الجمعة، 26 أغسطس 2022

الجوهرة

 

خاطرة الجمعة /358


الجمعة 26 أغسطس 2022م

(الجوهرة)

 

موقفٌ عجيبٌ رواه د. مصطفى محمود في لقاءٍ تليفزيونيٍ معه في أواخر الثمانينات؛ يقول: في العام 1969م شعرتُ بألمٍ رهيبٍ يشق ظهري، قمتُ بتشخيص سببه على الفور؛ كانت أعراض وجع الكُلى الذي أعرفه جيداً بحُكم دراستي للطب آنذاك. أخبرني طبيب المسالك بعد خُضوعي للأشعة السينية "X- ray" أنها حصوةٌ عملاقةٌ، تُهيمن على حجم الكلية تقريباً، ولن تُجدي معها أية موسعات! تفتيت الحصوات بالموجات التصادمية كان خيالاً علمياً وقتها، والليزر والمناظير الطبية كانا في مجاهل الغيب، لهذا لم يكن بُدٌ من تدخلٍ جراحيٍ عاجلٍ، لإنقاذ الموقف، وإلا خسرتُ كليتي كاملةً؛ وهو ما يعني فتحُ جانبي كاملاً، ثم شق الكلية نفسها لاستخراج الحصوة، باعتباره الحل الوحيد المُتاح!

لم يكن جسمي يتحمل خطورة هذه العملية، شعرتُ بفزعٍ رهيبٍ، وتمثلتُ النهاية أمام عينيّ. قمتُ فتوضأتُ وصليتُ وبكيتُ، وبدأتُ أدعو الله: "يا ربِ ساعدني.. يا ربِ انجدني.." واستمريتُ في الدُعاء، دُعاءِ مُذعنٍ خاشعٍ مُتيقنٍ، لدرجة أني ذُبتُ تماماً بين يدي الله؛ كل ذرةٍ في كياني كانت تستجدي وتتوسل وتستنجد بربها، في حالةٍ كاملةٍ مُدهشةٍ من اليقين والخشوع لصاحب الملكوت.

نصف ساعةٍ فقط، وبعدها كنتُ أُهرع إلى المرحاض! انساب مني لترٌ كاملٌ من سائلٍ سميكٍ داكنٍ يُشبه "الطحينة"! نفس اللون والسُمك. يا الله! الحصوة تفتت لسببٍ مجهولٍ، وتحولت لمسحوق! لترٌ كاملٌ أو ما يزيد، وهو ما يتناسب مع ضخامة الحصوة!

لقد استجاب الله لدعائي بصورةٍ أذهلتني. شربتُ بعض الماء، وانتهى الأمر، وكأن شيئاً لم يحدث!

وقتها تذكرتُ مقولةً لطبيبةٍ فرنسيةٍ أسلمت، قابلتها أثناء تواجدي في إحدى المرات بـ «المغرب»: "إنّ لدينا نحن المسلمين جوهرةً لا يعرف البعض قيمتها". ولما سألتها: ما هي؟ قالت: الدُعاء!

 

أحبتي في الله.. صحيحٌ قولها الدُعاء هو (الجوهرة)، لكنها جوهرةٌ يغفل عنها كثيرٌ من الناس.

وللتذكرة بأهمية الدُعاء كتب أحد الأفاضل على موقع "تويتر" للتدوين المُصغر تغريدةً قال فيها: "لكلٍ منا مع الدُعاء أحوالٌ عجيبةٌ ومواقف غريبةٌ؛ فلو ذكر كلٌ منكم قصةً حصلت له مع الدُعاء، أو حصلت لغيره وتأكد منها بنفسه، فسأقوم بإعادة تغريدها؛ بهدف بيان فضل الدُعاء ومنزلته، وأنه بإذن الله حلٌ لكثيرٍ من مشاكلنا". انهالت على الموقع قصصٌ ومواقف حقيقيةٌ عن استجابة الدُعاء، منها:

-امرأةٌ أعرفها كانت مصابةً بمرض الغُدة الحميدة، وعلاجها بالكيماوي أو بعمليةٍ جراحيةٍ، وبعد الدُعاء بإخلاصٍ وخشوعٍ ذهبت للطبيب للمُراجعة فقال لها: "أنت شُفيتِ تماماً؛ ولا حاجة لكيماوي أو عملية"، وأقفل ملفها في المستشفى تماماً لانتهاء الموضوع.

-رسالتي للماجستير كنتُ أعدّها، وأحفظها على فلاشةٍ، ولما انتهيتُ منها وحان وقت الطباعة، إذا بالفلاشة يُصيبها عطبٌ محى جميع محتوياتها. كدتُ أُجن؛ فذهبتُ بها لمهندسٍ فقال إن استعادة ما بها من ملفاتٍ صار مُستحيلاً، فتذكرتُ: ﴿وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ﴾ فدعوتُ الله بخشوعٍ وتذللٍ فإذا بالفلاشة تعود للعمل بشكلٍ عاديٍ!

-تذكرتُ شيئاً ثميناً وعزيزاً عليّ، بحثتُ عنه كثيراً فلم أجده، وكان وقت صلاةٍ فصليتُ ودعوتُ الله أن يحفظه لي واستودعته إياه، وبعد أيامٍ وجدتُ ذلك الشيء في نفس المكان الذي كنتُ بحثتُ فيه ولم أجده! فسجدتُ لله شكراً.

-كانت امرأتي عاقراً، وكنتُ كلما صليتُ قيام الليل والتهجد أدعو ربي أن يرزقنا بولدٍ صالحٍ، وأظل أدعو حتى أسمع صوت المؤذن لصلاة الفجر؛ فأذهب لصلاة الفجر بالمسجد. بعد ثلاثة أشهر استجاب الله دُعائي؛ ورزقنا بطفلٍ عمره الآن سبع سنواتٍ.

-لم أكن مُنتظماً في صلاة الفجر، وكنتُ أضبط المنبه ولا أستطيع الاستيقاظ، وكثيراً ما فاتتني صلاة الفجر، فكنتُ أُصلي الصبح عند استيقاظي من النوم بعد شروق الشمس. دعوتُ الله كثيراً؛ وكنتُ أقول: "يا الله أسألك أن توفقني إلى صلاة الفجر مع جماعة المسلمين في بيتٍ من بيوتك". دعوتُ بهذا الدعاء بإخلاصٍ لمدة ثلاثة أيام؛ فاستجاب الله لدعائي، وأعانني على المواظبة، ومُنذ ذلك الحين لم تفتني بفضل الله صلاة الفجر جماعةً وفي بيتٍ من بيوته، ولا ليومٍ واحد.

 

وغير ذلك، عشراتٌ من القصص والمواقف الحقيقة عن استجابة الدُعاء، الذي هو بحقٍ بمثابة (الجوهرة) لكل مُسلم، واختصر أحدهم ما حدث له في أربع كلماتٍ: تعثرتُ فسجدتُ فدعوتُ فأقامني.

 

ويزخر القرآن الكريم بالكثير من الألفاظ المُشتقة من الجذر "دعو"؛ حتى أن عددها قد وصل إلى 212 لفظاً في 182 آية، منها ما يُبين سرعة استجابة الله سُبحانه وتعالى لدعاء الصالحين من عباده؛ فقد وردت عبارة ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ﴾ أربع مراتٍ في القرآن الكريم، وكانت استجابةً لدعاء الأنبياء: نوح، أيوب، يونس، وزكريا، عليهم السلام. كما وردت عبارة ﴿فَغَفَرْنَا لَهُ﴾ مُباشرةً بعد دعاء داوود، وكذلك بعد دعاء موسى، عليهما السلام.

ومنها قوله تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ﴾، وقوله سبحانه: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ۚ﴾.

كما وردت أحاديث عديدةٌ في السُنة الشريفة عن الدُعاء؛ منها:

قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: [الدُّعاءُ هوَ العِبادَةِ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [دَعْوَةُ المَرْءِ المُسْلِمِ لأَخِيهِ بظَهْرِ الغَيْبِ مُسْتَجَابَةٌ، عِنْدَ رَأْسِهِ مَلَكٌ مُوَكَّلٌ كُلَّما دَعَا لأَخِيهِ بخَيْرٍ، قالَ المَلَكُ المُوَكَّلُ بهِ: آمِينَ وَلَكَ بمِثْلٍ]. كما قال صلى الله عليه وسلم: [إنَّ ربَّكم حَيِيٌّ كريمٌ، يستحيي مِن عبدِه إذا رفَع يدَيْهِ إليه أنْ يَرُدَّهما صِفرًا]. وقال أيضاً: [لَا يَزَالُ يُسْتَجَابُ لِلْعَبْدِ، ما لَمْ يَدْعُ بإثْمٍ، أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ، ما لَمْ يَسْتَعْجِلْ]، قيلَ: يا رَسُولَ اللهِ، ما الاسْتِعْجَالُ؟ قالَ: [يقولُ: قدْ دَعَوْتُ وَقَدْ دَعَوْتُ، فَلَمْ أَرَ يَسْتَجِيبُ لِي، فَيَسْتَحْسِرُ عِنْدَ ذلكَ وَيَدَعُ الدُّعَاءَ]. وقال صلوات الله وسلامه عليه: [أَقْرَبُ ما يَكونُ العَبْدُ مِن رَبِّهِ، وهو ساجِدٌ، فأكْثِرُوا الدُّعاءَ].

 

ولكثرة ما ورد في القرآن الكريم والسُنة المُشَرّفة من ذِكرٍ للدعاء؛ قال أهل العلم إنّ للدُعاء فضلاً كبيراً وفوائد؛ منها: أنه طاعةٌ لله -عزّ وجلّ- وامتثالٌ لأمره، وهو أكرم شيءٍ عليه، ومن الأمور المحببة إليه، وهو يرد القدر، وهو سببٌ لانشراح الصدر وتفريج الهم وزوال الغم وتيسير الأمور، كما أنه سببٌ لتجنب غضب الله، ودليلٌ على صدق التوكل عليه. وقالوا إنّ الدُعاء المُطلق ليس له وقتٌ مُحددٌ، وإنما هناك أوقاتٌ يُستجاب فيها أكثر من غيرها؛ منها: الثُلث الأخير من الليل، بين الأذان وإقامة الصلاة، النوم على طهارة والاستيقاظ في الليل، عند إفطار الصائم، في ليلة القدر، وقت نزول المطر، آخر ساعةٍ من يوم الجُمعة، وأثناء السُجود حين يكون العبد أقرب ما يكون من ربه. وبينوا أنّ من أسباب استجابة الدعاء: الاستغفار والتوبة من الذنوب، الابتعاد عن المُحرمات، أداء الفروض من صلاةٍ وصومٍ وزكاةٍ، الإكثار من النوافل والصدقات، العمل الصالح وبر الوالدين، الدُعاء بما هو خيرٌ، عدم الدُعاء بإثمٍ أو قطيعة رحم، حضور القلب والتضرع والخشية من الله واستشعار عظمته، الدُعاء بأسماء الله الحسنى وصفاته، الدُعاء للغير من المسلمين بخير الدنيا والآخرة، والإكثار من قول ﴿لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾. وحددوا سُنن الدُعاء وآدابه في: عدم الاستعجال في الإجابة، افتتاح الدُعاء بحمد الله تعالى والصلاة على نبيه الكريم والختم بذلك، تَحَيُّن أوقات الاستجابة، الدُعاء في الرخاء والشدة، عدم الدُعاء على النفس أو الأهل أو الولد أو المال، خفض الصوت ليكون بين المُخافتة والجهر، التضرع وإظهار الذُل والخضوع والابتهال والافتقار إلى الله والشكوى إليه، الإلحاح في الدُعاء، الاعتراف بالذنب وشُكر النعمة، عدم تكلف السجع، الدُعاء ثلاثاً، استقبال القبلة، والوضوء قبل البدء بالدُعاء، رفع اليدين أثناء الدُعاء.

 

والدُعاء ليس فقط (الجوهرة) التي مَنَّ الله بها على عباده، بل هو أيضاً السلاح الذي يُجابهون به جميع ظُروف الحياة؛ قال العُلماء إنه مع الدُعاء بإخلاصٍ، والإلحاح، واليقين باستجابة المولى عزَّ وجلَّ، وعدم اليأس، فإن الله سُبحانه وتعالى يستجيب بما يراه خيراً للعبد في الدُنيا والآخرة؛ فقد تكون الاستجابة فوريةً، وقد يؤخرها الله إلى وقتٍ آخر، وقد يدفع بها مُصيبةً عن صاحبها ويُعوضه بدلاً عنها، وقد يدّخرها للعبد إلى يوم القيامة وهذا أفضلها.

 

أحبتي.. أضعف الناس همةً وأعماهم بصيرةً من كان عاجزاً عن الدُعاء، رغم أنه أسهل وأيسر عبادةٍ يُمكن لكل فردٍ القيام بها. وإذا كان الدُعاء جوهرةً ثمينةً فلا تُهملوا (الجوهرة)، زيِّنوا بها أوقاتكم، وادعوا الله مباشرةً بدون واسطةٍ؛ فقد تكفل سُبحانه بالإجابة. واعلموا أن الله عزَّ وجلَّ ما كان ليُلهم العبد الدُعاء لولا أنه قد كتب له الإجابة. وإجابة الله دُعاءك لا تعني أنك من أولياء الله، لكنها تعني أن الله سُبحانه وتعالى رحمك مع تقصيرك، وتجاوز فتفضّل وتكرّم وأجاب؛ فاشكر نعمه، وتُب إليه، وامتنع عن الذنوب والمعاصي ما استطعتَ، وتقرّب إليه بما يُحب ويرضى مما افترضه عليك من فروضٍ، ومما تقدر عليه من نوافل.

اللهم إنّا ندعوك كما أمرتنا، فاستجب لنا كما وعدتنا، وأنت الكريم، وأنت الرؤوف الرحيم، وأنت الغفور الحليم، وأنت سُبحانك السميع العليم.

 

https://bit.ly/3pPc7lK