الجمعة، 12 نوفمبر 2021

القول الحسن

 

خاطرة الجمعة /317


الجمعة 12 نوفمبر 2021م

(القول الحسن)

 

في إحدى المستشفيات كان هناك مريضان كبيران في السن، يقيمان في غرفةٍ واحدةٍ، كلاهما معه مرضٌ عضال؛ أحدهما كان مسموحاً له بالجلوس في سريره لمدة ساعةٍ يومياً بعد العصر، ولحُسن حظه فقد كان سريره بجانب النافذة الوحيدة في الغرفة، أما الآخر فكان عليه أن يبقى مُستلقياً على ظهره طوال الوقت. كان المريضان يقضيان وقتهما في الكلام، وهما مُستلقيان على ظهرهما ناظران إلى السقف. تحدثا عن أهلهما، وعن بيتهما، وعن حياتهما، وعن كل شيءٍ. وفي كل يومٍ بعد العصر، كان الأول يجلس في سريره حسب أوامر الطبيب، وينظر في النافذة، ويصف لصاحبه العالم الخارجي، وكان الآخر ينتظر هذه الساعة كما ينتظرها الأول، لأنها تجعل حياته مفعمةً بالحيوية وهو يستمع لوصف صاحبه للحياة في الخارج؛ إذ يقول له إنّه توجد بجوار المستشفى حديقةٌ تتوسطها بحيرةٌ كبيرةٌ يسبح فيها البط، والأولاد صنعوا زوارق من مواد مختلفةٍ وأخذوا يلعبون بها داخل الماء. وأن هناك رجلاً يؤجِّر المراكب الصغيرة للناس يُبحرون بها في البحيرة، والنساء يتأبطن أذرع أزواجهن، ويتمشى الناس حول حافة البحيرة. وأن هناك آخرين يجلسون تحت ظلال الأشجار أو بجانب الزهور ذات الألوان الجذابة. وأن منظر السماء بديعٌ يسر الناظرين. وفيما يقوم الأول بعملية الوصف هذه يُنصت الآخر في ذهولٍ لهذا الوصف الدقيق الرائع، ثم يُغمض عينيه ويبدأ في تصور ذلك المنظر البديع للحياة خارج المستشفى. وفي أحد الأيام وصف الأول للثاني عرضاً عسكرياً، ورغم أنه لم يسمع عزف الفرقة الموسيقية إلا أنه كان يراها بعيني عقله من خلال وصف صاحبه لها.

مرت الأيام والأسابيع وكلٌ منهما سعيدٌ بصاحبه، وفي أحد الأيام جاءت الممرضة صباحاً لخدمتهما كعادتها، فوجدت المريض الذي بجانب النافذة قد قضى نحبه خلال الليل، ولم يعلم الآخر بوفاته إلا من خلال حديث الممرضة عبر الهاتف وهي تطلب المساعدة لإخراجه من الغرفة؛ فحزن على صاحبه أشد الحزن. وعندما وجد الفرصة مناسبةً طلب من الممرضة أن تنقل سريره إلى جانب النافذة. ولما لم يكن هناك مانعٌ من ذلك فقد أجابت طلبه. ولما حانت ساعة بعد العصر وتذكر الحديث الشيق الذي كان يتحفه به صاحبه انتحب لفقده، لكنه قرر أن يحاول الجلوس ليعوض ما فاته في هذه الساعة؛ فتحامل على نفسه وهو يتألم، ورفع رأسه رويداً رويداً مُستعيناً بذراعيه، ثم اتكأ على أحد مرفقيه وأدار وجهه ببطءٍ شديدٍ تجاه النافذة لينظر إلى العالم الخارجي ويشاهد الحديقة وما بها من زهورٍ ملونةٍ وجميلةٍ والبحيرة وما بها من بطٍ وزوارق، وهنا كانت المفاجأة! لم يرَ أمامه إلا جداراً أصماً من جدران المستشفى؛ فقد كانت النافذة تُطل على ساحةٍ داخلية.

نادى الممرضة وسألها إن كانت هذه هي النافذة التي كان صاحبه ينظر من خلالها، فأجابت إنها هي؛ فالغرفة ليس فيها سوى نافذةٍ واحدة، ثم سألته عن سبب تعجبه، فقص عليها ما كان يرى صاحبه عبر النافذة وما كان يصفه له. كان تعجب الممرضة أكبر، إذ قالت له: "ولكن المتوفى كان أعمى، ولم يكن يرى حتى هذا الجدار الأصم، ولعله أراد أن يجعل حياتك سعيدةً حتى لا تُصاب باليأس فتتمنى الموت".

 

أحبتي في الله .. لقد صدق من أجاب على السؤال: "مَنْ أسعدُ الناسِ؟"، بقوله: "مَنْ أسعدَ الناسَ". بطل القصة السابقة كان أعمى البصر، لكن لم يكن أعمى البصيرة، كان همه إسعاد الآخر، حتى ولو لم يكن قريبه أو صديقه، جمعت الصدفة بينهما في تلك الغرفة من غرف المستشفى، ووجد فرصةً لإسعاد إنسانٍ يائسٍ؛ فحرص على ألا يفوته ثوابها، فظل يزرع في قلب جاره المريض الأمل ويُشعره بالبهجة والسعادة عن طريق (القول الحسن)، ثم مات، ليجد ثواب عمله لإسعاد غيره يُثَقِّل ميزان حسناته بإذن الله.

وهذا شخصٌ كان شعاره هو الآخر (القول الحسن) سبباً في إنقاذه من موتٍ محققٍ؛ فقد كان يعمل في أحد مصانع تجميد وحفظ الأسماك، وذات يومٍ وقبل نهاية الدوام دخل إلى ثلاجة حفظ الأسماك لينجز آخر عمل له في ذلك اليوم، وبينما كان ينجز عمله، حدث أن أُغلق باب الثلاجة وهو داخلها، حاول الرجل فتح الباب، ولم يستطع، أخذ يصرخ وينادي بأعلى صوته طالباً المساعدة من العمال الآخرين، ولكن كان الدوام قد انتهى ولم يبقَ أحد في المصنع. وبعد مرور قرابة خمس ساعات، وكان الرجل قد أوشك على الموت من شدة البرد، إذ بحارس المصنع يفتح باب الثلاجة وينقذه. وعندما قام مدير المصنع بسؤال حارس المصنع، كيف عرف أن ذلك العامل كان موجوداً داخل المصنع ولم يخرج مع باقي العمال؟ قال الحارس: "أنا أعمل ببوابة هذا المصنع منذ ثلاثين عاماً، يدخل ويخرج من المصنع مئات الموظفين والعمال يومياً، لم يكن أحدٌ منهم يلقي عليّ التحية يومياً ويسألني عن حالي إلا ذلك العامل، وعند نهاية هذا اليوم لم أسمعها منه وافتقدته عند خروج العمال، فعلمت أنه لا زال في المصنع فبحثت عنه حتى وجدته.

إنه (القول الحسن)، وهو الكلمة الطيبة؛ يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾، ويقول تعالى:

﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾، ويقول تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ‌ كَيْفَ ضَرَ‌بَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَ‌ةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْ‌عُهَا فِي السَّمَاءِ. تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَ‌بِّهَا ۗ وَيَضْرِ‌بُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُ‌ونَ. وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَ‌ةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الْأَرْ‌ضِ مَا لَهَا مِن قَرَ‌ارٍ‌﴾، وعن هذه الآية يقول أهل العلم إن الله سبحانه وتعالى بيّن لنا أهمية الكلمة الطيبة وعظيم أثرها واستمرار خيرها، وبيّن خطورة الكلمة الخبيثة وجسيم ضررها وضرورة اجتثاثها، وشَبّه سبحانه الكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة لأن الكلمة الطيبة تُثمر العمل الصالح، والشجرة تثمر الثمر النافع.

 

وعن الكلمة الطيبة و(القول الحسن) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لَيسَ الْمُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ، وَلا اللَّعَّانِ، وَلا الفاحِشِ، وَلا البَذِيء]، وقال عليه الصلاة والسلام: [مَا مِنْ شَيءٍ في المِيزَانِ أثْقَلُ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ. وَإنّ اللهَ يُبْغِضُ الفَاحِشَ البَذِيء]. كما قال: [الكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ]، وقال أيضاً: [اتَّقوا النَّار ولو بشِقِّ تمرةٍ فإنْ لم تجِدوا فبكلمةٍ طيِّبةٍ]، وقال كذلك: [مَن كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ والْيَومِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا، أوْ لِيصْمُتْ]، وقال صلوات الله وسلامه عليه: [إِنَّ مِنْ مُوجِبَاتِ الْمَغْفِرَةِ بَذْلَ السَّلَامِ ، وَحُسْنَ الْكَلَامِ]، وقال عليه الصلاة والسلام: [إنَّ في الجنَّةِ غرفًا يُرى ظاهرُها مِن باطنِها وباطنُها مِن ظاهرِها أعدَّها اللهُ لمَنْ أطعمَ الطَّعامَ وأفشى السَّلامَ وصلَّى بالليلِ والنَّاسُ نيامٌ]، كما قال: [إنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بالكَلِمَةِ مِن رِضْوانِ اللَّهِ، لا يُلْقِي لها بالًا، يَرْفَعُهُ اللَّهُ بها دَرَجاتٍ، وإنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بالكَلِمَةِ مِن سَخَطِ اللَّهِ، لا يُلْقِي لها بالًا، يَهْوِي بها في جَهَنَّمَ]، وقال لمن سأل: يا نبيَّ اللهِ، إِنَّا لمؤاخَذونَ بما نتَكلَّمُ بِه؟ قال: [وَهل يَكبُّ النَّاسَ في النَّارِ علَى وجوهِهِم، أو علَى مناخرِهم، إلَّا حصائدُ ألسنتِهم؟].

 

لا شك في أن (القول الحسن) مفتاحٌ للقلوب، وسببٌ في كل خير؛ فربّ كلمةٍ طيبةٍ ﻻ نُلقي لها بالاً توقظ أملاً في نفس شخصٍ يائسٍ، أو تكون سبباً في إنقاذ حياة شخصٍ وهو ﻻ يعلم!

 

يُقال: "الكلمة الطيبة هي حياة القلب، وهي روح العمل الصالح". ويُقال: "لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو كان مجرد كلمةٍ طيبةٍ". ويُقال: "إذا جعلتَ الناس سعداء فستتضاعف سعادتك، ولكن إذا وزعتَ الأسى عليهم فسيزداد حزنك". ويُقال: "إن الناس في الغالب ينسون ما تقول، وفي الغالب ينسون ما تفعل، ولكنهم لن ينسوا أبداً الشعور الذي أصابهم من قِبلك؛ فهل ستجعلهم يشعرون بالسعادة؟".

 

أحبتي .. عن (القول الحسن) أختم بكلماتٍ أعجبتني يقول كاتبها: "البِرَ شيءٌ هيِّنٌ؛ وجهٌ طليقٌ وكلامٌ ليِّنٌ، فلنرطِّب ألسنتنا بالكلمة الطيبة التي تُزيل الجفاء، وتُذهب البغضاء والشحناء، وتُدخل إلى النفوس السرور والمحبة والمودّة والوئام والهناء. لتكن كلماتنا مفتاحاً للخير مغلاقاً للشر، نبني حياتنا بوحيٍ من هداها، نتنسّم عبير شذاها مستجيبين لنداء رب العالمين ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾".

اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، واجعل أعمالنا خالصةً لوجهك الكريم، موافقةً لسُنة نبيك الرؤوف الرحيم، واقبلها ربنا قبولاً حسناً، يا عزيز يا حليم.

 

https://bit.ly/2YKLK6Q