الجمعة، 19 ديسمبر 2025

أهل القرآن

 خاطرة الجمعة /530

الجمعة 19 ديسمبر 2025م

(أهل القرآن)

 

نشرت قصتها مع حفظ كتاب الله الكريم؛ فقالت: بدأت رحلتي مع حفظ القرآن الكريم قبل أربع سنواتٍ، وأنا ابنة السابعة عشرة، حين كنتُ في المرحلة الثانوية، بعد أن حفظتُ "جُزء عَمَّ" وأنا صغيرةٌ في المسجد، ثم انتقلنا في السكن إلى مكانٍ آخر، وكان هذا عائقاً لي فانقطعتُ عنه. عدتُ إلى القرآن لتعود البهجة إلى أيامي، والتحقتُ بمسجدٍ حفظتُ فيه الزهراوين "سورة البقرة وسورة آل عمران" اللتين تُحاجان عن صاحبهما، لم يكن الحفظ سهلاً في بدايته لقلة فهمي؛ فكنتُ أستعين بالتفسير لشرح ما لا أفهمه. وقد تخللت هذه السنوات الأربع فترات انقطاعٍ اكتفيتُ فيها بالمراجعة، وكنتُ أحياناً أتركها، ظننتُ خلالها أن القرآن سيُعطلني عن دراستي فخاب ظني ولاحظتُ بعد فترةٍ أن أيام إخفاقي كانت هي الأيام التي كنتُ فيها بعيدةً عن القرآن، أما الأيام التي نجحتُ فيها فهي التي كنتُ فيها ملازمةً للقرآن كظلي الذي لا يُفارقني، كنجاحي في الثانوية العامة بتقديرٍ مرتفعٍ ودخولي كلية الطب. وقد كانت سنتي الأولى في الجامعة عسيرةً بكل ما تحمله الكلمة من معنىً؛ كظروف الإسكان الجامعي، والابتعاد عن البيت، وصعوبة الدراسة، وتغيراتٍ كثيرةٍ أخرى؛ مما جعل حفظي مُتذبذباً، فالتحقتُ في عُطلة الصيف بمركزٍ لتحفيظ القرآن، حيث عوضتُ ما لم أحفظه خلال فترة الدراسة.

‏أما في سنتي الثانية بالجامعة فلم يكن ختمي لكتاب الله مُدرجاً ضمن أهدافي السنوية، فلم أكن أحفظ وقتها إلا نصف القرآن وبقي لي الكثير، كنتُ أنهض صباحاً لأحفظ نصف ربعٍ بعد صلاة الفجر ثم أنطلق إلى الجامعة. لا أدري كيف توالت رسائل الله لي؛ فكنتُ كلما أردتُ التوقف عن الحفظ جاءتني إحداها؛ كرفيقةٍ تروي لي حكايتها مع ختم القرآن فيزيد شوقي، أو قصاصةٍ كُتب عليها "ما زاحم القرآنُ شيئاً إلا باركه" فتُشعل همتي، أو كلمةٍ مُحفزةٍ من والدتي -التي لا تدري كم أحفظ- كيوم قالت لي: "حين تختمين كلام الله حفظاً تكتمل فرحتي بكِ". ضاعفتُ مقدار الحفظ في شهر رمضان، وفي الأوقات التي قَلَّت خلالها الواجبات والمُحاضرات الجامعية، وما إن انتهى عامي الدراسي إلا وكنتُ قد أتممتُ حفظ عشرين حِزباً، فضلاً من الله ونعمة، فعدتُ إلى مدينتي والتحقتُ مُباشرةً بمركز تحفيظ القرآن حتى أتممتُ حفظه، وأكرمني الله بختمه، وأسأله أن يتقبله مني، وأطمع أن أكون من (أهل القرآن) الذين هُم أهل الله وخاصته. أحسستُ بشعورٍ تستحي أمام وصفه الحروف والكلمات، وأنا أتلو آخر آياتٍ حفظتها، فضلاً عن السرور الغامر في عيون أُمي وأبي، ودموع إخوتي وصديقاتي وكل من حضر وشاركني الفرحة.

 

أحبتي في الله.. وعن رحلتها مع حفظ كتاب الله تحكي إحداهن عن عائشة التي حفظت القرآن كاملاً، تقول الراوية: كانت عائشة فتاةً عاديةً تعيش في قريةٍ صغيرةٍ. مُنذ طفولتها، كانت تحلم بحفظ القرآن الكريم، لكنها كانت تواجه صعوباتٍ كبيرةٍ في الحفظ، خاصةً مع مسؤولياتها الدراسية والمنزلية. كلما حاولت الحفظ، كانت تشعر بالإحباط وتعتقد أنها غير قادرةٍ على إتمام هذا الهدف العظيم. ذات يومٍ، كانت جالسةً في المسجد بعد صلاة الفجر، تستمع إلى درسٍ عن فضائل القرآن الكريم، قال الشيخ: "مَن جعل القرآنَ أولويته، جعله الله نوراً في قلبه، وسبباً لبركةٍ في حياته"، شعرت عائشة أن هذه الكلمات موجهةٌ إليها شخصياً. قررت أن تبدأ من جديدٍ، لكن هذه المرة بخطةٍ مُختلفةٍ؛ خصصت وقتاً ثابتاً كل يومٍ بعد صلاة الفجر للحفظ، حتى لو كان لمدة عشر دقائق فقط. بدأت بسورةٍ صغيرةٍ، ثم زادت تدريجياً. كانت تستعين بالتفسير لفهم معاني الآيات، مما زاد حُبها للقرآن. واجهت تحدياتٍ كثيرةٍ، مثل: نسيان ما حفظت، أو ضيق الوقت، لكنها كانت تُردد دائماً: "كلما ازداد الجهد، ازداد الأجر". واصلت الحفظ بخطىً ثابتةٍ، وبمرور السنوات، أتمت حفظ القرآن الكريم بالكامل. عندما سألتها صديقاتها عن سر نجاحها، قالت:

"لم يكن السر في ذكائي، بل في استمراريتي. جعلتُ القرآن رفيقي، فكان بركتي في الدنيا ونوري في الآخرة". بعد أن أكملت عائشة حفظ القرآن الكريم، شعرت بتغييرٍ جذريٍ في حياتها؛ أصبح لديها شعورٌ بالسكينة والرضا الداخلي الذي لم تعرفه من قبل.

 

يقول تعالى: ﴿إِنَّا نَحۡنُ نَزَّلۡنَا ٱلذِّكۡرَ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَٰفِظُونَ﴾، ويقول العُلماء إن فضل حفظ القرآن الكريم كبيرٌ؛ فهو كلام ربّ العالمين المُعجز الذي جعله الله تعالى هدايةً للبشر، فأي شيءٍ أعظم من أن يكون كلام ربك محفوظاً في صدرك متلوّاً بلسانك، مُطبَقاً في أفعالك. وفي حفظه تحقيقٌ لموعود الله تعالى بحفظ القرآن الكريم؛ فأي شرفٍ أعلى من أن يجعلك الله سبباً في تحقيق موعوده وبقاء كتابه؟

يقول تعالى: ﴿بَلۡ هُوَ ءَايَٰتُۢ بَيِّنَٰتٞ فِي صُدُورِ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَۚ﴾ فبيّن سبحانه أن حفظ القرآن الكريم من علامات العُلماء. ويقول تعالى: ﴿وَلَقَدۡ يَسَّرۡنَا ٱلۡقُرۡءَانَ لِلذِّكۡرِ فَهَلۡ مِن مُّدَّكِرٖ﴾ أي سهلناه للحفظ وأعّنا عليه من أراد حفظه.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

[مَثَلُ الذي يَقْرَأُ القُرْآنَ وهو حافِظٌ له، مع السَّفَرَةِ الكِرامِ البَرَرَةِ، ...]، وقال صلى الله عليه وسلم: [تَعاهَدُوا هذا القُرْآنَ، فَوالذي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بيَدِهِ لَهو أشَدُّ تَفَلُّتاً مِنَ الإبِلِ في عُقُلِها]، وقال أيضاً: [... اسْتَذْكِرُوا القُرْآنَ؛ فإنَّه أشَدُّ تَفَصِّيًا مِن صُدُورِ الرِّجالِ مِنَ النَّعَم]، كما قال: [مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَعَمِلَ بِمَا فِيهِ، أُلْبِسَ وَالِدَاهُ تَاجًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ضَوْءُهُ أَحْسَنُ مِنْ ضَوْءِ الشَّمْسِ فِي بُيُوتِ الدُّنْيَا ...]، وقال كذلك: [يَجيءُ القرآنُ يومَ القيامةِ فيَقولُ: يا ربِّ حلِّهِ، فَيلبسُ تاجَ الكَرامةِ، ثمَّ يقولُ: يا رَبِّ زِدهُ، فيلبسُ حلَّةَ الكرامةِ، ثمَّ يقولُ: يا ربِّ ارضَ عنهُ، فيقالُ لَهُ: اقرأْ وارْقَ، وتزادُ بِكُلِّ آيةٍ حسنةً]. وقال عليه الصلاة والسلام عن حافظ القرآن: [..وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْوَقَارِ، وَيُكْسَى وَالِدَاهُ حُلَّتَيْنِ لَا يُقَوَّمُ لَهُمَا أَهْلُ الدُّنْيَا، فَيَقُولَانِ: بِمَ كُسِينَا هَذِهِ؟ فَيُقَالُ: بِأَخْذِ وَلَدِكُمَا الْقُرْآنَ].

 

يقول العارفون إن من الأسباب التي تُسهم في الحفظ وتصل بالحافظ إلى أن يكون من (أهل القرآن):

الإيمان الكامل بالقُدرة على ختم القرآن الكريم، وضع خطةٍ زمنيةٍ ذات أهدافٍ مُحددةٍ مع التدرج في الحفظ، اختيار الزمان الملائم لحفظ كتاب الله والوقت النموذجي لحفظ القرآن هو الفجر، واختيار المكان الأمثل للحفظ، والعمل على اختيار الزملاء والأصدقاء الصالحين والالتزام بصُحبة الصالحين.

ويقولون عن فضائل حفظ القرآن الكريم: حفظ القرآن سُنةٌ مؤكدةٌ فالنبي صلى الله عليه وسلم قد حفظ القرآن الكريم وكان يُراجعه مع جبريل عليه السلام في كل سنةٍ، حفظ القرآن يُنجي صاحبه من النار ففي الحديث: [لو أنَّ القرآنَ جُعِلَ في إِهَابٍ ثم أُلْقِيَ في النَّارِ ما احْتَرَقَ]، يرفع صاحبه في الجنة درجاتٍ ففي الحديث: [يقالُ لصاحِبِ القرآنِ اقرَأ وارقَ ورتِّل كما كُنتَ ترتِّلُ في الدُّنيا فإنَّ منزلتَكَ عندَ آخرِ آيةٍ تقرؤُها]، جعل إكرام حامله من إجلال الله تعالى ففي الحديث: [إنَّ من إجلالِ اللَّهِ إِكْرامَ ذي الشَّيبةِ المسلِمِ، وحاملِ القرآنِ غيرِ الغالي فيهِ والجافي عنهُ، ...]، حفظة القرآن هُم أهل الله وخاصته ففي الحديث: [إنَّ للَّهِ أَهْلينَ منَ النَّاسِ] قالوا: يا رسولَ اللَّهِ، من هُم؟ قالَ: [هُم أَهْلُ القرآنِ، أَهْلُ اللَّهِ وخاصَّتُهُ]. حفظ القرآن سببٌ للرفعة في الدنيا والآخرة ففي الحديث: [إنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بهذا الكِتَابِ أَقْوَامًا، وَيَضَعُ به آخَرِينَ]، تقديم الحافظ لإمامة الصلاة على غيره ففي الحديث: [يَؤُمُّ القَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللهِ]، والغبطة الحقيقية تكون في حفظ القرآن ففي الحديث: [لا حَسَدَ إلَّا في اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ عَلَّمَهُ اللَّهُ القُرْآنَ، فَهو يَتْلُوهُ آناءَ اللَّيْلِ، وآناءَ النَّهارِ، ...]، أن حفظ القرآن وتعلمه خيرٌ من الدنيا وما فيها ففي الحديث: [أَفلا يَغْدُو أَحَدُكُمْ إلى المَسْجِدِ فَيَعْلَمُ، أَوْ يَقْرَأُ آيَتَيْنِ مِن كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، خَيْرٌ له مِن نَاقَتَيْنِ، وَثَلَاثٌ خَيْرٌ له مِن ثَلَاثٍ، وَأَرْبَعٌ خَيْرٌ له مِن أَرْبَعٍ، وَمِنْ أَعْدَادِهِنَّ مِنَ الإبِلِ].

 

وعن حفظة كتاب الله قال الشاعر:

أكرِم بقومٍ أَكْرَمُوا القُرآنا

وَهَبُوا له الأرْواحَ والأبْدانا

قومٍ قَد اختارَ الإلهُ قُلوبَهُم

لِتَصِيرَ مِنْ غَرْسِ الهُدَى بُسْتَانا

زُرِعَتْ حُروفُ النورِ بينَ شِفَاهِهِمْ

فَتَضَوَّعَتْ مِسْكًا يَفِيضُ بَيَانا

رفعوا كِتَابَ اللَّهِ فَوقَ رُؤوسِهِمْ

ليكون نوراً في الظَلامِ فَكانا

سُبحانَ مَنْ وَهَبَ الْأُجُورَ لأَهْلِهَا

وهَدَى القُلوبَ وعَلَّمَ الإنسانا

وقال آخر:

طوبى لِمَن حَفِظَ الكِتابَ بِصَدْرِه

فَبَدا وَضيئاً كالنُجومِ تَألُقا

اللهُ أكبر! يا لها مِن نِعمةٍ

لمّا يُقالُ "اقرأ" فرتَّلَ وارتَقا

وتَمثَّل القرآنَ في أخلاقِه

وفِعالِه فيه الفؤادُ تَعَلَقا

وتَلاهُ في جُنحِ الدُجى مُتدبِّراً

والدَمعُ مِن بينِ الجُفونِ تَرَقرَقا

وقال ثالثٌ:

يَكْفيكَ مِن أُنسِ الحَياةِ وَطيبِها

أنْ تَحْمِلَ القُرآنَ في جَنبيكَ

تَحيا بهِ مُتدَبِّراً ومُرَتِّلاً

وَلِسانُ حالِكَ: "رَبنا لبيكَ"

 

أحبتي..

اللهم يسِّر لنا حفظ كتابك الكريم، واكتب لنا أن نكون من أهلك وخاصتك، (أهل القرآن)، واجعلنا ممن يحرصون على حفظ أبنائهم له، وأنت سُبحانك على كل شيءٍ قدير.

https://bit.ly/4p9mWvj