الجمعة، 10 ديسمبر 2021

تدبُّر القرآن


خاطرة الجمعة /321


الجمعة 10 ديسمبر 2021م

(تدبُّر القرآن)

 

تحكي عن جارةٍ لها فتقول: أذكر أياماً خوالي قضيتها من عمري في دمشق، وأذكر جارةً لي هناك، كنتُ كلما طرقتُ عليها الباب صباحاً لأقول لها: "تفضلي، اشربي فنجان قهوة"، كانت فوراً تأخذ حجابها ومفتاحها وتدخل وتقول: "وين القهوة؟ فليس لديّ وقت.. اغلِ القهوة سريعاً"، وبعد أن نشرب القهوة تقوم وتقول: "ليس لديّ وقت"؛ فأتعجب منها. كل يومٍ.. وكل وقتٍ.. وأنا أعزمها دائماً.. فقد كنتُ قد كبرتُ وأصبحتُ وحيدة. والعجب أنها أكبر مني عمراً، وليس لديها سوى زوجٍ شيخٍ كبيرٍ في السن مثلها. ولم تكن هذه الزيارات تستغرق الكثير من الوقت؛ فدائماً نشرب القهوة وتنصرف سريعاً وهي تعتذر: "ليس لديّ وقت"! وأحياناً كنتُ أعزم نفسي عندها، وأراها تبتسم وتقول: "فوتي، أغلي القهوة، فليس لديّ وقت".. وأزداد عجباً فلستُ أرى ما يشغلها.. أشرب القهوة وأعود سريعاً خوفاً من إزعاجها. وذات يومٍ قلتُ لها مازحةً: "يا ريت تشغليني معك بالذي يشغلك، ويجعلك ما عندك وقت"، فأشرق وجهها استبشاراً وفرحت وقالت: "منذ زمنٍ وأنا أنتظر منك هذا الطلب".. غداً نبدأ عملنا معاً إن شاء الله تعالى. دخلتُ بيتها صباحاً، شربنا القهوة، ومن ثمّ قالت: "ليس لدينا وقت".. أحضرتْ مُصحفين وقالت: "هيا بنا نقرأ آية ونتدبرها، ونُحاسب أنفسنا أين نحن منها!"، حَبِستُ أنفاسي للحظاتٍ ثم قلتُ لها: "مصحف؟ آية؟ نتدبر؟ أين أنا من هذا؟ أهذا ما يشغلك يا جارتي العزيزة الرائعة؟ أهذا هو لغز عبارة ليس لديّ وقت؟"، قالت مبتسمةً: "نعم، فلم يعد لدينا أنا وأنتِ وقتٌ؛ نُسابِقُ زمن عمرنا، ودقائقه، وثوانيه قبل أن يسبقنا، ونجد أنفسنا في قبرٍ مظلمٍ لا يُنيره سوى نور القرآن، والصّدق مع كلام الله، وتعمير أوقاتنا بالطّاعات وأعمال البر"..

آه.. كم أحسستُ لحظتها أني كبرتُ كثيراً، وأنه فعلاً ليس لديّ وقت!! وأحسستُ بيدي تُمسك بحافة القبر وأنا أنظر إليه.. وأحسستُ بدقات قلبي معدودة.. أمسكتُ بالمصحف عطشى، أرتوي منه، ولا ينتهي ظمئي. آهٍ يا نفسي كم شغلتيني عن كلام ربي! سأسابق الزمن، والعمر، والموت لأعوض ولو بعضاً مما فاتني.

أحبتي في الله .. لقد وفق الله سبحانه وتعالى هذه الجارة - وأمثالها- إلى أمرٍ عظيمٍ وهو (تدبُّر القرآن)، ليس فقط مجرد قراءته وتلاوته ولا حتى حفظه -وإن كان كل ذلك مهماً- بل تدبر معانيه، ومحاسبة النفس عما كان منها بعد تدبره. إنه والله لأمرٌ عظيمٌ أزعم أن الكثير منا غافلون عنه.

 

وعن (تدبُّر القرآن) يقول تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾، ويقول سبحانه: ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾، ويقول كذلك: ﴿أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ﴾، ويقول أيضاً: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾.

 

أما مفهوم التدبر في اللغة فهو يعني النظر في عواقب الأمور وما تؤول إليه، وفي المصطلح فإن (تدبُّر القرآن) يعني تأمل القرآن بقصد الاتعاظ والاعتبار والاستبصار، وتصفح آياته، وتفهُّمها، وإدراك معانيها، والعمل بها.

 

وعن (تدبُّر القرآن) يقول العلماء إن التدبُّر في القرآن يُثبت أنه من عند إلهٍ حكيمٍ قديرٍ، وليس للبشر أن يُبدعوا مثله أبداً؛ فيُطَمْئِن المؤمنَ في عبوديته لله عزَّ وجلَّ، ويُزيل الشُبهة، ويُقَوِّي العقيدة، مما ينعكس على حياة الإنسان كلها. والتدبُّر في القرآن طريق هدايةٍ؛ فالقرآن له مذاقٌ خاصٌّ، وفيه أسرارٌ عظيمةٌ، وبقدر تدبُّر المؤمن فيه يفتح الله له أبواب الهداية، والذي لا يتدبَّر القرآن يُخشَى عليه أن يضل ويزيغ. والتدبُّر في القرآن يفتح آفاقاً مباركةً هائلةً من المعرفة، فقد ملأه ربُّ العالمين بكنوز العلم بشتَّى فروعه، والذي يتعلَّم في نور القرآن يصل إلى ما لا يقدر غيره على الوصول إليه؛ قال بعض التابعين: “من تدبر القرآن طالباً الهدى منه؛ تبين له طريق الحق”.

 

وحتى يتحقق (تدبُّر القرآن) يرى أهل العلم أن لذلك خطواتٍ هي: الاستعداد النفسيّ للتدبُّر: فتدبُّر القرآن يبدأ من إرادة الشخص داخليّاً، ووجود دافعٍ، ويكون ذلك بالتأمُّل، والنَّظَر، والبحث. اختيار المكان المناسب، والوقت الملائم: باستقبال القِبلة، والحرص على الطهارة، والخشوع في الجِلسة، ومن الأوقات المُفضَّلة وقت السَّحَر. التوجُّه إلى الله بالدعاء: فالاعتماد على الأسباب دون الرجوع إلى مُسبّب الأسباب من الأخطاء التي قد يقع فيها العباد. المراقبة الذاتيّة أثناء القراءة: فينظر القارئ إلى ما يمنعه من الوصول إلى التدبُّر، ويبحث عن الحلول لتجاوز تلك الموانع، كما يُمكن تحقيق التدبُّر بتلاوة الآيات بصوتٍ عالٍ، أو خَفضه. عدم التعجُّل في القراءة: فلا بدّ من تلاوة القرآن بتأنٍ وهدوءٍ ورَويّة، وتعويد النفس على ذلك، والأفضل عدم خَتْم القرآن في أقلّ من ثلاثة أيّامٍ. اعتبار الخطاب الإلهيّ مُوجَّهاً إلى النَّفْس: فيسعى القارئ إلى استجابة أمر الله الوارد في الآيات، وعليه أن يُسقط القرآن على نفسه، وواقعه، ويتساءل عن مُراد الله، وغايته. المحافظة على الوِرد اليوميّ: فقد أمر الله -تعالى- عباده بتلاوة القرآن، ولم يُلزمهم بقَدْرٍ مُعيَّنٍ؛ فكلّ شخصٍ له ظروف تختلف عن غيره، ولهذا يقرأ بحسب ما يناسبه.

 

يقول أحد العلماء أنْ ليس شيءٌ أنفع للعبد في معاشه ومعاده، وأقرب إلى نجاته من (تدبُّر القرآن)، وإطالة التأمل، والتفكر في معاني آياته؛ فإنها تُطلع العبد على معالم الخير والشر؛ فتضع في يده مفاتيح كنوز السعادة والعلوم النافعة، وتثبت قواعد الإيمان في قلبه. وتُعرِّفُهُ الرب المدعو إليه، وطريق الوصول إليه، وما له من الكرامة إذا قدم عليه. كما تُعرفه ما يدعو إليه الشيطان، والطريق الموصلة إليه، وما للمستجيب لدعوته من الإهانة والعذاب بعد الوصول إليه.

 

وعن تدبُّر الصحابة -رضي الله عنهم- للقرآن الكريم؛ كان أحدهم إذا تعلم عشر آياتٍ لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن؛ فتعلموا العلم والعمل. حتى المشركين الذين لم يسلموا عرفوا قدر القرآن الكريم؛ إذ وصفه كبيرٌ من كبرائهم بقوله: "واللهِ إن لقوله الذي يقول لحلاوة، وإنّ عليه لطلاوة، وإنه لمثمرٌ أعلاه، مغدقٌ أسفله، وإنه ليحطم ما تحته، وإنه ليعلو وما يُعلى عليه". ومع ذلك نجد من بيننا كمسلمين من يقصر علاقته بالقرآن تلاوةً وتدبراً على شهر رمضان فقط، وكأنه في غنىً عن هدى الله ونوره ورحمته وحياة قلبه أحد عشر شهراً كل عام!

 

أحبتي .. إن التلاوة الحقة لكتاب الله تعالى تعني تلاوته بفهمٍ لآياته وتدبرٍ لمعانيه ينتهي إلى إدراكٍ وتأثرٍ ثم عملٍ وسلوك. فالعبرة ليست -كما يفعل كثيرٌ منا- بكثرة عدد ختماتنا للقرآن، بل بمدى فهمنا له والتزامنا بأحكامه، وإقامتنا لحدوده، وإتيان أوامره واجتناب نواهيه، العبرة باختصار تكمن في (تدبُّر القرآن). فلينظر كلٌ منا في أسلوبه وطريقة تعامله مع القرآن؛ فربَّ ختمةٍ واحدةٍ بتدبر أبرك وأنفع وأثقل في موازيننا من عشرات الختمات بغير تدبر. ولا أعجب من أن نجد من المسلمين -شباباً وشيوخاً- من لم يختم قراءة القرآن ولا مرةً واحدةً فيما مضى من عمره! لهؤلاء أقول: "عفى الله عما سلف، تدارك نفسك، ابدأ اليوم، بل الآن، في ختمةٍ تنوي بينك وبين الله سبحانه وتعالى أن تكون كاملةً وأن تكون بتدبرٍ وفهمٍ واستيعاب. لا تؤجل هذا الأمر، فلا تدري لعل الله أراد لك خيراً بإمهالك إلى الآن".

اللهم ارحمنا بالقرآن، واجعله لنا إماماً ونوراً وهدىً ورحمةً، اللهم ذَكِّرنا منه ما نسينا، وعلِّمنا منه ما جهلنا، وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار، واجعله حجةً لنا لا علينا يا رب العالمين.

 

https://bit.ly/3dCpBv1