الجمعة، 13 سبتمبر 2019

حبل الله المتين


الجمعة 13 سبتمبر 2019م

خاطرة الجمعة /٢٠٤
(حبل الله المتين)

تداول عددٌ كبيرٌ من الناس هذه القصة التي نشرها صاحبها على أحد مواقع التواصل الاجتماعي. تقول القصة: كنتُ في زيارةٍ قصيرةٍ لموسكو، وأردتُ أن أتوجه إلى المطار فطلبت سيارة أجرة. وصلت السيارة وكان سائقها شاباً مسلماً من جمهورية قيرغيستان، وهي إحدى جمهوريات الاتحاد السوفييتي التي انفصلت عنه ومعظم سكانها مسلمون. عندما ركبتُ السيارة سألني السائق من أي عرقٍ أو أمةٍ أنا: شيشاني - تتري - طاجيكي - أوزبكي؟ كان ردي أني عربي، قال بلهفةٍ غريبة: "عربي! هذا يعني أنك تستطيع أن تقرأ القرآن بنطقٍ صحيح؟"، قلتُ: "نعم، والحمد لله"، سألني: "هل يمكن أن تعلمني كيف أقرأ سورة الفاتحة؟"، قرأتُها وكان يردد خلفي، طلب مني أن أعيد قراءتها عدة مراتٍ، وظل يردد خلفي. ومرةً بعد مرةٍ كان صوت أنفاسه يعلو ويرتفع؛ قال لي: "أُحس أن قلبي سيتوقف؛ لا أصدق نفسي أني أقرأ الفاتحة قراءةً صحيحة!". سألني عن اسمي؛ أخبرته أن اسمي محمد، قال: "محمد، ما شاء الله"، وبدأ يبكي، واستطرد قائلاً: "اسمك محمد، مثل اسم النبي عليه الصلاة والسلام، ومن نسله، وتقرأ القرآن الكريم كما كان يقرأه!". ظللنا طوال الطريق إلى المطار؛ أنا أقرأ الفاتحة وهو يردد بعدي، ثم انتقلنا لقراءة سورة الإخلاص - وكان يريد أن يتعلمها ويقرأها بنطقٍ صحيحٍ -أخبرني أنه لأكثر من ثلاثين سنةً كان كل حلم أمه أن أتمكن من قراءة القرآن الكريم باللغة العربية، وأن أُعَلِّمها هي كيف تقرأ بطريقةٍ صحيحة.  ثم أمسك بهاتفه المحمول واتصل بأمه ليُسْمِعها كيف يقرأ الفاتحة وسورة الإخلاص بطريقةٍ صحيحة، وقال لها أنه قابل أخاً عربياً سوف يعلمه القرآن الكريم كله، والتفتَ إليّ وسألني: "صح؟!"، أجبته دون تردد: "صح!". اتفق معي أن نبدأ من قصار السور ثم نكمل حتى نصل إلى سورة البقرة يقرأها كلها بدون مصحف!

كنا قد وصلنا إلى المطار وعندما ناولتُه الأجرة رفض استلامها وقال لي: "أنا أخذتُ أجرتي وزيادة، بل أنا مدينٌ لك بأي عددٍ من التوصيلات عندما تعود إلى موسكو مرةً أخرى، يكفي أنك علمتني اليوم الفاتحة وسورة الإخلاص!".
علق ناشر القصة على هذا الموقف بأن الله سبحانه وتعالى أنعم علينا بلسانٍ عربيٍ مبينٍ لا نعرف قيمته، وأنعم علينا بنعمة القراءة في المصحف وفهم معاني كلماته وآياته، لكن للأسف كثيرٌ منا ينسى هذه النعم، وكثيرٌ منا لا يُقَدِّر قيمتها! نِعَمٌ يتمناها ناسٌ كثيرون لأنفسهم ومستعدون لدفع كل غالٍ وثمينٍ مقابل حصولهم عليها.

أحبتي في الله .. إنه القرآن الكريم (حبل الله المتين) كلام الله الذي أنزله على رسوله محمدٍ صلى الله عليه وسلم. إنه القرآن الكريم كتاب الإسلام الخالد، ومعجزته الكبرى، أنزله الله سبحانه وتعالى هدايةً للبشر أجمعين؛ يقول تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾.
يقول أهل العلم عنه: فيه تقويمٌ للسلوك، وتنظيمٌ للحياة، من استمسك به فقد استمسك بالعُروة الوثقى لا انفصام لها، ومن أعرض عنه وطلب الهُدى في غيره ضل ضلالاً بعيداً. مكتوبٌ في المصاحف، محفوظٌ في الصدور، مقروءٌ بالألسنة، مسموعٌ بالآذان، فالاشتغال به من أفضل العبادات، ومن أعظم القُربات. أودع الله فيه علم كل شيء؛ ففيه الأحكام والشرائع، والأمثال والحِكم، والمواعظ والتأريخ، والقصص ونظام الأفلاك، ما ترك شيئاً من الأمور إلا وبيَّنها، وما من نظامٍ في الحياة إلا وأوضحه، قَالَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [كِتَابُ اللَّهِ فِيهِ نَبَأُ مَا قَبْلَكُمْ، وَخَبَرُ مَا بَعْدَكُمْ، وَحُكْمُ مَا بَيْنَكُمْ، هُوَ الْفَصْلُ لَيْسَ بِالْهَزْلِ، هُوَ الَّذِي مَنْ تَرَكَهُ مِنْ جَبَّارٍ قَصَمَهُ اللَّهُ، وَمَنِ ابْتَغَى الْهُدَى فِي غَيْرِهِ أَضَلَّهُ اللَّهُ، فَهُوَ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ، وَهُوَ الذِّكْرُ الْحَكِيمُ، وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ، وَهُوَ الَّذِي لَا تَزِيغُ بِهِ الْأَهْوَاءُ، وَلَا تَلْتَبِسُ بِهِ الْأَلْسِنَة، وَلَا يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ، وَلَا يَخْلَقُ عَنْ كَثْرَةِ الرَّدِّ، وَلَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ، وَهُوَ الَّذِي لَمْ يَنْتَهِ الْجِنُّ إِذْ سَمِعَتْهُ أَنْ قَالُوا ﴿إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا﴾، هُوَ الَّذِي مَنْ قَالَ بِهِ صَدَقَ، وَمَنْ حَكَمَ بِهِ عَدَلَ، وَمَنْ عَمِلَ بِهِ أُجِرَ، وَمَنْ دَعَا إِلَيْهِ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ].
هذا هو كتابنا ودستورنا، هذا هو نبراسنا، إن لم نقرأه نحن معاشر المسلمين، فمن يقرأه؟ قال تعالى: ﴿وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا﴾، فما أعظمه من أجرٍ لمن قرأ كتاب الله، وعكف على حفظه، فله بكل حرفٍ عشر حسناتٍ، ﴿وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾.
إنه القرآن الكريم (حبل الله المتين) الذي وصفه عالمٌ بأنه كتاب هدايةٍ ومنهجٍ وعمل، كما أنه كتاب تأمّلٍ وتدبّرٍ وتفكّر، وهو الحُجَّة البالغة التي تخاطب العقل والوجدان والروح معاً في كل زمانٍ ومكانٍ بالبراهين والأدلَّة التي تُذعن معها الفطر السليمة وتُسلِّم بها، فتنقاد للحق وهي راضيةً مختارةً. وكلما اكتشف العلماء حقائق علميةً جديدةً وجدوا القرآن الكريم قد سبقهم بالإشارة إليها، فنحن في كتاب الله أمام معجزةٍ مستمرةٍ ومتجدّدةٍ تأتي في كل عصرٍ بإعجاز جديدٍ. لقد نزل هذا القرآن الكريم في القرن السابع الميلادي، ومرّ على نزوله أكثر من أربعة عشر قرناً، ولا يزال يكشف لنا يوماً بعد يومٍ وجيلاً بعد جيلٍ مزيداً من عجائبه، وفي كل الميادين؛ ففي ذلك الزمان لم يكن أحدٌ يعلم شيئاً عن تطوّر الأجنة في الأرحام، وتكوّر الليل والنهار، والرتق والفتق الكوني، وتوسع الكون، ومواقع النجوم، والبحر المسجور، وتعدد مطالع الشمس ومغاربها، ورفع السماء بغير عمد، والظلام الكوني، والضغط الجوي ونقص الأوكسجين، والحاجز الكيميائي بين البحرين، والجبال ووظائفها، وحقيقة السُحب والأمطار، وغير ذلك من الحقائق العلمية التي يكتشفها البشر تباعاً فيجدونها موصوفةً في القرآن الكريم بشكلٍ مدهشٍ وبدقةٍ متناهية. ولا يمكن لعاقلٍ أن يتصور مصدراً لهذه الحقائق العلمية في القرآن الكريم غير الله الخالق الذي أنزله بعلمه، وأورد فيه مثل هذه الحقائق الكونية لتكون شاهدةً على مر العصور والأجيال بأن هذا القرآن كلامه ووحيه إلى خاتم رسله وأنبيائه مُحمَّدٍ صلى الله عليه وسلّم.
إنه القرآن، كتاب الله، (حبل الله المتين) الذي أثر في القلوب والنفوس حتى قال عنه أحد كفار قريش - وكان سيداً في قومه وعشيرته -: "واللهِ إن لقوله لحلاوةٌ، وإن عليه لطلاوةٌ، وإنه لمثمرٌ أعلاه، مغدقٌ أسفله، وإنه ليحطم ما تحتَه، وإنه ليعلو وما يُعلى عليه".

يقول أحدهم: كنتُ ضائعاً حتى التزمت بوردٍ ثابتٍ من القرآن لا أتخلّف عنه أبداً ففجر الحياة في قلبي إلى حدٍ لا أستطيع أن أصفه؛ ليتني عرفتُ هذا الطريق مبكراً. وينصح غيره بقوله: يا أحبابي اقرؤوا بتدبر الآية الكريمة: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا﴾، القرآن ليس حروفاً وإنما هو روح.

ويقول آخر: سيأتي اليوم الذي نعرف فيه أن القرآن الكريم بصفحاته ال٦٠٤، وأجزائه ال٣٠، وسوره ال١١٤، هذا المصحف الذي نهمله؛ لا نفتحه، لا نتلوه، لا نحفظه، لا نهتم به، لا نتدبر آياته، لا نُحَكِّمه فيما شجر بيننا، لا نعمل بأحكامه، نحلف به، نزين به مكتباتنا وسياراتنا، سنعرف يوماً أنه كانت فيه قصة الخلق جميعهم من البداية إلى النهاية بأدق تفاصيلها، كانت فيه الحلول لمشاكلنا، والإجابات عن أسئلتنا، والشفاء لصدورنا، لكن لم يكن لدينا الوقت الكافي لنقرأه حيث كنا مشغولين بأمورٍ أخرى نظن أنها الأهم! يوم نعرف ذلك ونتيقن منه يكون ما سماه المولى عزَّ وجلَّ في القرآن الكريم يوم الحسرة؛ ﴿وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾.

إن القرآن الكريم (حبل الله المتين) نزل علينا نعمةً من المولى عزَّ وجلَّ؛ فيه خيرٌ كثير؛ ضبط معاملاتنا كلها في جميع مجالات الحياة، يكفي على المستوى الشخصي أنه ضبط علاقتنا بوالدينا: ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾، وضبط معاملاتنا مع الآخرين: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾، وضبط مشيتنا: ﴿وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ﴾، ﴿وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا﴾، وضبط صوتنا: ﴿وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ﴾، وضبط نظراتنا: ﴿لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ﴾، وضبط سمعنا: ﴿وَلَا تَجَسَّسُوا﴾، وضبط طعامنا وشرابنا: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا﴾، وضبط ألفاظنا: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾، وضبط مجالسنا: ﴿وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا﴾. فالقرآن الكريم كفيلٌ بأن يضبط حياتنا كلها، بل هو سبيلٌ إلى أن تتحقق السعادة للبشرية جمعاء.

قال الشاعر عنه:
هو حَبلُ رَبى للوجودِ جَميعُه

جَمعَ الأُمورَ وصاغَ كلَ بَيانِ
هو قولُ حقٍ غيرِ ذي عوجٍ أتىٰ
أَنْعِم بهِ - قد جاءَ مِن مَنَّانِ
وتكفّلَ اللهُ الحفيظُ بحِفظِه
ليعيشَ صَرحاً كاملَ البُنيانِ
يا أيها العَطشىٰ تَعالوا نَرتوي
ونعيشُ أمناً في رُبىٰ الفُرقانِ

أحبتي .. فلنراجع أنفسنا ونتفكر في علاقتنا بالقرآن الكريم، هل نحن ممن نواظب على تلاوته ونحرص على حفظه؟ أم ممن اشتكى منهم الرسول الكريم لربه وقال: ﴿إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا﴾؟ وكما يقول أصحاب العلم: ترك علمه وحفظه من هجرانه، وترك الإيمان به وتصديقه من هجرانه، وترك تدبره وتفهمه من هجرانه، وترك العمل به وامتثال أوامره واجتناب زواجره من هجرانه، والعدول عنه إلى غيره -من شعرٍ أو قولٍ أو غناءٍ- من هجرانه.
ألا نخجل من أنفسنا وأبناؤنا يدرسون في الروضة والتمهيدي ثم الابتدائي ثم الإعدادي ثم الثانوي ثم الجامعة، ويتخرجون لم يحفظوا جزءاً واحداً من ثلاثين جزءاً من القرآن الكريم؟! نجري بهم وهم صغارٌ من البيت إلى النادي ومن النادي إلى البيت لتنمية أجسادهم بالرياضة، ولا نهتم بتنمية أرواحهم وعقولهم بالقرآن الكريم تلاوةً وحفظاً؟!
مصيبةٌ أن نكون نحن الآباء مسئولين عن أن يقضي أبناؤنا أجمل وأهم أيام عمرهم لا يتعلمون إلا للدنيا، ونغفل أو نتغافل عن تعليمهم ما ينفعهم - وينفعنا معهم - في الآخرة؛ قال تعالى: ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾.
لا نقلل من شأن علوم الدنيا ولا من الرياضة ولا من غيرها من الهوايات، وإنما نتعجب من التركيز عليها وتنميتها وبذل الوقت والجهد والمال في سبيل تحصيلها مع إهمال ما هو أهم وأنفع! ألا يمكن أن نوازن بين علوم الدنيا وعلوم الآخرة وعلى رأسها علوم القرآن؟ وإذا لم يتوفر سوى وقتٍ قليلٍ وجهدٍ محدودٍ فبأيٍ منهما نضحي؟ ما يفيدنا في دنيا فانيةٍ أم ما ينفعنا في آخرةٍ باقية؟ لا تحتاج الإجابة إلى كثير ذكاء، بل تحتاج إلى فطرةٍ صحيحةٍ لم تتلوث، ونيةٍ خالصةٍ لم تتلون، وفهمٍ صحيحٍ لم تصبه الجهالة.
نسأل الله العفو والعافية والمعافاة في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
جعلنا الله وأبناءنا من أهلين الله؛ كما بَيَّن ذلك رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم بقوله: [إِنَّ لِلَّهِ أَهْلِينَ مِنْ النَّاسِ]، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ هُمْ؟ قَالَ: [هُمْ أَهْلُ الْقُرْآنِ، أَهْلُ اللَّهِ وَخَاصَّتُهُ].

هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

http://bit.ly/2kfXbyZ