الجمعة، 4 ديسمبر 2020

النفس المطمئنة

 

خاطرة الجمعة /268


الجمعة 4 ديسمبر 2020م

(النفس المطمئنة)

 

حدثت هذه القصة لطفلةٍ صغيرةٍ تقيةٍ نقيةٍ صالحةٍ، رغم صغر سنها، روى لنا أبوها قصتها، وهو لبنانيٌ عمل في السعودية فترةً من الزمن، قال: عشتُ في الدمام عشر سنين، ورُزقت فيها بابنةٍ واحدةٍ أسميتها ياسمين، وكان قد وُلد لي قبلها ابنٌ واحدٌ أسميته أحمد، وكان يكبرها بثمان سنواتٍ، وكنتُ أعمل في مهنةٍ هندسيةٍ؛ فأنا مهندسٌ وحائز على درجة الدكتوراة. كانت ياسمين آيةً من الجمال لها وجهٌ نورانيٌ زاهر. ومع بلوغها تسع سنواتٍ رأيتها من تلقاء نفسها تلبس الحجاب وتُصلي وتُواظب على قراءة القرآن بصورةٍ ملفتةٍ للنظر؛ فكانت ما إن تنتهي من أداء واجباتها المدرسية حتى تقوم على الفور وتفترش سجادة صلاتها الصغيرة وتأخذ مصحفها وترتل القرآن ترتيلاً طفولياً ساحراً، كنتُ أقول لها: "قومي العبي مع صديقاتك"، فكانت تقول: "صديقي هو قرآني، وصديقي هو ربي، ونعم الصديق" ثم تُواصل قراءة القرآن.

وذات يومٍ اشتكت من ألمٍ في بطنها عند النوم؛ فأخذتها إلى المستوصف القريب وأعطاها الطبيب بعض المسكنات فهدأت آلامها يومين ثم عاودتها، وهكذا تكررت الحالة، ولم أعطِ الأمر حينها أي جدية. وشاء الله أن تفتح الشركة التي أعمل بها فرعاً في الولايات المتحدة الأمريكية، وعرضوا عليّ منصب المدير العام هناك فوافقت، ولم ينقضِ شهرٌ واحدٌ حتى كنا في أمريكا أنا وزوجتي وأحمد وياسمين. بعد مُضيّ قُرابة الشهرين على وصولنا عاودت الآلام ياسمين فأخذتها إلى طبيبٍ باطنيٍ متخصصٍ؛ فقام بفحصها وقال: "ستظهر النتائج بعد أسبوعٍ ولا داعي للقلق". أدخل كلام الطبيب الاطمئنان إلى قلبي، وسرعان ما حجزتُ لنا مقاعد على أقرب رحلةٍ إلى مدينة الألعاب ديزني لاند بأورلاندو وقضينا وقتاً ممتعاً مع ياسمين بين الألعاب والتنزه هنا وهناك. وبينما نحن في قمة المرح رنّ هاتفي النقال؛ فوقع قلبي، لا أحد في أمريكا يعرف رقمي، عجباً، أكيد الرقم خطأ، ترددتُ قليلاً، ثم ضغطتُ على زر الإجابة.

- آلو .. من المتحدث؟

- أهلا يا حضرة المهندس، معذرةً على الإزعاج، أنا الدكتور ستيفن، طبيب ياسمين، هل يمكنني لقاؤك في عيادتي غداً؟

- وهل هناك ما يُقلق في النتائج؟

- في الواقع نعم؛ لذا أود رؤية ياسمين، وطرح عددٍ من الأسئلة قبل التشخيص النهائي.

- حسناً سنكون عصر غدٍ عند الخامسة في عيادتك، إلى اللقاء.

اختلطت المخاوف والأفكار في رأسي، ولم أدرِ كيف أتصرف، فقد بقي في برنامج الرحلة يومان، وياسمين في قمة السعادة لأنها المرة الأولى التي تخرج فيها للتنزه منذ وصولنا إلى أمريكا. أخيراً أخبرتهم بأن الشركة تريد حضوري غداً إلى العمل لطارئٍ ما، وهي فرصةٌ جيدةٌ لمتابعة تحاليل ياسمين، فوافقوا جميعاً على العودة بشرط أن نرجع إلى أورلاندو في العطلة الصيفية. في العيادة استهل الطبيب ستيفن حديثه لياسمين بقوله:

- مرحباً ياسمين، كيف حالك؟

- بخير ولله الحمد، ولكني أحس بآلامٍ وضعفٍ، لا أدري ما السبب؟

بدأ الطبيب يطرح الأسئلة الكثيرة، وأخيراً طأطأ رأسه وقال لي:

- تفضل في الغرفة الأخرى.

وفي الحجرة أنزل الطبيب على رأسي صاعقةً تمنيتُ عندها لو أن الأرض انشقت وبلعتني، قال الطبيب:

- منذ متى وياسمين تُعاني من المرض؟

قلتُ: منذ سنةٍ تقريباً، وكنا نستعمل المهدئات وتتعافى.

فقال الطبيب: ولكن مرضها لا يتعافى بالمهدئات؛ إنها مصابةٌ بسرطان الدم في مراحله الأخيرة جداً، ولم يبقَ لها من العمر إلا ستة أشهرٍ، وقبل مجيئكم تم عرض التحاليل على أعضاء لجنة مرضى السرطان في المنطقة وقد أقروا جميعاً بذلك من واقع التحاليل. لم أتمالك نفسي وانخرطتُ في البكاء، وقلتُ: مسكينةٌ، واللهِ مسكينةٌ ياسمين هذه الوردة الجميلة، كيف ستموت وترحل عن الدنيا؟ سمعت زوجتي صوت بكائي فدخلت الغرفة، ولما علمت بالأمر أُغمى عليها، وهنا دخلت ياسمين و‏ابني أحمد، وعندما علم أحمد بالخبر احتضن أخته، وقال: "مستحيل أن تموت ياسمين"؛ فقالت ياسمين ببراءتها المعهودة: "أموت؟ ماذا يعني أموت؟"، فتلعثم الجميع من هذا السؤال، فقال الطبيب: "يعني سترحلين إلى الله"، فقالت ياسمين: "حقاً سأرحل إلى الله؟ وهل هو سيئٌ الرحيل إلى الله؟ ألم تعلماني يا والديّ بأن الله أفضل من الوالدين والناس وكل الدنيا؟ وهل رحيلي إلى الله يجعلك تبكي يا أبي ويجعل أمي يُغمى عليها؟"، فوقع كلامها البريء الشفاف مثل صاعقةٍ أخرى؛ فياسمين ترى في الموت رحلةً شيقةً فيها لقاءٌ مع الحبيب.

قال الطبيب:

- علينا الآن أن نبدأ العلاج.

فقالت ياسمين: إذا كان لابد لي من الموت فلماذا العلاج والدواء والمصاريف؟

- نعم يا ياسمين، نحن الأصحاء أيضاً سنموت؛ فهل يعني ذلك أن نمتنع عن الأكل والعلاج والسفر والنوم وبناء مستقبل؟ لو فعلنا ذلك لتهدمت الحياة ولم يبقَ على وجه الأرض كائنٌ حي. تعلمين يا ياسمين بأن في جسد كل إنسانٍ أجهزةً وآلاتٍ كثيرةً هي كلها أماناتٌ من الله أعطانا إياها لنعتني بها، فأنتِ مثلاً إذا أعطتك صديقتك لعبةً هل ستقومين بتكسيرها أم ستعتنين بها؟

ياسمين: بل سأعتني بها وأحافظ عليها.

الطبيب: وكذلك هو الحال لجهازك الهضمي والعصبي والقلب والمعدة والعينين والأذنين، كلها أجهزةٌ ينبغي عليك الاهتمام بها وصيانتها من التلف، والأدوية والمواد الكيميائية التي سنقوم بإعطائك إياها إنما لها هدفان؛ الأول تخفيف آلام المرض، والثاني المحافظة قدر الإمكان على أجهزتك الداخلية من التلف حتى عندما تلتقين بربك وخالقك تقولين له لقد حافظتُ على الأمانات التي جعلتني مسئولةً عنها، ها أنا ذا أعيدها إليك سليمةً، إلا ما تلف من غير قصدٍ مني.

ياسمين: إذا كان الأمر كذلك، فأنا مستعدةٌ لأخذ العلاج حتى لا أقف أمام الله كوقوفي أمام صديقتي إذا كسرتُ لعبها وحاجياتها.

مضت الشهور الستة ثقيلةً وحزينةً بالنسبة لنا كأسرةٍ ستفقد ابنتها المدللة والمحبوبة، وعكس ذلك كان بالنسبة لابنتي ياسمين؛ فكان كل يومٍ يمر يزيدها إشراقاً وجمالاً وقرباً من الله تعالى؛ قامت بحفظ سورٍ من القرآن، وسألناها لماذا تحفظين القرآن؟ قالت: علمتُ بأن الله يحب القرآن؛ فأردتُ أن أقول له يا ربِ حفظتُ بعض سور القرآن لأنك تحب من يحفظه.

وكانت كثيرة الصلاة وقوفاً، وأحياناً كثيرةً كانت تصلي على سريرها، فسألتها عن ذلك فقالت: سمعتُ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [جُعلت قرة عيني في الصلاة] فأحببتُ أن تكون لي الصلاة قرة عين.

وحان يوم رحيلها، وأشرق بالأنوار وجهها، وامتلأت شفتاها بابتسامةٍ واسعةٍ، وأخذت تقرأ سورة «يس» التي حفظتها، وكانت تجد مشقةً في قراءتها، إلى أن ختمت السورة، ثم قرأت سورة الفاتحة وسورة الإخلاص ثم آية الكرسي، ثم قالت: الحمد لله العظيم الذي علمني القرآن وحفظنيه، وقوى جسمي للصلاة، وساعدني وأنار حياتي بوالدين مؤمنين مسلمين صابرين، حمداً كثيراً أبداً، وأشكره لأنه لم يجعلني كافرةً أو عاصيةً أو تاركةً للصلاة، ثم قالت: "تنح يا والدي قليلاً، فإن سقف الحجرة قد انشق، وأرى أُناساً مبتسمين، لابسين البياض، وهم قادمون نحوي ويدعونني لمشاركتهم في التحليق معهم إلى الله تعالى"، وما لبثت أن أغمضت عينيها وهي مبتسمةٌ، ورحلت إلى الله رب العالمين.

اللهم ارحم هذه الطفلة الصالحة وارحمنا برحمتك وأحسن خاتمتنا.

 

 

أحبتي في الله .. لم أجد وصفاً لياسمين؛ الطفلة البريئة النقية التقية، رحمها الله، إلا أنها كانت صاحبة نفسٍ مطمئنة.

يقول أهل العلم:

إن نفس الإنسان واحدةٌ ولكن لها صفاتٍ، فتُسمى باعتبار كل صفةٍ؛ فهي الأمارة بالسوء، وهي اللوامة، وهي المطمئنة:

النفس الأمارة بالسوء مذمومةٌ؛ فهي التي تأمر بكل سوءٍ، وهذا من طبيعتها، إلا ما وفقها الله وثبتها وأعانها، فما تخلص أحدٌ من شر نفسه إلا بتوفيق الله له؛ كما يقول تعالى حاكياً عن امرأة العزيز: ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ َلأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾.

أما النفس اللوامة فهي التي أقسم بها سبحانه في قوله: ﴿وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ﴾. قيل إن اللوم من التلوم، وهو التردد؛ فهي نفسٌ كثيرة التقلب والتلون لا تثبت على حالٍ واحدة. وقيل إنها نفس المؤمن تلوم صاحبها دائماً. وقيل بل هي نفس كل واحدٍ، مؤمناً كان أو غير مؤمنٍ؛ فالمؤمن تلومه نفسه على ارتكاب معصية الله وترك طاعته، وغير المؤمن تلومه على فوات حظها وهواها!

وأما (النفس المطمئنة) فهي النفس المؤمنة، الآمنة، المخلصة، المصدقة بالثواب، الساكنة لما علمت من رضى ربها عنها. طمأنينتها إلى ربها تكون في محبته وعبوديته وكثرة ذِكره والإنابة إليه والتوكل عليه والرضا به والسكون إليه والتسليم بقضائه وحُسن الظن به؛ فترى صاحب (النفس المطمئنة) يستغني بمحبة ربه عن حب مَن سواه، وبذِكره عن ذِكر من سواه، وبالشوق إليه وإلى لقائه عن الشوق إلى من سواه؛ ولا يحصل ذلك إلا بذِكر الله؛ يقول تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾.

والنفس إذا سكنت إلى الله، واطمأنت بذِكره وأنابت إليه، اشتاقت إلى لقائه، وأنِست بقربه، سكنت إلى ربها وطاعته وذِكره، واطمأنت إلى محبته وعبوديته، وإلى أمره ونهيه، وإلى لقائه ووعده، وإلى قضائه وقدره، وإلى كفايته وحسبه وضمانه، وإلى أنه هو وحده ربها وإلهها ومعبودها ومليكها ومالك أمرها كله، وأن مرجعها إليه، وأنها لا غنى لها عنه طرفة عين.

إن (النفس المطمئنة) واحدةٌ من درجات النفس الإنسانية، ترتقي من النفس الأمارة بالسوء إلى النفس اللوامة ثم تصل إلى درجة الاطمئنان، فتسكن إلى الله وترضى بما رضي الله به؛ يقول تعالى: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾، هي النفس التي أيقنت أن الله ربها، وأخبتت له، فإذا أراد الله عزَّ وجلَّ قبضها اطمأنت إليه، واطمأن إليها، ورضيت عنه، ورضي عنها، فجعلها من عباده، وأدخلها جنته.

لقد امتحن الله سبحانه وتعالى الإنسان بالنفسين: الأمارة بالسوء، واللوامة، وأكرمه بالمطمئنة، وهي غاية كمالها وصلاحها.

ومن وسائل إصلاح النفس حتى ترتقي إلى هذه الغاية؛ المحافظة على الفرائض، والإكثار من النوافل، وتلاوة القرآن العظيم وتدبره، ومداومة ذِكر الله عز وجل، وشهود مجالس العلم، ومحاسبة النفس على ما تدعوه إليه من الشهوات والمعاصي، ومصاحبة الصالحين، والإكثار من دعاء الله أن يكفينا شر أنفسنا.

يقول أحد العارفين: «استعصت عليّ نفسي قيام ليلةٍ فصوَّمتُها سنة»؛ فالنفس كالفرس الجموح تحتاج إلى مَن يُروِّضها، فإذا نجح في ترويضها سيصل حتماً إلى (النفس المطمئنة) الراضية بقضاء الله وقدره، البسيطة الرقيقة والمتواضعة دائماً.

 

أحبتي .. كلٌ منا يُصيب ويُخطئ، لكن علينا أن نُحاسب أنفسنا حساباً عسيراً، ونتهمها دائماً بالنقص كي نصل إلى الكمال. على كلٍ منا أن يتصدى دائماً بنفسه اللوامة لوسوسات نفسه الأمارة بالسوء، ويُكثر من ذِكر الله بعباداتٍ خالصةٍ لوجهه الكريم؛ فيمُّن سبحانه وتعالى عليه بالوصول إلى مرحلة (النفس المطمئنة) فيكون من الفائزين بالرضا وراحة البال في الدنيا، ومن الداخلين في زمرة عباد الله أصحاب الجنة في الآخرة.

ولنحذر أن تطمئن نفوسنا بالحياة الدينا وترضى بها فنغفل عن آيات الله؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ . أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾.

اللهم آتِ نفوسنا تقواها وزكِّها، أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.

 

https://bit.ly/3ogiJXI