الجمعة، 14 يوليو 2023

الصدق مع الله

 خاطرة الجمعة /404

الجمعة 14 يوليو 2023م

(الصدق مع الله)

 

في حج هذا العام ١٤٤٤هـ، ونقلاً عن إحدى السيدات الثقات، قالت: تعرفتُ على بعض الأخوات الفُضليات، جلسنا نتحدث عن أمورٍ مختلفةٍ يدور مُعظمها عن الدار الآخرة، فوجّهت إحدى الأخوات لنا سؤالاً: "أخبروني كيف أتيتُم إلى هُنا؟"، أجابت كل واحدةٍ عن السؤال إجابةً معروفةً من قبيل: هذه أتى بها زوجها، وهذه أتى بها ابنها، وهذه أتت مع أبيها، وبقيَت أختٌ واحدةٌ انتظرنا أن تُجيب لكنها سكتت، فبادرت السائلة بلفت انتباهها لتُجيب، فقالت: "أتيتُ بالحُب!"، فتعجبنا جميعاً كيف هذا؟! قالت وقد بدأت الدموع تتجمع في عينيها: "أحببتُه لدرجة أنني لم أستطع أن أصبِر فأتى بيَ الحب إلى هنا"، فسألتها إحداهن قائلةً: "كيف هذا؟"، فقالت: "كان لي منزلٌ صغيرٌ أعيش فيه وحدي بعد موت والدَيّ، عرضتُه للبيع، وبثمن البيع جئتُ إلى هنا"، فغرَت كل واحدةٍ منا فاها! هل هذه من البشر أم جاءت من زمن الصحابة؟ هل يُعقل هذا؟!

فأسرعنا بسؤالها: "وبعد العودة، أين ستعيشين؟ أنتِ وحيدةٌ؟ هل لكِ مكانٌ آخر تعيشين فيه؟"، فابتسمت وقالت: "لقد عِشتُ عمري كلّه وحيدةً بالفعل؛ حينما آثرتُ الدُنيا على الآخرة، وآثرتُ نفسي على ربي، وانشغلتُ بشهواتي عن إصلاح قلبي، حينها حقاً كنتُ وحيدةً، لأن الحياة الخالية من معرفة الله حياةٌ كئيبةٌ، والقلب الخالي من معرفة الله قلبٌ لا يعرف للأُنس سبيلاً، أمّا الآن فلسُت وحدي، معي خالق الكون، ومؤنس القلوب، وجليس مَن ذكرَه، فكيف أستوحشُ أو أشعرُ بالوحدة؟"، فقالت إحدى الأخوات بنبرةٍ هادئةٍ وتأثُرٍ بالغٍ بهذا الحديث: "وماذا عن مكان معيشتك بعد العودة؟!"، فأجابت قائلةً: "أرجو من الله أن يُبدلني خيراً منه في الجنة، فلا طاقة لي بالرجوع مرةً أخرى، أخشىٰ أن أعود فأُسلَب حُباً ملأ قلبي ووِجداني، أخشىٰ أن أعود للدُنيا فأفقد الله مرةً أخرى، وأعيش عيشة الحائر لا إلى العُصاة ولا إلى العارفين"، فقالت إحداهن مُتعجبةً: "سُبحان الله!"، سكتت قليلاً ثم أردفت تُكمل: "ولكن حبيبتي، يُمكننا مساعدتك في إيجاد شقةٍ ولو بالإيجار ونوفر لكِ عملاً، زوجي يستطيع مساعدتك في هذا الأمر، عسى الله أن يتقبل منكِ بَيعتك، ويرزقك مقابلها الجنة"، ثم ربتَت على يدها وقالت: "ولا تنسَي أختي نصيبكِ من الدُنيا"، فتبسمت صاحبتُنا وقالت: "أيُّ نصيبٍ يا عَيني؟ لقد أخذتُ نصيبي من الدُنيا كاملاً، بل أكثر من نصيبي، صدقيني لقد طلّقتُ الدُنيا ثلاثاً، لا تُفكرن في هذا الأمر ولا تحملن همّي فلي ربٌّ لا ينساني سيرزقني منزلاً خيراً من منزلي هاهُنا، هذا ظني به فهو أوفىٰ حبيب"، ثم قالت: "لله درّ إحدى نساء السلف وهي القائلة: «لو كان الموت يُشترى لاشتريته شوقاً للقاء ربي»".

لا أُخفي عليكم بكينا جميعاً لحالها، وتضاءلت كل تنازلاتنا مقارنةً بتنازلها لله، تمنينا لو أن الله أصلح قلوبنا لدرجة صلاحها هذه، أن نخرج في سبيل الله ولا ننظر للوراء ماذا ينتظرنا في الدُنيا، أن نولِّي قلوبنا شطر سُبل الصلاح فثمّ النعيم المُقيم. بعد حديثها لم نعرف ماذا نقول فآثرنا الصمت، وبالفعل ماذا نقول لمُحبّةٍ صدقت في محبتها؟ نُقنعها بأن تُقلل من شوقها لربها وتؤثِر الدُنيا قليلاً؟ كيف نُقنعها بأن تُفكر في الدُنيا ثانيةً بعد أن تَمَلَكَ حبُ الله قلبَها؟ واللهِ لقد استحَييتُ أن أقول لها مثلما قالت الأخوات–رغم أنني أعلم أنهن قُلن هذا حرصاً عليها– ولكنني استحييتُ أن أنصحها بالتفكير في الدُنيا وفي قلبها سكَن حبُ الخالق وحده، فكيف أُدخِل على هذا الساكن الجليل ساكناً رديئاً حقيراً.

وبينما كنا نفكر في أمرها وساد الصمتُ، وجدناها تكتب وُريقاتٍ مُتعددةً، ووزعتها علينا وقالت: "ناشدتكن الله ألا تفتحنَها إلا بعد عودتكن"، ورغم الفضول نزلنا على رغبتها واستسلمنا لِما قالت.

وفي اليوم التاسع من ذي الحجة، قُبيل مغرب يوم عرفة قابلنا صاحبتنا فوجدناها ازدادت جمالاً عن ذي قبل، كيف لا وحب الله يُضفي على الروح جمالاً من جمال الله فكيف بالبدن!

فقلتُ لها: "كلما رأيتكِ تذكرتُ نساء السلف يا حبيبة، أرجو ألا تكوني نسيتِني من صالح دعائكِ"، فتبسمت وقالت: "لم أنسَ لا تقلقي، اسأل الله ألا ينساكِ"، فارتجف قلبي وأمسكتُ بيدها ومشينا استعداداً للصلاة، فقالت لي سأذهب لفعل شيءٍ وأعود إليكِ، فلم أحب أن أُثقل عليها بالسؤال وتركتها تذهب. بدأنا الصلاة وهي لم تأتِ بعد؛ فقلقتُ عليها ودعوتُ الله أن يُيسر أمرها، وبعدما فرغنا من الصلاة، وجدنا الناس مُلتفّين حول أحدٍ، لا ندري ماذا حدث، فوقفنا بعيداً، فإذا بنا نجد صاحبتنا قد ماتت، لا أستطيع وصف الصدمة والذهول الذي بدا علينا، فاقتربنا منها والدمع كالسيل؛ فقالت إحدانا: "ربحَ البَيع يا حبيبةُ ربح البيع، لقد أبدلكِ الله جواراً خيراً من جوارنا وبيتاً خيراً من بيوتنا ومنزلاً خيراً من منازلنا، لله درّ الصادقين لقد أحدثوا في قلوبنا العجب العُجاب".

دُفنت حبيبة في خير بقاع الأرض، وصلينا عليها عقب صلاة العشاء.

لمّا عُدتُ من رحلة الحج كان كل ما يشغل بالي هو فتح الورقة التي كتبتها لنا حبيبة، ففتحتُها فور وصولي لبلدتي فوجدتُ فيها «بسمِ اللهِ الرحمٰن الرحيم، من المؤمنينَ رجالٌ صدقوا ما عاهدُوا اللهَ عليهِ، الحمدُ للهِ الذي لم يخذُل صادقاً، بالصدق بلغ أصحابُ النبي فهلّا صدقنا؟». بكيتُ لساعاتٍ طوال، لقد كان موقف موتها مَهيباً، لقد صلَى عليها أكثر من مليون مُسلمٍ، هذا التشريف من أهل الأرض، فكيف بأهل السماء؟ رُحماك يا رب لقد أسرفنا، فهلا قبلتنا وأدخلتنا في الصالحين، إنا لله وإنا إليه راجعون.

 

أحبتي في الله.. إنه (الصدق مع الله)؛ يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِين﴾. ويقول سبحانه: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً﴾. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: [إنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إلى البِرِّ، وإنَّ البِرَّ يَهْدِي إلى الجَنَّةِ، وإنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حتَّى يَكونَ صِدِّيقًا]. وقال عليه الصلاة والسلام: [إن تصدُقِ اللهَ يصدُقْكَ]. وقال صلى الله عليه وسلم: [من سألَ اللَّهَ الشَّهادةَ صادقًا بلَّغَه اللَّهُ منازلَ الشُّهداءِ وإن ماتَ علَى فراشِه].

 

يقول أهل العلم إن (الصدق مع الله) أساسه صدق النوايا؛ والإنسان بالنية الصادقة -مع العزم الأكيد والأخذ بالأسباب- يأخذ الأجر وإن لم يقع منه الفعل، وهذا مِنْ كرم الله؛ قال صلى الله عليه وسلم: [مَنْ أَتَى فِرَاشَهُ وَهُوَ يَنْوِي أَنْ يَقُومَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ حَتَّى أَصْبَحَ كُتِبَ لَهُ مَا نَوَى وَكَانَ نَوْمُهُ صَدَقَةً عَلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ].

فالنوايا الصادقة هي الأساس للأعمال المُخلصة الخالصة لوجه الله تعالى التي تحظى بالقبول، وإلا كانت مثل أعمال الثلاثة: قارئ القرآن الذي كان يقوم به آناء الليل وآناء النهار ليُقال أنه قارئ، وصاحب المال الذي كان يصل به رحمه ويتصدق ليُقال عنه جواد، والذي قُتل وهو يُجاهد في سبيل الله ليُقال عنه جريء. هؤلاء الثلاثة لم تنفعهم أعمالهم التي تبدو طيبةً وحسنةً لكن نياتهم لم تكن خالصةً لوجه الله سبحانه وتعالى؛ فقال عنهم صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ: [أولئِك الثَّلاثةُ أوَّلُ خلقِ اللهِ تُسعَّرُ بِهمُ النَّارُ يومَ القيامةِ].

 

و(الصدق مع الله) تعالى كما ينفع الناس في الآخرة، فإنه يفيدهم كذلك في الدُنيا؛ ففي حديث الثلاثة الذين أُغلق عليهم الغار أنه قال بعضهم لبعضٍ: "إنَّه واللَّهِ يا هَؤُلَاءِ، لا يُنْجِيكُمْ إلَّا الصِّدْقُ، فَليَدْعُ كُلُّ رَجُلٍ مِنكُم بما يَعْلَمُ أنَّه قدْ صَدَقَ فِيهِ" فتوسل أحدهم بعفته، وآخر بأمانته، وآخر ببره بوالديه؛ [فَفَرَّجَ الله عنهم فَخَرَجُوا].

 

وقيل: "ليس شيءٌ أنفع للعبد من صدق ربه في جميع أموره، مع صدق العزيمة، فيصدقه في عزمه وفي فعله قال تعالى: ﴿فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم﴾. ومن صدق الله في جميع أموره صنع الله له فوق ما يصنع لغيره".

 

أحبتي.. أختم بنصيحةٍ لأحد الصالحين كتب يقول: "ينبغي أن نُحرر النوايا وأن نصدُق مع الله في الطلب، والله عزَّ وجلَّ حاشاه أن يَصْدُقَ إنسانٌ في طلبه ثم لا يُعطيه، إذا طلب الطاعة بصدقٍ أعانه الله عليها، وإذا طلب الرزق الحلال بصدقٍ يسِّره الله له. وأعظَمُ الصِّدق مع الله أن نَصْدُقَ في طلب الجنة فنبذل لها أسبابها ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً؛ عبادةً وطاعةً وإنفاقاً ومحبَّةً وخيراً، فإذا صدقنا الله في طلب الجنة ننالُها إن شاء الله برحمته وفضله وجُوده وإحسانه".

نسألك اللهم أن ترزقنا الصدق معك، وأن تُنزلنا منازل الصديقين.

https://bit.ly/44KjjlO