الجمعة، 5 أكتوبر 2018

إلى متى؟!


الجمعة 5 أكتوبر 2018م

خاطرة الجمعة /١٥٥
(إلى متى؟!)

أرسل لي أحدهم النص التالي: "دعاءٌ لتفريج الهم وزوال الغم: اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك وتحول عافيتك وفجاءة نقمتك وجميع سخطك. يا فارج الهم ويا كاشف الغم فرج همي ويسر أمري وارحم ضعفي وقلة حيلتي وارزقني من حيث لا أحتسب يا رب العالمين. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من أخبر سبعةً من الناس بهذا الدعاء فَرَّج الله همه}، ارسلها بنية الفرج". رددتُ عليه بقولي: "الدعاء جميلٌ عسى الله أن يستجيب. أما ما وَرَد على أنه حديثٌ للرسول عليه الصلاة والسلام فلم تثبت صحته، إنه حديثٌ باطلٌ ومكذوبٌ. أرجو تعميم هذا التوضيح على كل من أرسلت لهم الدعاء، واطلب من كلٍ منهم فعل نفس الشيء حتى لا تتحمل أنت وهم وكل من ينشر هذا الدعاء من بعدكم وزر الكذب على النبي عليه الصلاة والسلام. مع رجاء عدم نشر أي حديثٍ للرسول صلى الله عليه وسلم إلا بعد التأكد من صحته. أما حجة "كما وردني" أو "كما وصلني" فهي غير مقبولةٍ، نحن محاسبون على كل كلمةٍ نكتبها أو ننطق بها، بل ومحاسبون عن كل من كتبها أو نطق بها نقلاً عنا إلى يوم القيامة، فاستكثروا أحبابي من كلامٍ تُجزون عنه خيراً كثيراً، وتجنبوا أية كلمةٍ تهوي بكم إلى نار جهنم والعياذ بالله. هدانا الله وإياكم وأصلح أحوالنا جميعاً".
وأرسل لي شخصٌ آخر ما يلي: "قال رســول صلى الله عليه وسلم: {من يبارك الـناس بهذا الشهر الفضيل – يعني ربيع الأول- تحرم عليه النار}"، فكتبتُ له رداً مماثلاً، رغم أن هذا الحديث بالذات يتكرر إرساله مع مطلع كل شهرٍ هجريٍ؛ حيث يتم فقط تغيير اسم الشهر في الحديث النبوي المزعوم!
وغير هذين الحديثين الباطلين كثيرٌ وكثيرٌ من أحاديث موضوعةٍ وملفقةٍ لا تنتهي ينسبون قولها افتراءً إلى نبينا الكريم.

أحبتي في الله .. الموضوع قديمٌ متجددٌ .. لا يكاد يمر يومٌ واحدٌ دون أن تصلني رسائل أو أطلع على منشوراتٍ في مواقع التواصل الاجتماعي بها كذبٌ صريحٌ على النبي عليه الصلاة والسلام. الملفت للنظر هو سرعة تعميم ونشر مثل هذه الأكاذيب من قبل أشخاصٍ من فئاتٍ مختلفةٍ متفاوتين في مستوياتهم الثقافية والتعليمية والاقتصادية؛ فالأمر لم يعد مقصوراً على أنصاف المتعلمين أو محدودي الثقافة. والمثير في الأمر أن هؤلاء الناس لا يكلفون أنفسهم عناء البحث للتأكد من صحة ما يعتزمون نشره قبل النشر، رغم أن ذلك لا يستغرق سوى دقائق معدودة.
أندهش حقيقةً لما أعتبره أحد أشد سلبيات مواقع التواصل الاجتماعي خطورةً وأكثرها ضرراً، ولا أكاد أفهم ما الذي يجبر مثل هؤلاء للمسارعة إلى ارتكاب هذه الجريمة وتحمل وزرها؟ لماذا لا يعطون أنفسهم مهلةً للتأكد من مصداقية ما ينشرون قبل وقوعهم في المحظور؟

وللناس بعد أن تُصَوِّب لهم مثل هذا الخطأ الجسيم حالاتٌ: منهم من يبادر إلى حذف المنشور إذا توفرت إمكانية الحذف وينشر ويعمم فوراً ما يصله من توضيحٍ وتصحيحٍ، ومنهم من يشكر باقتضابٍ ولا يفعل شيئاً، ومنهم من لا يهتم بأي شكلٍ من الأشكال، ومنهم من يُماري ويجادل رغم وضوح ما يصله من أدلةٍ وبراهين تثبت عدم صحة ما ادعى كذباً وزوراً أن الرسول الكريم قد قاله، في الوقت الذي لا يجرؤ فيه أن ينسب لمديرٍ أو وزيرٍ أو مسئولٍ حرفاً واحداً لم يقله. الغريب أن جريمة نشر أخبار ٍكاذبةٍ تصل عقوبتها إلى السجن لعدة سنواتٍ، أما نشر حديثٍ مكذوبٍ ونسبته إلى النبي عليه الصلاة والسلام فلا أكاد أعرف له عقوبةً في قوانيننا الوضعية، وإن كانت عقوبته في الدنيا الندم؛ يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا إِن جاءَكُم فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنوا أَن تُصيبوا قَومًا بِجَهالَةٍ فَتُصبِحوا عَلى ما فَعَلتُم نادِمينَ﴾، وعقوبته في الآخرة أشد وأخزى، ربما لا يعيها من يتسرع بنشر حديثٍ غير صحيحٍ. لقد حذرنا رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم من الكذب عليه؛ فقال: [إِنَّ كَذِبًا عَلَيَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى غَيْرِي؛ فَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَده مِنْ النَّار]، وقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [لَا تَكْذِبُوا عَلَيَّ؛ فَإِنَّهُ مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ فَلْيَلِجْ النَّارَ].

يقول العلماء أن السُّنَّةُ هي المصدرُ الثاني للتشريع بعد كتاب الله عزَّ وجلَّ، جاءت لشرح وتفصيلِ وبيَانِ ما جاءَ في القرآن مجملاً؛ يقول تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾. وإذا حُرِّفتِ السنةُ، حُرِّفت معاني كتاب الله تبعاً لهوى من ينشرون هذه الأحاديث الكاذبة، والتي تبدو في ظاهرِها جيدة المعنى لكنها في الباطن تؤدى إلى طَمسِّ السُّنَّةِ واختلاطها بما يُشيعونَ ويُروجونَ له من الباطل. ومما يؤسفُ له أنَّ العَوامَ والجُهَّالَ ممن لا علمَ لهم بالسُّنَّةِ، يتلقفونَ هذه الأحاديث الموضوعة والمكذوبَة والمُفتراة، وينشرونها على مواقع شبكة الإنترنت وعلى مواقع التواصل الاجتماعي وبواسطة برامجه المختلفة، على أنها أحاديث صحيحةٌ، وهم يحسبونَ أنهم مُحسنونَ بل ويقولونَ: "أستحلفك بالله، قُم بإرسالها لعشرةِ أشخاص"، أو "لا تجعلها تقف عندك"، أو "من لا يعممها يعلم أن الشيطان هو الذي منعه"؛ وهكذا تنتشر الخُرافات والبِدعَ انتشار النار في الهشيم.

(إلى متى؟!) نظل ننقل عن غيرنا أحاديث باطلةً ومكذوبةً وموضوعةً عن النبي عليه الصلاة والسلام؟ (إلى متى؟!) نظل نصدق أن إرسال هذه الرسالة لعددٍ معينٍ من الناس سيحقق لنا الخير؟ (إلى متى؟!) نظل نصدق شخصاً يبدأ كلامه بالقسم بالله العظيم؟ هل من ينقل مثل هذه الأحاديث المكذوبة الموضوعة والباطلة لا يعلم عقوبة الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم؟
كلماتٌ مثل: "كما وردتني" أو "نقلتها كما هي" أو "أعجبني معناها" أو "راقت لي" لن تنفعنا يوم الحساب، ولن ينفعنا يومها حسن النية ولن يشفع لنا طيب المقصد؛ فالعبرة بالعمل وما ينتج عنه من آثار: إذا أنت نقلت وعممت حديثاً شريفاً وهو غير صحيحٍ، فإنك لا تعلم كم من شخصٍ بعدك قرأه وحسبه صحيحاً ثم قام بتعميمه ونشره، ثم يتلقفه غيره فيعيد نشره، وهكذا خلال ساعاتٍ قليلةٍ تكون قد اكتسبت تلالاً من السيئات وجبالاً من الأوزار أنت في غنىً عنها.
أما آن الأوان لأن نتحقق ونتثبت من صحة الأحاديث قبل نشرها؟ فلنتقِ الله في أنفسنا وفي غيرنا فلا ننقل إليهم أحاديث كاذبة. والقول بأننا نعيد نشر ما وصل إلينا كما هو لا يُعفي من المسئولية وتحمل الوزر والإثم، إلا من استغفر الله وتاب وأناب ونَبَّه غيره إلى ما في هذه المنشورات من كذبٍ وافتراءٍ واستخفافٍ بالعقول ومخالفةٍ للعقيدة الصحيحة، ولم يعد إلى ذلك مرةً أخرى أبداً.

أحبتي .. إن كنتم تعلمون كيف تتأكدون بأنفسكم من صحة الحديث فلا تتكاسلوا في عمل ذلك قبل النشر، وإن كنتم لا تعلمون فاسألوا غيركم ممن يعلم، ولا عيب في ذلك ولا ضرر، وإلا فامتنعوا عن إعادة النشر والتعميم؛ فخسارة ثوابٍ محتملٍ أفضل كثيراً من اكتساب وزرٍ مؤكد.
والتقنيات الحديثة سلاحٌ ذو حدين؛ إذا أحسنا استخدامه في نشر الأحاديث النبوية الشريفة الصحيحة نلنا أجوراً مضاعفةً وحسناتٍ جاريةً كثيرةً ومستمرةً إلى يوم الدين؛ فهذا تبليغٌ بصحيح الدين وعلمٌ يُنتفع به، أما نشر حديثٍ واحدٍ مكذوبٍ، فيترتب عليه وزرٌ يكبر ويتضاعف ويتجدد كلما أعاد شخصٌ ما، قد لا نعرفه، نشر الحديث المكذوب نقلاً عنا، أو نقلاً عن شخصٍ نقل عنا، وهكذا تتسع الدائرة ونكتسب مع اتساعها كل يومٍ بل كل لحظةٍ سيئاتٍ جاريةً مستمرةً تتزايد دون أن ندري!
يا ويلتنا أعجزنا أن نكون مثل الهدهد عندما قال لسيدنا سليمان: ﴿أَحَطتُ بِما لَم تُحِط بِهِ وَجِئتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقينٍ﴾
فنلتزم بألا نقول أو نكتب أو ننشر ونعمم إلا النبأ اليقين؛ فنتثبت من صحة ما ننشر قبل النشر والتعميم؟!
اعذروني لانفعالي؛ فقد تكرر هذا الأمر كثيراً. هدانا الله وإياكم، وتجاوز عن تقصيرنا وسيئاتنا، وتقبل منا ومنكم صالح الأعمال.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.


https://goo.gl/jY4YVz