الجمعة، 22 أكتوبر 2021

كفران نعم الله

 

خاطرة الجمعة /314


الجمعة 22 أكتوبر 2021م

(كفران نعم الله)

 

تقول صاحبة القصة: سأحكي لكم قصتي، خذوا منها العظة والعبرة، أكتب لكم قصتي ودموعي على خديّ، دموع الألم، دموع الندم والحسرة، ودموع الفراق. أراد ربي لي أن أكون عبرةً للكثير من النساء اللاتي ينعمن في حياتهن بنعم كثيرةٍ لا يشكرن الله عليها، رغم علمهن بأنه بالشكر تدوم النعم.

أنا امرأةٌ عصبيةٌ جداً، تزوجتُ في سنٍ مبكرةٍ، وأنجبت سارة وخالد، كانا كبقية الأطفال يلعبان ويجريان ويتشاجران ويخربان، لكني ما كنتُ أحتملهما؛ أصرخ عليهما وأضربهما كثيراً، وكنتُ دائماً أقول: "ليتني ما تزوجتُ، ليتني ما حملتُ بهما، ليتني ما أنجبتهما، أنا دفنتُ شبابي"، وأنا وأنا وأنا…. كنتُ إنسانةً جاهلةً بمعنى الكلمة، ولا أحمد الله تعالى، ما قدّرتُ هذه النعم التي أنعم بها عليّ؛ فقد كان عندي زوجٌ حنونٌ في الوقت الذي حُرمت الكثير من النساء نعمة الزواج، وإذا تزوجن فربما لا يكون أزواجهن بحنية زوجي، وعندي طفلان جميلان ومتعافيان في الوقت الذي حُرم فيه الكثير من نعمة الأطفال. ما كنتُ أدعو لابني وابنتي بالهداية والصلاح، بل على العكس، كنتُ أدعو عليهما بالموت؛ وأقول: "الله يأخذكما، الله يلعنكما، ذبحتماني، جننتماني" وغير ذلك من هذه الكلمات القبيحة، أستغفر الله وأتوب إليه.

وفي أحد الأيام زادت شقاوتهما ولعبهما ولم يناما حتى صرختُ عليهما وضربتهما ودعوتُ عليهما: "إلهي تناما ولا تستيقظان"، دعوتُ عليهما بالموت، لا زالت كلماتي ترن في أُذنيّ، وأغلقتُ عليهما الباب ونسيتُ الدفاية مشتعلةً. كنتُ كل يومٍ أتفقدهما وأغطيهما وأُقبِلهما وأندم على ضربي لهما وصراخي عليهما وأُغلق الدفاية، إلا في ذلك اليوم، سبحان الله، نسيتُ أن أطفئ الدفاية؛ كنتُ متعبةً، نمتُ ولم أشعر بشيءٍ، ولم أستيقظ إلا على رائحة الدخان، أيقظتُ زوجي وخرجنا من الغرفة مفجوعين، الدخان في كل مكانٍ والنار في غرفة أولادي تلتهمهم دون رحمةٍ أو شفقةٍ، وأنا أصرخ مستغيثةً بالجيران. حضر رجال الدفاع المدني، وأخرجوا جثتيّ الطفلين متفحمتين أمام عينيّ، لن أنسى منظرهما ما حييتُ، تذكرتُ ضربي لهما وكلماتي الأخيرة عندما دعوتُ عليهما. يا ربِ ليتهما يعودان للحياة، ليتهما يعودان للعب والشقاوة والكتابة على الجدران والصراخ. لحظاتٌ صعبةٌ مررتُ بها أنا وزوجي. لم أكن أحمد الله على هذه النعم، ولم أتعامل بالحسنى مع ابني وابنتي .. ندمتُ ولكن وقت لا ينفع الندم. لي سنةٌ ونصف أتلقى علاجاً نفسياً. وحتى يكتمل عقابي -الذي أستحقه- فقد ضعفت لدي إمكانية الحمل بسبب مضادات الاكتئاب التي أتناولها، ولا أستطيع العيش بدونها.

أحكي لكم قصتي وألمي وندمي، والدموع لا تفارق خدي.

عيشوا مع أبنائكم كل تفاصيل حياتهم، العبوا معهم، شاركوهم أفراحهم وهمومهم الصغيرة، وحنوا عليهم، واحتضنوهم واصبروا على شقاوتهم فإنها أجمل اللحظات التي افتقدتها وحُرمتُ منها.

 

أحبتي في الله .. هذه قصةٌ عن (كفران نعم الله) والجحود بها، ورغم أن نعم الله كثيرةٌ؛ ظاهرةً وباطنةً، وتعم جميع الناس، إلا أنهم يتفاوتون في شكرها وحمد الله عليها؛ منهم من هو دائم الشكر عليها، ومنهم المقتصد، ومنهم من ألِفَ النعم وتعوَّد عليها فهو إما نادر الشكر أو لا يقوم بواجب الشكر أبداً، ومنهم من يتلقى نعم الله بالسُخط والتأفف والشكوى من قلتها أو تأخرها أو لأنها لم تكن كما يريد! أما أسوأ الناس فهو من يكفر هذه النعم ويجحد بها، ويُزين له الشيطان أنه لو تخلص منها لارتاح وسعد في حياته وهنأ في معيشته؛ فتراه يدعو الله أن يحرمه منها! لقد عميت بصريته، وعندما يستجيب الله دعواته تراه نادماً وقت لا ينفع الندم.

 

وعن (كفران نعم الله)، قصّ لنا الله سبحانه وتعالى القصص في كتابه الكريم لنعتبر؛ يقول تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾، فمن الأقوام الذين كفروا بنعم الله وجحدوا بها قوم سبأ؛ يقول تعالى عنهم: ﴿لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ . فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ . ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ . وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ . فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾.

ومنهم كذلك بني إسرائيل؛ أنعم الله عليهم بالكثير، فلما لم يوفوا حقه في شكر تلك النعم كان الجزاء تبديل هذه النعم إلى نقمٍ؛ يقول تعالى: ﴿وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾. ومن هؤلاء الأقوام كفار قريش؛ يقول تعالى عنهم: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ . جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ﴾. وهذه قرية كفرت بأنعم الله يقول عنها تعالى: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾ فقد مضت سنة الله في خلقه أن من كفر نعمة الله ولم يشكر الله عليها؛ يسلبها الله منه ويذيقه ضدها.

 

ومِن الأفراد مَن كفر بنعم الله وجحد بها، مثل أصحاب الجنة يوم الحصاد؛ علموا أنّ في مالهم وثمارهم حقاً لله عليهم، لكنهم بخلوا وخططوا لمنع المساكين؛ يقول تعالى عنهم: ﴿فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ . أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ . فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ . أَن لَّا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ﴾، فماذا وجدوا؟ وجدوا عقاب الله قد سبقهم إلى جنتهم؛ لعلم الله بسوء نيتهم وبمكرهم؛ يقول تعالى: ﴿فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ . فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ﴾ أي صارت جنتهم كالليل الأسود، أو مثل الزرع إذا حُصِد صار هشيماً يبساً، فكان ندمهم وكانت حسرتهم، وأخذ كلٌ منهم يلوم الآخر؛ يقول تعالى: ﴿فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ . قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ﴾.

ومثل صاحب الجنة؛ يقول تعالى عنه: ﴿وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا . وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا﴾؛ فقاده غروره وكفره إلى غضب الله عزّ وجلّ عليه واستحق العقاب وتبدل حاله؛ فما كان منه إلا أن أظهر ندمه وقت لا ينفع الندم؛ يقول تعالى: ﴿وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا﴾.

 

يقول أهل العلم لا يظنن أحدٌ أن كُفر النعمة وعدم شكر الله عليها يتعلق باللسان فقط، كأن يمتنع عن قول: الحمد لله، الشكر لله، بل إن معنى كُفر النعمة أن يستعمل النعمة في غير الحكمة التي أريدت بها، ومن ذلك: البغي بالمال، والترفع به على خلق الله والتعاظم عليهم، والتجبر بهم، والفساد فيهم؛ كما فعل قارون الذي كان من قوم موسى فأهلكه البغي لكثرة ماله. ومن كُفر النعمة استعمالها في معصية الله؛ فمن استخدم ماله وتقوَّى به على ارتكاب المعاصي، وامتنع عن أداء زكاته وتعامل بالربا كان ذلك كفرًا بنعمة المال، فكان ذلك سببًا في زوال هذه النعمة والإصابة بضدها وهو الفقر. وقد يغدق الله عزَّ وجلَّ على عبدٍ بالنعم الكثيرة ولا يكون ذلك لمحبة الله له ورضاه عنه وأنه أهلٌ لهذه النعم ومستحقٌ لها، فقد يكون ذلك استدراجاً واختباراً له أيشكر أم يكفر؛ يقول تعالى: ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾، ويقول تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ . وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾.

 

إن نعم الله علينا كثيرةٌ لا تُعد ولا تُحصى؛ يقول تعالى: ﴿وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾. و(كفران نعم الله) يُغضب الله سبحانه وتعالى، أما شكرها فهو موصلٌ لمرضاته؛ يقول تعالى: ﴿إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ﴾. وبالشكر تدوم النعم وتزداد، أما عدم الشكر فهو مدعاةٌ لغضب الله وعذابه؛ يقول تعالى: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾. وفي الشكر أمانٌ من عذاب الله؛ يقول تعالى: ﴿مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ﴾.

وعن شكر النعم قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: [إِنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى عَنِ الْعَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الأَكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا].

 

أحبتي .. الشكر حافظٌ للنعم الموجودة وجالبٌ للنعم المفقودة؛ فإن النعمة إذا شُكرت قرَّت ونمت وزادت وإذا كُفرت فرَّت وغابت وبارت. فلنحرص على شكر ربنا على نعمائه وحمده على فضله وعطائه، ولنسأله سبحانه أن يوزعنا شكر نعمه، وأن يعيذنا من تبديل النعمة كفراً، ولنأخذ العِظة والعبرة مما قصّ الله علينا من أخبار السابقين، فإن السعيد من وُعظ بغيره، والشقي من اتعظ به غيره. لنتقي الله، ولنحذر شديد الحذر من (كفران نعم الله) بأي صورةٍ من الصور، وليعلم من كفر بنعم الله أنه إن لم يبادر إلى التوبة والإنابة إلى الله فلا مناص له من أحد أمرين: إما عقوبةٌ معجلةٌ تزول بها النعمة وتتحول فيها العافية وتحل النقمة، أو أن يُمَد له في الإنعام على وجه الاستدراج؛ يقول تعالى: ﴿أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ . نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ﴾.

‏اللهم اجعلنا من الشاكرين، وألهمنا الحمد والشكر لك على جميع أنعمك وأفضالك، واجعل قلوبنا وألسنتنا تلهج بالثناء عليك، ولا تحرمنا ربنا من نعمك وآلائك بغفلتنا وقلة شكرنا، وأدم اللهم علينا نعمك ظاهرةً وباطنةً، وأعنا على ذِكرك وشكرك وحُسن عبادتك على الوجه الذي يُرضيك عنا.

 

https://bit.ly/2Zciwy1