الجمعة، 1 أكتوبر 2021

ما نقصت صدقةٌ من مال

 

خاطرة الجمعة /311


الجمعة 1 أكتوبر 2021م

(ما نقصت صدقةٌ من مال)

 

يقول صاحب مطعمٍ في إحدى محافظات السودان الشرقية:

كنا في المطعم نستعد لتقديم وجبة العشاء في إحدى ليالي الخريف، وبعد تجهيز الطعام هطلت الأمطار بشدة، وأظلمت علينا السماء، وانقطعت الكهرباء، وبدأ أهل السوق في المغادرة، فأشعلنا الفوانيس واتفقنا على المغادرة بعد هدوء الأحوال، وعددنا الطعام الذي صنعناه من الخسائر، إذ لا توجد مبرداتٌ كافية، والمبردات الموجودة لن تنفع مع انقطاع الكهرباء.

في أثناء انشغالنا بالحديث رأيتُ في ظل الفوانيس شيئاً يتحرك في الجهة المقابلة للمطعم؛ فحملتُ فانوساً وعصا لظني أنه لصٌ يريد كسر أحد الدكاكين، اقتربتُ من ذلك الشيء، وعلى ضوء الفانوس الضعيف، رأيتُ امرأةً معها طفلان في غاية الضعف والتعب؛ فسألتها إن كانت تحتاج إلى شيءٍ فقالت: "أريد طعاماً لي ولأولادي" فقدّمتُ لها أحسن ما عندي من الطعام، وأعطيتها بعض المال؛ فبكت المرأة بكاءً شديداً؛ فقلتُ: "ما الذي يبكيكِ؟"، فقالت: "تُوُفِّيَ زوجي، وهذا ثالث يومٍ لا أجد فيه ما يسد جوعي وجوع أطفالي"، قلتُ لها: "خيراً" وتركتها؛ فسمعتُها تتمتم بكلماتٍ منها: "ربي يوسع عليك الليلة كما وسعتَ على أولادي"، قلتُ: "آمين".. وإن كنا خسرنا في تلك الليلة، فالأمر كله لله، والمؤمن لا يقنط من رحمة الله.

كانت الأمطار تهطل، والريح تعصف، وأنا أستعد لإغلاق المطعم وأحسب الخسائر، فرفعتُ رأسي فجأةً على صوت حافلةٍ تحمل مسافرين تقف أمام باب المطعم، لا أدري من أين جاءت، نزل سائق الحافلة وسأل: "هل عندكم طعام؟"، قلتُ: "نعم"؛ فنزل من الحافلة أكثر من أربعين مسافراً، واشتروا جميع ما لدينا من الطعام، وصنعنا لهم طعاماً آخر، وحتى بقايا الخبز الجاف بعناها عليهم مع الشوربة. وبعد ذهابهم جلستُ أحسب الأرباح ومعي العمال في عجبٍ من هذا التحول المفاجئ والربح السريع. قال أحد العمال: "ماذا عملتَ من عملٍ صالحٍ اليوم؟!"، فانتفضتُ كالملدوغ وأنا أتذكر دعوة المرأة وهي تقول: "ربي يوسع عليك الليلة كما وسعتَ على أولادي"؛ فحمدتُ الله، ثم خرجتُ تحت المطر أبحث عنها فلم أجدها، وتذكرتُ قول النبي صلى الله عليه وسلم: [مَا نَقَصَ مَالُ عَبْدٍ مِنْ صَدَقَةٍ]، ساق الله المطر لتَشبَع المرأة وصغارها، وساق الحافلة ليجزي المُنفق على إنفاقه، وهكذا الدنيا يُقَلِّبها الله بين عباده ليختبرهم ويبلو أخبارهم وينظر كيف يعملون ﴿ولَأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذينَ آمَنوا وكانُوا يَتَّقُون﴾.

 

أحبتي في الله .. إنه ثواب الصدقة، لا يتأخر كثيراً، يأتي سريعاً ووفيراً بقدر إخلاص النية لله سبحانه وتعالى، و(ما نقصت صدقةٌ من مال) وإنما هي تزكيه وتزيده نماءً في الدنيا، فضلاً عن ثواب الآخرة وما ينتظر المتصدق من أجرٍ عظيم.

لا شك في أنّ الصدقة أحد أكبر أبواب الخير والتَقرُب من الله تعالى، لذا فقد تكرر ذِكر الصدقة في كثيرٍ من آيات القرآن الكريم؛ ومن ذلك يقول تعالى آمراً عباده المؤمنين بالإنفاق في سبيل الله وفي أوجه الخير وفي تقديم الصدقات: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْراً لِّأَنفُسِكُمْ﴾، ويقول سبحانه: ﴿وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ﴾، ويقول عزّ وجلّ: ﴿أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ﴾، ويقول أيضاً: ﴿لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ﴾.

ويقول تعالى مُبيناً عظم أجر الصدقة ومضاعفته عزَّ وجلَّ لها: ﴿إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيم﴾، ويقول سبحانه: ﴿مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً﴾.

ويقول تعالى مُذكراً بأن المال مال الله، وأنه إذا صُرف في الصدقات وأوجه الخير فهو يعود إلى المتصدق بالخير ويزيد: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم﴾، ويقول عزّ وجلّ: ﴿قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾.

ويقول تعالى مُوضحاً أن الصدقة تُيسِّر على صاحبها أعمال الخير التي تكون سبباً في دخوله الجنة: ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى . وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى . فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى﴾.

ويقول تعالى مُنبهاً إلى أن الإنسان في لحظات الموت يتمنى لو يؤخر الله أجله حتى يزيد من صدقاته التي ترفع من درجته وتجعله من الصالحين: ﴿وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ﴾.

 

ويحثنا الله سبحانه وتعالى على إخفاء الصدقات لتكون في السر قدر الإمكان؛ فذلك أدعى إلى الإخلاص، وأقرب إلى حفظ كرامة المتصدَق عليهم؛ فيقول تعالى: ﴿قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَيُنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً﴾، ويقول سبحانه: ﴿إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِىَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتؤْتُوهَا الفُقَرَاءِ فَهُوَ خَيرٌ لَّكُمْ﴾.

وينهانا سبحانه وتعالى عن أن نُتبع صدقاتنا بالمنّ والأذى فتبطل ونكون من المنافقين، واعداً مَن يحرص على عدم المن والأذى بالأجر وعدم الخوف وعدم الحزن؛ يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾، ويقول سبحانه: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾، ويقول عزّ وجلّ: ﴿قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى﴾.

 

وعن فضل الصدقة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إِنَّ صَدَقَةَ السِّرِّ تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى]، وقال عليه الصلاة والسلام: [والصَّدقةُ تُطْفِئُ الخطيئةَ كما يُطْفِئُ الماءُ النَّارَ]، كما قال: [كلُّ امرئٍ في ظلِ صدقتِه حتَّى يُقضى بينَ النَّاسِ]. وذكرَ النبي صلى الله عليه وسلم أن من السبعة الذين يُظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله [رَجُلٌ تَصَدَّقَ بصَدَقَةٍ فأخْفَاهَا حتَّى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ ما تُنْفِقُ يَمِينُهُ]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [دَاوُوا مَرضاكُمْ بِالصَّدقةِ]، وقال عليه الصلاة والسلام: [مَا مِنْ يَوْمٍ يُصبِحُ العِبادُ فِيهِ إِلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلانِ، فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الآخَرُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا]، وقال أيضاً: [مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ]. وسأل النبي صلى الله عليه وسلم السيدة عائشة رضي الله عنها عن الشاة التي ذبحوها ما بقي منها؟ قالت: ما بقى منها إلاّ كتفها، قال: [بقيَ كلُّها غيرَ كتفِها]. وقال عليه الصلاة والسلام: [إذا طَبَخْتَ مَرَقَةً، فأكْثِرْ ماءَها، وتَعاهَدْ جِيرانَكَ].

وعن أفضل الصدقة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أنْ تَصَدَّقَ وأنْت صحيحٌ شَحيحٌ تَخْشى الْفقرَ، وتأْمُلُ الْغنى، وَلاَ تُمْهِلْ حتَّى إِذَا بلَغتِ الْحلُقُومَ قُلت: لفُلانٍ كذا ولفلانٍ كَذَا، وقَدْ كَانَ لفُلان]، وعن أفضل الصدقة كذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [جُهْدُ المُقِلِّ، وابدأْ بمن تَعُولُ].

 

صحيحٌ أنه (ما نقصت صدقةٌ من مال)، بل زادته ونمته وباركت فيه. ومن أهم أنواع الصدقات وأكثرها ثواباً الصدقة الجارية؛ فهي عملٌ صالحٌ يعود بالنفع على صاحبه في حياته وبعد موته، طالما أن عمله مازال الانتفاع به مستمراً؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ﴾. ومن أمثلة الصدقة الجارية ما ورد في قول النبي عليه الصلاة والسلام: [إِذَا مَاتَ ابنُ آدم انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أو عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ]، وقوله صلى الله عليه وسلم: [إنَّ مِمَّا يلحقُ المؤمنَ من عملِهِ وحسناتِه بعدَ موتِه عِلمًا علَّمَه ونشرَه، وولدًا صالحًا ترَكَه، ومُصحفًا ورَّثَه، أو مسجِدًا بناهُ، أو بيتًا لابنِ السَّبيلِ بناهُ، أو نَهرًا أجراهُ، أو صدَقةً أخرجَها من مالِه في صِحَّتِه وحياتِه يَلحَقُهُ من بعدِ موتِهِ].

 

قال الشاعر:

يا مَنْ تـَصَدَّقَ مالُ الله ِ تـَبْذلـُهُ

في أوجُـهِ الخير ِما لِلمال ِ نـُقصانُ

كـَمْ ضاعَفَ اللهُ مالا ً جادَ صاحِبُهُ

إنَّ السَخاءَ بـِحُـكـْم ِاللـهِ رضــوانُ

الشـحُّ يُـفـْضي لِسُقم ٍ لا دَواءَ لـَهُ

مالُ البَخيل ِ غـَدا إرْثـا ً لِمَنْ عانوا

 

وصدق من قال: "ليس باستطاعتك أن تأخذ مالك معك للآخرة، لكن باستطاعتك أن تجعله يستقبلك".

 

ومن أجمل ما قرأت عن الصدقة: "إن الله الغني، خزائنه ملأى يُنفق كيف يشاء، ليس بحاجةٍ لأموالنا، ولو شاء لرزق الناس جميعاً وأغناهم، لكنه يختبرنا في هذه الدنيا بالمال الذي أعطانا إياه، قد لا يرجع علينا ما تصدقنا به، لكن ليكن في يقيننا أنه محفوظٌ، وما نفعل من خيرٍ لن ينساه الله لنا، وكل ذرة خيرٍ محفوظةٌ عند ربٍ لا يضل ولا ينسى".

 

وليست الصدقات كلها مالاً أو إطعاماً أو كسوة؛ فمن الصدقات ما لا يكلف الإنسان شيئاً؛ مثل: التسبيح، الاستغفار، الأمر بالمعروف، النهي عن المنكر، إماطة الأذى عن الطريق، التبسم في وجه الأخ المسلم وملاقاته بوجهٍ طلق، إفراغك من دَلْوِكَ في إناء أخيك، تسليمك على غيرك، رد السلام، عيادة المريض، إغاثة الملهوف، هداية المستدِل على الطريق، اتباع الجنائز، إعانة وإرشاد كل ذي حاجة، وغير ذلك؛ فكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: [كُلُّ مَعْروفٍ صَدَقَةٌ]، حتى أن من لا يستطيع فعل شيءٍ من هذه الأفعال البسيطة يكفيه أن يُمسك شره عن الناس ويمنع نفسه عن أذاهم، فتكون له بذلك صدقة!

 

أحبتي .. الصدقة مفتاحٌ لكل خيرٍ؛ فلنُكثر من الصدقات، فهي كما قيل: "تُديم النّعم، تدفع النّقم، ترفع البلاء، تستنزل الشّفاء، تُنجي من الكرب، وتطفئ غضب الرّب". ولنُذَكِّر أنفسنا بأن الصدقة إن كانت بغير المال فهي سهلةٌ ميسورةٌ لا يتركها إلا غافلٌ، وإن كانت بالمال فإنه ليس مالنا، بل هو مال الله سبحانه وتعالى ونحن مستخلفون فيه، فإذا أمرنا صاحب المال بالصدقات فليس لنا أن نمتنع أو نتأخر بل علينا أن نسارع ونبادر؛ لننعم برضاه عزّ وجلّ، وننال ما وعدنا به من أجرٍ عظيمٍ وثوابٍ كبير، في الدنيا والآخرة. فلنُكثر من الصدقات خاصةً الصدقات الجارية، طهرةً للمال والنفس، ومرضاةً للرب، ونحن واثقون أنه (ما نقصت صدقةٌ من مال). واعلموا أحبتي أننا بحاجةٍ إلى ثواب الصدقة بأكثر من احتياج من نتصدق عليه إلى المال أو الإعانة.

اللهم قِحنا شُح أنفسنا، وأعنّا على أن نكون من المتصدقين، واجعلنا اللهم من أهل الجنة المكرمين الذين من أوصافهم: ﴿وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ . لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾.

 

https://bit.ly/3inm1rw