الجمعة، 31 مارس 2017

فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ

الجمعة 31 مارس 2017م

خاطرة الجمعة/ ٧٧
(فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ)

في محادثةٍ هاتفيةٍ تمت منذ عدة أيام واستمرت قرابة أربعين دقيقة، مع صديقٍ عزيزٍ عليّ له منزلةٌ كبيرةٌ في نفسي، عاتب محدثي من يضيعون أوقاتهم وجهودهم في الكتابة في موضوعات تستهدف تنمية الجانب المعرفي لدى القراء ويبقى دورها محدوداً في تغيير سلوكهم. وتمنى لو تُوجه كل الجهود وتُسخر كل الطاقات من أجل هدفٍ أساسيٍ هو إعادة صياغة شخصية الفرد المسلم حتى لا تستمر حالة الانفصام التي نعايشها ونلمس تداعياتها كل يوم لأشخاص مسلمين يلتزمون بمظاهر الدين دون جوهره، يحرصون على الشكل دون الاهتمام بالمضمون. حدثني بمرارة عن انتشار الفساد والرشوة والسرقة والإدمان والعقوق والنفاق وغلبة القيم المادية وانتشار الرذيلة وغير ذلك من سلوكيات سلبية. وأنهى حديثه بأنه يرى أن على المثقفين والمفكرين وأصحاب الرأي خاصةً العلماء ورجال الدين أن يعيدوا ضبط بوصلتهم لانتشال الناس من هذا المستنقع بالتركيز على كل ما من شأنه أن يغير في السلوك بحيث يبتعد كل فرد في المجتمع عن السلبية والأنانية والعيش كجزيرة منعزلة ويتحول ليصبح مواطناً صالحاً إيجابياً نحو نفسه ونحو غيره ونحو مجتمعه يتوافق سلوكه مع قيم ديننا الإسلامي الحنيف.

أحبتي في الله .. أغرتني هذه المحادثة الهاتفية على البحث عن معنى الإيجابية ومفهومها باعتبارها قيمةً تسهم في تغيير سلوك الأفراد نحو الأحسن فيكون في ذلك نفعٌ لهم ولمجتمعهم.
فما هي الإيجابية؟ يُعرِّف علماؤنا المتخصصون في علم الاجتماع وعلم النفس الإيجابية بأنها حالةٌ في النفس تجعل صاحبها مهموماً بأمر ما، ويرى أنه مسئول عنه تجاه الآخرين، ولا يألو جهداً في العمل له والسعي من أجله. والإيجابية تحمل معاني التجاوب، والتفاعل، والعطاء. فالشخص الإيجابي هو الشخص المتحرك المتفاعل مع الوسط الذي يعيش فيه. كما يعرفها بعضهم بأنها اتخاذ الوضع الأفضل في الظرف الأسوأ؛ فتكون بذلك سلوكاً فاعلاً نحو الإصلاح. وعكس الإيجابية تكون السلبية: وهي تحمل معاني التقوقع، والانزواء، والبلادة، والانغلاق، والكسل؛ فالشخص السلبي بليد، يدور حول نفسه، لا تتجاوز اهتماماته أرنبة أنفه، ولا يمد يده ليساعد الآخرين، ولا يخطو إلى الأمام. وهذا عبءٌ على المجتمع؛ لأن النظرة التشاؤمية هي الغالبة عليه في كافة تصرفاته، تجده ضعيف الفاعلية في كافة مجالات الحياة، لا يرى للنجاح معنىً، ولا يؤمن بأن مسيرة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة، فلا تجد عنده همة الخطوة الأولى، ولهذا لا يتقدم ولا يحرك ساكناً، وإن فعل في مرةٍ يتوقف مئات المرات، يتعلل دوماً بالحجج الواهية والأعذار الواهية، وهو دائم الشكوى والاعتراض والعتاب والنقد الهدام. إن السلبية هي أخطر آفةٍ يصاب بها الفرد أو المجتمع، بينما الإيجابية هي أهم وسيلة لنهضة الأمم؛ فالنهضة يصنعها أفرادٌ إيجابيون مميزون يتمتعون بالأفكار الطموحة والإرادة الكبيرة. والشخص الإيجابي يرى أن كل مشكلةٍ لها حل والسلبي يرى مشكلةً في كل حل، الإيجابي لا تنضب أفكاره والسلبي لا تنضب أعذاره، الإيجابي يرى في العمل أملاً والسلبي يرى في العمل ألماً، الإيجابي يصنع الأحداث والسلبي تصنعه الأحداث، الإيجابي يتطلع للمستقبل والسلبي يخاف المستقبل، الإيجابي يمثل قيمةً مضافةً إلى هذه الدنيا أما السلبي فهو يخصم منها.

هذا ما قاله علماؤنا المتخصصون، أما شيوخنا الأجلاء فيقولون أن الإيجابية أصلٌ عظيمٌ من أصول الإسلام، وهى ميزةٌ عظيمةٌ ميز الله تعالى بها المسلم، فالإسلام يدعو إلى إيجابية الفرد نحو نفسه ونحو المجتمع؛ فسورة العصر قال عنها الإمام الشافعي: "لو ما أنزل الله حجةً على خلقه إلا هذه السورة لكفتهم"، وذلك لأنها تجمع الدين كاملاً قال تعالى: ﴿وَالْعَصْرِ*إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ*إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ فهي توصي بإيجابية الفرد نحو نفسه ونحو من حوله.
والقرآن الكريم به الكثير من الآيات التي توجِّه إلى التحلي بالسلوك الإيجابي وعدم الوقوف من الأحداث موقف المتفرج؛ لقوله تعالى: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾، ويقول تعالى: ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾. والإيجابية ليست قاصرة على الرجال فقط؛ قال تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾.
ويتحدث القرآن الكريم عن فضيلة الإيجابية في مواضع كثيرةٍ بألفاظ مثل المسارعة والمسابقة والمنافسة والفرار، كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ﴾، وقوله تبارك وتعالى: ﴿وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِين﴾، وقوله: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدِّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾، وقوله: ﴿سَابِقُوا إلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾، وقوله: ﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾، وقوله: ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾، والفرار إلى الله هو أعلى مراتب الإيجابية.
 والمسلم لا يقف من الأحداث موقف المتفرج؛ وإنما يتربى على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعن الفساد والتسيب والانحراف والظلم، يقول تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ﴾. ومن مظاهر الإيجابية دعوة الإسلام إلى التعاون بين الناس على البر والتقوى؛ لقوله تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ﴾.
ومن دلائل الإيجابية دعوة الإسلام الحنيف للإصلاح بين الناس، وفض المنازعات بينهم؛ يقول تعالى: ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ۚ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَٰلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾، ويقول عز وجل: ﴿فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بَيْنِكُمْ﴾، ويقول سبحانه: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾. ويدعونا إسلامنا الحنيف للنشاط والحيوية وحب العمل يقول تعالى: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾. ويوضح لنا المولى عز وجل أن النجاة من هلاك الأمم والشعوب يكون بالإصلاح؛ قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ﴾، لم يقل "صالحون" إنما قال "مصلحون"؛ فالصالح صلاحه بينه وبين ربه وصلاحه لنفسه فقط، أما المصلح فإنه يقوم بإصلاح نفسه ودعوة غيره للإصلاح وكأن شعاره في الدنيا هو (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ). ويعرض لنا القرآن الكريم قصص الإيجابيين مثل مؤمن آل فرعون، في سورة غافر، الذي وقف ينصر جماعة موسى عليه السلام أمام طغيان نظام فرعون المستبد، ومثل الرجل الصالح، في سورة يس، الذي جاء من أقصى المدينة يسعى لنصرة أنبياء الله المستضعفين، ومثل تلك الجماعة التي أنكرت على أصحاب السبت فسادهم، في سورة الأعراف، وكان شعار هذه الجماعة المؤمنة هو الإعذار إلى الله، حيث لما قال السلبيون: ﴿لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا﴾ قال الإيجابيون: ﴿مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾. ومثل قصة هدهد نبي الله سليمان، في سورة النمل، ذلك الهدهد الذي طار إلى مملكة سبأ في جنوب الجزيرة العربية تاركاً سليمان في الشام، بغير تكليفٍ أو تنفيذٍ لأمرٍ صادرٍ له، ليأتي بخبر عظيم إلى القيادة أدى إلى دخول أمةٍ بأكملها في دين الله.
ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام الأسوة الحسنة والقدوة الملهمة؛ فالإسلام نادى به رجلٌ واحدٌ هو أعظم رجلٍ في تاريخ البشرية رسولنا الكريم محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام، وعندما بدأ دعوته اتجه إلى جذب الأشخاص الإيجابيين إليه فبدأ بأبي بكرٍ الصديق رضي الله عنه والذي قام بمفرده بدعوة أغلب العشرة المبشرين بالجنة.
أما الأحاديث النبوية الشريفة التي تحثنا على الإيجابية فكثيرةٌ، منها ما يدعونا للتحلي بالإيجابية إزاء المنكر والتصدي له بالفعل أو بالقول أو بالقلب حسبما تسمح قدرة الإنسان؛ يقول صلى الله عليه وسلم: [من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان]. ويضرب النبي لنا مثلاً يبين أهمية أن يكون المسلم إيجابياً في تصرفاته؛ فقال صلى الله عليه وسلم: [مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قومٍ استهموا على سفينة، بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، وكان الذين في أسفلها إذا استقوا الماء مروا على من فوقهم، فقالوا لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا، وهلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً]. ويقول رسولنا الكريم حاثاً لنا على العمل الإيجابي: [لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة حطبٍ على ظهره فيبيعها فيكف الله بها وجهه خيرٌ له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه]. وقد دعا الإسلام إلى تحمل المسئولية، فلا يقف المسلم من الأحداث موقفاً سلبياً؛ فالمسلم مسئول عن نفسه وعن زوجته وأبنائه وعن مجتمعه؛ يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: [كلكم راعٍ وكل راعٍ مسئولٌ عن رعيته، والأمير راعٍ والرجل راعٍ على أهل بيته، والمرأة راعيةٌ على بيت زوجها وولده، فكلكم راعٍ وكلكم مسئولٌ عن رعيته]. ومن بين ما يدعو إلى الإيجابية في علاقة المسلم بالمسلم قول رسولنا الكريم: [المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً]، وقوله: [المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربةً فرج الله عنه بها كربةً من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة]. والمسلم لا يقف موقفاً سلبياً عندما يقع ظلمٌ على أخيه المسلم؛ لقول رسولنا الكريم: [انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً] فقال رجل: يا رسول الله أنصره إذا كان مظلوماً، أرأيت إن كان ظالماً كيف أنصره؟ قال: [تحجزه أو تمنعه عن الظلم، فإن ذلك نصره]. ويُروى عن الرسول صلى الله عليه وسلم قوله لعلي رضي الله عنه: [فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من حُمر النعم]. كما أن الإسلام يدعو المسلمين أن يكونوا أقوياء؛ لقول الرسول الكريم: [المؤمن القوي خيرٌ وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍ خير]، وهذا ولا شك يدعو الإنسان للإيجابية والعمل. وتصل دعوة رسولنا الكريم لنا لنكون إيجابيين أقصاها حين يقول صلى الله عليه وسلم: [إذا قامت الساعة وفى يد أحدكم فسيلةٌ فليغرسها] وهي دعوةٌ للعمل ولأن يكون الإنسان المسلم إيجابياً حتى ولو كان ذلك وقت قيام الساعة ونهاية الحياة على الأرض!

أحبتي .. فليبدأ كلٌ منا بنفسه ويرفع شعار (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ)، فيصلح من نفسه ويعيد ضبط سلوكه ليتسق مع قيم ديننا الإسلامي الحنيف. 
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.
تقبل الله منا ومنكم.

http://goo.gl/mSaKtL