الجمعة، 23 يونيو 2017

مريض في رمضان

الجمعة 23 يونيو 2017م

خاطرة الجمعة / ٨٩
(مريض في رمضان)

جارٌ لي، له علي حق الجيرة وحق الصداقة، أتذكر كلماته قبل بداية شهر رمضان المبارك والجدول الذي وضعه لنفسه خلال الشهر الفضيل. بدأ رمضان وإذا بجاري وصديقي ينفذ جدوله بدقة جندي يتلقى أوامر من ضابط: منتظمٌ في مواعيده، مواظبٌ من أول ليلة في التراويح والتهجد، قد لا يلحق الصف الأول من التراويح لكن مكانه في هذا الصف في صلاة التهجد. صراحةً كنت أغبطه على نشاطه وهمته رغم كبر سنه، وكنت بيني وبين نفسي أريد أن أنصحه بالتخفيف قليلاً حتى لا يتعب، ثم تراجعت لمعرفتي بشخصيته؛ إذا اتخذ قراراً يأخذه بعد تفكيرٍ ودراسة ثم لا يتراجع عن تنفيذه أبداً، قالها لي ذات مرة: "أنا أدرى الناس بنفسي؛ إذا طاوعت هواها استكبرت وتمادت، وإذا أخذتها بالشدة خضعت وذلت". أعجبني يومها ما قاله، وحاولت أن ألزم نفسي به، والحقيقة أني لا زلت أحاول!

أحبتي في الله .. مرت العشر الأُوَّل من رمضان على نفس الوتيرة، إلى أن افتقدناه فجأةً في صلاة التراويح فسألنا عنه، علمنا أنه يمر بوعكةٍ صحية، انتظرنا يوماً آخر ثم يوماً ثالثاً، فإذا بنا نعلم من حارس العمارة أن جارنا كان في المستشفى وأنه عاد منها بقسطرة. قررنا بسرعةٍ أنا وبعض الجيران زيارته، فما أعظم ثواب زيارة المريض، فما بالنا و(مريض في رمضان) يتضاعف أجر عيادته عن مريضٍ في غير رمضان. اتصلنا به هاتفياً وأخذنا منه موعداً يناسبه، وقت زيارته كان في استقبالنا واقفاً على قدمه محتفظاً بابتسامته التي عهدناها لا تفارقه، جلسنا وبدأ يحكي لنا كيف تطور الأمر معه من آلامٍ مبرحةٍ في جنبه الأيسر لم تكن تتركه إلا وهو يمسك بجنبه ويلف على الأرض كالثعبان، إلى أن أجرى عمليةً بالمنظار. في التفاصيل أخبرنا أنه يشكو عادةً من آلام القولون العصبي التي تراوده كل فترةٍ والتي تستجيب بسرعةٍ لعلاجٍ محدد، أما الآلام التي أمسكت بتلابيبه هذه المرة فكانت أشد، ثم أنها توالت بشكلٍ غير معتادٍ فزارته ثلاث مرات في أربعة أيامٍ، كما أنها لم تستجب للعلاج الذي كانت تستجيب له من قبل، اُضطر للتوجه للمستشفى وأجرى الفحوصات اللازمة فاتضح له براءة القولون العصبي من تلك الآلام وأن سببها وجود حصوتين في الحالب الأيسر، ولأن الكبيرة منهما تقبع بالجزء الأسفل وقد تسبب محاولتها النزول كارثة، قرر الطبيب المختص حجزه في المستشفى في نفس الليلة، وأجرى له عمليةً بالمنظار صباح اليوم التالي.
اطمأننا عليه، وعلى أنه ولله الحمد قد تخلص من هذه الحصوة الكبيرة.
سأله أحدنا: "ألم تخف من العملية، عن نفسي أخاف جداً من العمليات"، رد قائلاً: "لم تكن عمليةً جراحيةً وإنما تم تفتيت الحصوة بالمنظار، كنت تحت التخدير الموضعي للجزء الأسفل من الجسم، أسمع وأتكلم وأشاهد على شاشة {المونيتور} كل ما يقوم به الطبيب الجراح".
صمت جارنا لحظةً ثم قال: "ما خفت منه بالفعل هو ما كنت فرحاً به!"، واستطرد موضحاً: "كنت فرحاً بالتخدير الجزئي للنصف الأسفل من جسمي لا أحس بأي ألم، ثم عندما عدت إلى غرفتي بالمستشفى انتظرت ساعة ثم أخرى ثم ساعة ثالثة أن يعود لي إحساسي بأقدامي، لكن أبداً لم يعد، ساعة رابعة ثم ساعة خامسة، كانت تلك الساعات الخمس بحق ساعات رعبٍ وهلع، لم تُسيطر على ذهني إلا فكرةٌ واحدة فقط: ماذا لو استمر الأمر على هذا الحال؟ ألا يمكن أن يكون خطأً طبياً قد حدث من طاقم التخدير؟ كيف يمكن لي أن أعيش ما تبقى لي من عمر؟ أسئلةٌ كثيرةٌ عصفت بذهني توالت وتزاحمت كأنها في سباق، كانت في تتابعها تزداد سوءاً وتشتد سواداً، لم أستطع أن أوقفها أبداً، إلى أن هداني الله سبحانه وتعالى إلى الدعاء، وسبحان الله العظيم عندما قال في كتابه الكريم: ﴿وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ﴾، فلولا هدايةُ ربي ما تذكرتُ آياتٍ أحفظها جيداً منها: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾، ومنها: ﴿أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ﴾، أحسستُ بسَكينةٍ تغمرني وراحة بالٍ تغشى كياني كله حينما تملكتني فكرة حسن الظن بالله، فبدأت بالدعاء والتضرع إلى المولى عز وجل كما لم أدعُ وأتضرع من قبل، فإذا بقدمي اليمني تبدي استجابةً يسيرةً جداً كانت كافيةً لأن أفرح فرحاً عظيماً برحمة ربي واستجابته دعاء المضطر عندما دعاه، فرحاً لم أجد تعبيراً عنه إلا بالانخراط في نوبة بكاءٍ شديدٍ تَعَجَّبَ منها المحيطون بي!".
لم يتمالك نفسه وهو يروي لنا ما حدث معه فأُجهش البكاء. هدأنا من روعه قدر ما نستطيع، ثم سأله أحدنا قبل أن ننصرف عن القسطرة؛ قال: "وجود القسطرة يمنعني من الصلاة في المسجد، فاُضطر إلى الصلاة في المنزل، وكلما سمعت الأذان من كل هذه المساجد التي من حولنا، وأتصور وقع أقدام الساعين إلى بيوت الله وأقدامي ليست من بينهم، لا أستطيع أن أمنع نفسي من البكاء. وكلما يبدأ وقت صلاة التراويح أو وقت صلاة التهجد وأنا لست من بين المصلين أجد عيناي وقد اغرورقتا بالدموع"، وإذا بدموعه تنساب على خده نكاد نحس بسخونتها! حاولنا تهدئته، فقال لنا بصوتٍ متهدج: "أنتم شبابٌ أطال الله في أعماركم، أما أنا فلا أعلم إن كان مكتوباً لي أن أشهد رمضانَ آخر أم لا؟"، قال له واحدٌ منا ونحن نهم بالانصراف: "خفف عن نفسك، مثابٌ ومأجورٌ بإذن الله بنيتك، وبما كنت قد واظبت عليه من عبادات ونوافل قبل المرض. في الواقع كنت متأكداً من أن يتملكك هذا الشعور، فبحثت قبل أن آتي لزيارتك فوجدت حديثاً صحيحاً من أحاديث البخاري كتبته على ورقةٍ حتى لا أنساه"، ثم أخرج ورقةً من جيبه قرأ منها الحديث الشريف التالي:
عن أبي موسى - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: [إذا مرض العبد أو سافر كُتب له مثل ما كان يعمل مقيماً صحيحاً]؛ رواه البخاري.
فكانت نهاية هذه الزيارة بهذه البشرى الطيبة من الحبيب المصطفى عليه أفضل الصلاة وأتم السلام.

أحبتي .. الصحة نعمةٌ كبيرة من الله سبحانه وتعالى لا يشعر بأهميتها الإنسان إلا إذا فقدها. حفظنا الله وإياكم، ومتعنا ومتعكم بالصحة والعافية.
اُدعوا لكل (مريض في رمضان)، وخاصةً لمريضنا الذي حدثتكم عنه، بتمام الشفاء وموفور الصحة، قولوا كما علمنا رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام: «اللَّهُمَّ ربَّ النَّاسِ، أَذْهِب الْبَأسَ، واشْفِ، أَنْتَ الشَّافي لا شِفَاءَ إِلاَّ شِفَاؤُكَ، شِفاءً لا يُغَادِرُ سقَماً».
ومع قرب انتهاء شهر رمضان الفضيل رددوا معي:
اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي.
اللهم اكتبني ممن رحمتهم، وغفرت لهم، وأعتقت رقابهم من النار.
اللهم لا تجعله آخر العهد من صيامنا إياه، فإن جعلته فاجعلني مرحوماً ولا تجعلني محروماً.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدة، إنْ أَذِنَ الله وأمَّد في أعمارنا.

تقبل الله منا ومنكم.