الجمعة، 23 أغسطس 2024

عسَّله الله

 

خاطرة الجمعة /461

الجمعة 23 أغسطس 2024م

(عسَّله الله)

 

أمام منزله الأنيق في «أُستراليا» يصطف أسطولٌ من السيارات المُبهرة، على رأسها واحدةٌ تُعد أقوى وأسرع سيارةٍ في العالم “سبايدر فيراري” حيث تبلغ قيمتها وحدها 600,000 دولار.

يلبس في يده سوارٌ من الماس قيمته 70.000 دولار. أما غرفته الخاصة فهي مليئةٌ بالملابس والحقائب والأحذية الرياضية والساعات والنظارات والقُبعات والأغراض الأخرى التي أُعدت خصيصاً له من قِبَل أشهَر بيوت الأزياء العالمية المقدر كلٌ منها بآلاف الدولارات. حياة المليونير المُسلم «عليّ بنات» المليئة بالثروة والرفاهية، قُلبت رأساً على عقبٍ حين تم تشخيص ما يُعاني منه بمرض السرطان من الدرجة الرابعة، وقرّر الأطباء بأنه لن يعيش أكثر سبعة أشهر، وهو الشاب البالغ من العمر ثلاثةٌ وثلاثون عاماً.

يقول «عليّ»: “الحمد لله.. رزقني الله بمرض السرطان الذي كان بمثابة الهدية، التي منحتني الفرصة لأتغير إلى الأفضل" مُضيفاً: "عندما علمتُ بالأمر شعرتُ برغبةٍ شديدةٍ في أن أتخلص من كل شيءٍ أمتلكه، وأن أقترب من الله أكثر، وأُصبح أكثر التزاماً تجاه ديني، وأن أرحل من هذه الدنيا خاوياً على أن أترك أثراً طيباً وأعمالاً صالحةً تصبح هي ثروتي الحقيقة في الآخرة”. قرر المليونير الشاب «عليّ بنات» أن يتبرع بكامل ثروته من أجل فُقراء المُسلمين في أعماق «إفريقيا».. تحول «عليّ» من أكبر تُجار الدنيا، إلى التجارة مع الله، تبرع بكل ماله، حتى ملابسه تبرع بها. وأنشأ مؤسسةً خيريةً مُوجهةً لخدمة فُقراء المُسلمين سماها "المُسلمون حول العالم“. قامت المؤسسة ببناء المنازل والمساجد والمدارس وآبار المياه والمراكز الطبية والبيوت التي تأوي الأرامل والأيتام، كما قام ببناء أول مقبرةٍ للمُسلمين في «توجو» بالإضافة إلى الإمدادات الطبية والغذائية.

سُئل «عليّ»: "بعدما علمتَ حقيقة الدُنيا، سيارتك الفارهة كم تُساوي؟"،

فقال: "لا تُساوي في قلبي قيمة نعل حمَّام، وإن ابتسامة طفلٍ فقيرٍ أفضل عندي من هذه السيارة". ثم يقول: "إن اللحظات التي قضاها في «إفريقيا» مع فقراء المُسلمين هي الأسعد في حياته على الإطلاق، سعادةٌ لا يُمكن شراؤها بالمال، ولا يُمكن أن تُعوضها وسائل الرفاهية باهظة الثمن".

كان «عليّ» في سباقٍ مع الزمن، يُريد أن يُنجز كل ما يستطيع خلال فترة الشهور السبعة المُتبقية من عُمره، لكن الله سُبحانه وتعالى أمدَّ في عُمره حتى مات بعد ثلاث سنواتٍ من تشخيص مرضه، فكان يوماً حزيناً على المُسلمين في كلٍ من «أُستراليا» و«إفريقيا».. رحل ونحن لا نعلم هل كان السرطان حقاً هديةً له من الله، أم أن «عليّاً» كان هو الهدية التي منحها الله لفقراء المُسلمين؟ رحل في جنازةٍ مهيبةٍ تُحيطه مئات الآلاف من الدعوات المُباركة التي سبقته إلى السماء.. رحل «عليّ» وقبل رحيله عرَّفنا حقيقة الدنيا ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾.

 

أحبتي في الله.. رحم الله «عليّ بنات»، كان رجل أعمالٍ أُستراليٍ من أُصولٍ فلسطينيةٍ، امتلك شركاتٍ في عدة مجالاتٍ، وبعد أن تم تشخيصه بالسرطان، كرَّس ما تبقى من حياته للعمل في المجال الخيري. باع شركاته وقدَّم المُساعدات الإنسانية للمُسلمين في كلٍ من «توجو» و«غانا» و«بوركينا فاسو». رحمه الله، ورحم الله كل من كان على شاكلته، لقد (عسَّله الله) وأنعم عليه بحُسن الخاتمة؛ يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾، ويقول سُبحانه: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾؛ فقد مات كل من (عسَّله الله) وهو مسلمٌ، عبد ربه حتى أتاه اليقين وهو الموت؛ يقول رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: «إِذَا أَرَادَ اللَّهُ عز وجل بِعَبْدٍ خَيْرًا عَسَلَهُ» قِيلَ: وَمَا عَسَلُهُ؟ قَالَ: «يَفْتَحُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ لَهُ عَمَلًا صَالِحًا قَبْلَ مَوْتِهِ، ثُمَّ يَقْبِضُهُ عَلَيْهِ».

 

وممن (عسَّله الله) من الناس رجلٌ أمريكيٌ كان خبيراً مُتخصصاً، حصل على عددٍ من الشهادات والأوسمة في «أمريكا»، يقول عن نفسه: "قبل أن آتي إلى «الرياض» مسؤولاً كبيراً في الشركة الأمريكية لم أكن أشغل بالي بالدين ونصوصه وتعاليمه، حياتي كلُّها مادةٌ وعملٌ وظيفيٌ ناجحٌ، وإجازاتٌ أُروِّح عن نفسي فيها بما أشاء من وسائل الترويح المُباحة وغير المُباحة". وبعد شهورٍ من العمل لفت انتباهه لأول مرَّةٍ منظر جمعٍ غفيرٍ من المُسلمين السعوديين وغير السعوديين يتجهون إلى المسجد، قال: "سمعتُ الأذان لأوَّل مرةٍ، وشعرتُ حينما سمعتُه بشعورٍ لم أعهده من قبل، هبَّت من خلاله نسائم لا أستطيع أن أصفها، وانقدح في ذهني سؤال: لماذا يصنع هؤلاء الناس ما أرى؟ وكأنهم يتسابقون إلى مكانٍ يدفع لهم نقوداً وهدايا ثمينةً تستحق هذا الاهتمام! صوت الأذان، الإقامة، الإمام يقول "السلام عليكم" فإذا بحشود المُصلِّين يخرجون، ويُصافح بعضهم بعضاً، يا له من نظامٍ رائع!".

أمريكيٌ أبيض، يُشرق قلبه بنور الإيمان، فيسلم ويعرف حلاوة الإسلام، وبعد مرور شهرين على إسلامه ينطلق لأداء العُمرة وزيارة البيت الحرام برفقة صديقين سُعوديين من زملاء العمل، أتمَّ الرجل عُمرته قبل صلاة العشاء، وكان حريصاً على الصلاة في الصف الأوَّل أمام الكعبة المشرفة، وبدأت صلاة العشاء، وكان الرجل في حالةٍ من الخُشوع العجيب، يقول أحد مُرافقيه: "حينما قُمنا من التشهُّد الأوَّل لم يقم، وظننته قد استغرق في حالته الروحية فنسي القيام، ومددتُ يدي إلى رأسه مُنبهاً له، فلم يستجب، وعندما سلَّم الإمام وأنهى الصلاة تبيَّن لنا أن صاحبنا قد فارق الحياة. لقد صعدت روحه التي تعلقت بالله في أطهر رحاب الله". يقول المُرافق: "لقد شعرتُ بفضل الله العظيم على ذلك الرجل -رحمه الله- وشعرتُ بالمعنى العميق لحُسن الخاتمة، وودَّعته مُشيعاً حيث تم دفنه في «مكة المُكرمة» بعد استئذان أهله في «أمريكا». لقد (عسّله الله) ففتح له عملاً صالحاً قبل موته ثم قبضه عليه، وطيَّب ثناءه، أي جعل له من العمل الصالح ثناءً طيباً كالعسل، كما يُعسَّل الطعام إذا جُعل فيه العسل.

(عسَّله الله) فوفقه قبل موته للبُعد عما يُغضب المولى عزَّ وجلَّ، والتوبة من الذنوب والمعاصي، والإقبال على الطاعات وأعمال الخير، ثم يكون موته بعد ذلك على هذه الحال الحسنة.

شبَّه الرسول صلى الله عليه وسلم ما رزق الله العبد من العمل الصالح قبل الموت، بالعسل الذي هو الطعام الصالح الذي يحلو به كل شيءٍ.

 

كل من (عسَّله الله) قد فهم حقيقة الحياة واختار لنفسه الخيار الصحيح؛ يقول الشاعر:

نأتي إلى الدنيا ونحن سواسية

طفلُ الملوكِ كطفل الحاشية

ونغادر الدنيا ونحن كما ترى

متشابهون على قبور حافية

أعمالنا تُعلي وتَخفض شأننا

وحسابُنا بالحق يوم الغاشية

حور، وأنهار، قصور عالية

وجهنمٌ تُصلى، ونارٌ حامية

فاختر لنفسك ما تُحب وتبتغي

ما دام يومُك والليالي باقية

وغداً مصيرك لا تراجع بعده

إما جنان الخلد وإما الهاوية

 

أحبتي.. على كلٍ منا أن يكون دائم السعي لحُسن الخاتمة، ولأننا لا نعرف متى تُقبض أرواحنا فإن علينا المبادرة إلى التوبة والإنابة لله سُبحانه وتعالى قبل غلق باب الإجابة، فما دُمنا على قيد الحياة فإن باب التوبة يظل مفتوحاً، وأبواب الخير عظيمةٌ فلنجتهد بما ينفعنا وينفع غيرنا من المسلمين. لا نؤجل ولا نُسوِّف إن أردنا الفلاح وأردنا أن يُعسِّلنا الله، لا نركن إلى التسويف والأمل حتى يأتينا الأجل، وليسأل كلٌ منا نفسه: "كيف أُعسَّل؟"، أنت أدرى بنفسك من غيرك؛ فالحرص كل الحرص على أن تُعسِّل أعمالك حتى يُعسِّلك الله.

اللهم عسِّلنا، وافتح لنا عملاً صالحاً قبل الممات، واقبضنا عليه، وأنت راضٍ عنا يا رب العالمين. اللهم اجعل خير أعمالنا خواتمها وخير أعمارنا أواخرها وخير أيامنا يوم نلقاك. اللهم اغفر لنا ما مضى، وأصلح لنا ما تبقى، وارزقنا رضاك وحسن الخاتمة، والفوز بالجنة والنجاة من النار.

https://bit.ly/3ADf3e8