغم أن أبناءهن لم يصلوا لما وصل إليه ابني من انحراف. لقد وصل بنا الحال إلى أنني كنتُ أدخل غرفته وأجمع الحبوب والصور الخليعة من أدراجه وأتخلص منها؛ فيغضب ويصرخ ويدفعني حتى يكاد يضربني، بل إنه فعلها مرةً. انكسرت نفسي وأصبحتُ أخجل من رؤية مَن كنتُ أنتقص تربيتهن لأبنائهن بيني وبين نفسي، وبنظراتي لهن. وللأسف، وصلت سمعة ابني السيئة للجميع، وعلمتُ أن الله يُعلّمني ويؤدبني. والله ما انفككتُ عن الدعاء له. ثلاث سنواتٍ وأنا أدعو وأبكي بحرقةٍ، وكأن الله أراد أن يُربيني. وفعل سبحانه. لَمّا انكسر تماماً ما كان في نفسي من عُجبٍ بتربية ابني، ومن لومٍ للأُخريات لتقصيرهن. لَمّا ذهب كل ذلك ولم يبقَ في قلبي منه أي شيء. لَمّا أيقنتُ أني لا شيء إطلاقاً، وأن رحمة الله وحدها هي التي كانت سبباً في صلاح ابني وهدايته، وأن كل (الفضل لله) لا لغيره. وعندما أمسك الله رحمته عن ابني ضلَّ وفسد. لما وصلتُ إلى هذه المرحلة من التعلق التام برحمة الله، والتخلص من كل تعلقٍ بنفسي وبتربيتي، كنتُ أدعو الله أن يغفر لي، ويرحمنا أنا وابني، وإذا بالذي لم يكن في الحسبان قد وقع، وما لم أكن أتوقعه قد حدث، وما كنتُ أدعو ربي به قد تحقق؛ ذات ليلةٍ وأنا في مُصلاي أبكي، دخل ابني عليّ في غرفتي، وكانت الساعة الثالثة فجراً، كانت عيناه حمراوين من السهر، ورائحة فمه تفوح بالدخان، فقبّل رأسي، وقال لي: ارضِ عني يا أمي، ثم حضنني وبكى". خنقتها دموعها ولم تُكمل؛ فقلتُ لها: "وماذا حصل بعد ذلك يا خالة؟!"، قالت: "الحمد لله. الحمد لله؛ انظري ها أنا هنا.. في بيت الله الحرام، وابني هو الذي جاء بي هنا للحج يا ابنتي. وهذا ليس نتيجة اجتهادي، بل هو رحمةٌ من الله وتوفيقٌ وجبر خاطرٍ و﴿ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾.

 

أحبتي في الله.. كتبت ناشرة القصة، تعقيباً عليها فقالت: لنعلم أن الأبناء رزقٌ ونعمة، وأخلاقهم رزقٌ ونعمة، وتربيتهم رزقٌ ونعمة، احترامهم لنا رزقٌ ونعمة، وحبهم لنا رزقٌ ونعمة، وتوفيق الله لهم رزقٌ ونعمة، ولابد للرزق من الشكر، ولابد للنعمة من الحمد؛ فالحمد لله دائماً وأبداً. لا تُعاير فتُبْتَلى، ولا تشمت بأخيك فيعافيه الله ويبتليك.

 

تُذكري هذه القصة بأخرى مشابهةٍ لها، وثّقها القرآن الكريم في سورة القصص؛

يقول تعالى: ﴿إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ . وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ . قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ . فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ . وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ . فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ﴾. جاء في التفسير: أن قارون طغى وتجبّر في الأرض، وغرّته الحياة الدنيا، حتى أنكر أن (الفضل لله) الذي أنعم به عليه؛ فنسب الفضل إلى نفسه وقال لقومه الذين وعظوه: ﴿إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي﴾، إنه الاغترار بالنفس الذي يؤدي إلى المهالك؛ إذ كانت نهايته ﴿فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ﴾.

 

قال بعض السلف: لِيَحْذَر المؤمن كلَّ الحذر من طُغيان "أنا، ولي، وعندي"؛ فإن هذه الألفاظ الثلاثة ابتُلي بها "إبليس، وفرعون، وقارون"؛ قال إبليس: ﴿أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ﴾، وقال فرعون: ﴿لِي مُلْكُ مِصْرَ﴾ وقال قارون: ﴿إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾. عندما تتقلب بالنعم فانسب (الفضل لله)، وحافظ على قلبك من أن يُوحي إليك الشيطان أن ما أنت فيه لميزةٍ فيك. إذا وفقك الله فقُل إنما هو فضل الله عليّ، لا تنسب الفضل لنفسك بل هو فضل الله عليك. عِلْمُك، خبرتك، أفكارك، مواهبك، وتجارتك، إن لم يصحبها اعترافٌ بجميل فضل الله عليك وعظيم نعمه لك، وإن لم تُتبع هذا الاعتراف بشكر الله المُنعم، أوشكت هذه النعم أن تزول، واقترب مصيرك من مصير كل من يُنكر نِعم الله وأفضاله عليه.

 

أحبتي.. نُكران الجميل بين الناس بعضهم وبعض سلوكٌ تأباه النفوس الشريفة، ويعافه أصحاب الفِطَر السليمة، فما بالنا بنُكران فضل الله سبحانه وتعالى ونعمه، وما أعظمها، وما أكثرها؛ فلنحذر من أن نتفاخر على الناس بما آتانا الله، وننسب الفضل فيه لأنفسنا، ومَن أعجبه شيءٌ من حاله أو ماله أو ولده، فليقل كما قال صاحب الجنة: ﴿مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ﴾. وإن كان علينا أن نعمل ونأخذ بالأسباب فلا نظن للحظةٍ أن ذلك من فضل أنفسنا؛ بل علينا أن نوقن بأن الله تعالى هو خالق الأسباب والمسببات، فنُرجع كل الفضل لله ولرحمته؛ يقول تعالى: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾. أمّا مَن وقع في المحظور ونسب الفضل لنفسه فهو في خطرٍ عظيمٍ، فقد ظلم نفسه فليُسارع إلى الاستغفار؛ يقول تعالى: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾، ومن لا ينسب فضل الله لنفسه، وإنما ينسبه لغير الله، فهو في خطرٍ أعظم، خطر الشرك والعياذ بالله؛ فليتدارك نفسه ويستغفر الله ويتوب إليه.

اللهم اجعلنا ممن يعترفون بفضلك عليهم، ويداومون على شكرك، واجعلنا اللهم من عبادك المنيبين الذين يُرجعون (الفضل لله) وحده في كل شيءٍ ويقولون ﴿هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي﴾، ويقولون ﴿ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ﴾، ويقولون ﴿ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا﴾.

https://bit.ly/3S6FBdV