الجمعة، 13 ديسمبر 2024

عقوق الأب

 

خاطرة الجمعة /477

الجمعة 13 ديسمبر 2024م

(عقوق الأب)

 

كتب شابٌ عراقيٌ لأحد مواقع الفتوى الإسلامية يقول: لا أعلم من أين أبدأ؟ وكيف سأبدأ؛ والدموع تنهمر من عينيّ البائستين؟ لقد رأيتُ الدنيا حقيرةً!! لم تُعطني ‏ولو جزءاً يسيراً مما أردتُ؛ فمنذ ‏ولادتي انفصل والدي عن أُمي، وبدأ ‏حزني العميق الذي لم يتركني إلى ‏الآن، وأنا ابن السابعة عشرة!! كبرتُ بلا أب! إلى أن بلغتُ ‏التاسعة من عمري، بدأ أبي بالسؤال ‏عني، وبدأتُ أنا بزيارته كل ‏شهرين أو ثلاثة، لكني لقيتُ من ‏التفرقة -بيني وبين أبنائه من زوجته ‏الجديدة- ما لقيتُ!! فبدأت صفحةٌ ثانيةٌ ‏من صفحات جُروحي وآلامي؛ كأن ‏شخصاً يضع عليها في كل يومٍ ملحاً جديداً!! لقد ‏بخل عليّ والدي بالمال، مع أن حالته ‏الاقتصادية ممتازة!! ليس هذا فقط، بل بخل ‏معي حتى بمشاعره؛ تُرى ماذا ‏فعلتُ؟ يسخر مني أمام أعمامي، ‏وعماتي، وأمام زوجته. وعندما أسأله عن سبب ذلك يقول لي: "كنت أمزح"!! يُقبِّل الصغير والكبير ويتركني. ‏يُحاورهم، يضحك معهم، أما أنا كأني ‏لستُ موجوداً! صحيحٌ أنه كان يتكلم ‏معي في كثيرٍ من الأحيان، لكنه ‏دائماً يسخر مني، هذا الذي كان يفعله معي!! ‏

الآن بعد أن بلغتُ السابعة عشرة من ‏عُمري، تزوجت والدتي، وهذا حقها ‏فهي شابةٌ، أفنت عُمرها من أجلي، ‏أرادت مني السكن معها، لكني أبيتُ؛ ‏فكرامتي لن تسمح لي بالسكن مع ‏زوج أُمي، فقررتُ السكن مع جدتي ‏والدة أُمي وخالي غير المتزوج، وهما يقيمان بالقرب من منزل والدتي، لكن ‏الظروف الأمنية اضطرتني إلى ‏الذهاب إلى والدي في الحي الذي يُقيم فيه بعيداً‏‏، لكني صُدمتُ بأن والدي ‏-وللمفاجأة- لم يرغب في وجودي في ‏بيته!! وقرَّر أن ‏يُرسلني للعيش مع والدته!!

أي أبٍ يُفرِّط في ابنه؟ ماذا فعلتُ ‏لألقى كل هذا الجفاء والصد؟ لماذا ‏أنا تحديداً من دون العالم بأسره؟! ‏أحياناً أفكر بأنني مظلومٌ منذ ولادتي، وحاشا لله أن يظلمني، لكن هذه الفكرة ‏تطرأ على بالي. لماذا فقدتُ نعمة ‏الأب بينما الآلاف من الناس لم ‏يُحرموا منها؟! لماذا كل هذا الظلم؟‏ أتمنى أحياناً أن يأتي يوم القيامة ‏سريعاً لأخبر الله بكل شيء! ولنقف أنا وأبي ‏بين يدي الله، ليحكم بيننا: لماذا أنجبني ‏ثم يفعل بي هذا؟! ثم يطلب مني أن لا ‏أرى أُمي بعد الآن، بحجة أنه ‏يكرهها، ولا أرى جدتي والدة أُمي التي ‏ربتني 17 عاماً، يطلب مني أن لا ‏أراهما أبداً، وأن أبقى مع والدته هو إلى ‏أن أُكمل دراستي رغم أنه يعلم أن ‏الظروف الأمنية هي التي أجبرتني على اللجوء ‏إليه، بعد انفلات الأمن في المكان الذي تعيش فيه. لقد أشعرني هذا، وزادني ‏يقيناً بأن والدي يكرهني بشدة، بقدر ما يُحب أولاده من زوجته ‏الثانية، وأني مظلومٌ منذ ولادتي. فلماذا يا ربِ أنا من دون الجميع؟ ‏وهل يجب عليّ بعد هذا كله أن أبر ‏والدي؟ وماذا أفعل بشأن أنه لا ‏يرغب أن أرى والدتي؟ هل أُنفذ كلامه ‏أم كلام والدتي؟ ربما مللتَ من ‏كلامي يا سيدي، لكن الشعور الذي ‏بداخلي، ألجأني إلى موقعكم، وبي ‏ألفُ هَمٍ وغمٍ وشكوى، وألفُ ‏علةٍ، وقصيدة حزنٍ، أنا المظلوم لا ‏ألقى جواباً في أرجاء نفسي! ولا ألقى ‏حلاً ليأسي.‏

 

أحبتي في الله.. كان مما ورد في رد المُفتي على رسالة هذا الشاب: نسأل الله تعالى أن يُفرِّج همك، وأن يُنفِّس كربك، وأن يُعافيك في دينك ودنياك. واعلم أن الإسلام قد أوجب على الآباء التسوية بين الأبناء في الهبات، والمعاملة، والرعاية، والتربية؛ وذلك لأنه أدعى إلى بِر الأبناء بآبائهم، وأرفع للشحناء، والبغضاء بينهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [اتَّقُوا اللَّهَ، وَاعْدِلُوا في أَوْلَادِكُمْ]؛ وعليه، فإن ما يقوم به هذا الأب من التمييز بين أبنائه، هو أمرٌ منهيٌ عنه شرعاً، وتفرقةٌ في غير محلها. ولكنا نوصيك -ما دمتَ قد وصلتَ لهذه السن بفضل الله تعالى- أن تعلم أن هذه الدنيا دار ابتلاءٍ، وهذا الابتلاء لا ينجو منه أحدٌ حتى من اصطفاهم الله من عباده وهم الأنبياء، وأكثرهم بلاءً في هذه الدنيا نبينا محمدٌ صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك فهو أرفعهم، وأعلاهم درجةً. فمن ابتلاه الله في الدنيا، فصبر، فسيعوضه الله في الآخرة، والآخرة خيرٌ وأبقى، والآخرة خيرٌ من الأولى، وما عند الله خيرٌ للأبرار. فإذا صبرتَ على قَدَر الله، وعاملتَ أباك وإخوتك بالإحسان، فلك من الله أجرٌ عظيمٌ؛ وسيكون معك عونٌ من الله تعالى، وسيعطف الوالد عليك، ويجعله ذلك باراً بك إن شاء الله. وأما عن طاعة أبيك في ترك أُمك، وجِدتك: فلا يلزمك ذلك، ولكن حاول أن تتواصل معهما من دون علمه، فأنتَ الآن أصبحتَ رجلاً يُرجى لك بعد قليلٍ أن تتخرج، وتكون موظفاً، وتكون القائد، والأب لإخوتك، والعائل لأبويك، وجدتيك، فاستعن بالله تعالى في مواصلة دراستك، وفي نجاح أمورك، وفي الحصول على الوظيفة المناسبة، واصرف عن ذهنك هاجس الظلم، واستعن بالصبر، والصلاة، والدعاء، والإحسان إلى الوالد؛ فقد قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾. وقال الله جلَّ وعلا: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ . وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾. وقال الله تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾. وقال تعالى: ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً﴾. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: [ما يُصِيبُ المُسْلِمَ، مِن نَصَبٍ ولَا وصَبٍ، ولَا هَمٍّ ولَا حُزْنٍ ولَا أذًى ولَا غَمٍّ، حتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا، إلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بهَا مِن خَطَايَاهُ]. وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [عَجَبًا لأَمْرِ المُؤْمِنِ، إنَّ أمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وليسَ ذاكَ لأَحَدٍ إلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إنْ أصابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكانَ خَيْرًا له، وإنْ أصابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكانَ خَيْرًا له]. ويقول صلى الله عليه وسلم: [إن عِظَمَ الجزاءِ مع عِظَمِ البلاءِ، وإن اللهَ –عزَّ وجلَّ- إذا أَحَبَّ قومًا ابتلاهم؛ فمن رَضِيَ فله الرِّضَى، ومن سَخِطَ فله السُّخْطُ]. وجاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إن لي قرابةً أصلهم، ويقطعونني، وأُحسن إليهم، ويسيئون إليّ، وأحلم عنهم، ويجهلون عليّ، فقال صلى الله عليه وسلم: [لَئِنْ كُنْتَ كما قُلْتَ، فَكَأنَّما تُسِفُّهُمُ المَلَّ وَلَا يَزَالُ معكَ مِنَ اللهِ ظَهِيرٌ عليهم ما دُمْتَ علَى ذلكَ]. فاحمد الله أن جعل مصيبتك في أمرٍ من أمور الدنيا، ولم يجعل مصيبتك في دينك، واعلم أن الله لا يُسأل عما يفعل، قال تعالى: ﴿لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾. واحرص على التمسك بطاعة الله، وتقواه؛ فإن في ذلك وحده حلاً لكل مشاكلك، وتفريجاً لكل هموم وغمومك، وتيسيراً لكل أمورك، وصلاحاً لكل أحوالك وظروفك؛ يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا . وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾. ويقول أيضاً: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا﴾. ويقول سبحانه: ﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى . وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾.

وعليكَ بالدعاء بقول النبي صلى الله عليه وسلم: [يا حيُّ يا قيُّومُ برحمتِك أستغيثُ، أَصلِحْ لي شأني كلَّه، ولا تَكِلْني إلى نفسي طرفةَ عَيْنٍ]، وقوله صلى الله عليه وسلم: [اللَّهمَّ لا سَهلَ إلَّا ما جَعَلتَه سَهلًا، وأنتَ تَجعَلُ الحَزْنَ إذا شِئتَ سَهلًا]. 

 

يقول أهل العلم إن الإسلام أوجب على الآباء مجموعةً من الواجبات تجاه أبنائِهم، وأَمَرَهم بالقيام بها، ولم يجعل الله تعالى هذه الواجبات تبعاً للعواطف والغريزة الفطرية، وإنّما نظَّمها بقوانين وأحكامٍ مُلزمةٍ، تحفظ للأبناء جميع حقوقهم؛ من تربيةٍ وتنشئةٍ، وحفظٍ انسبهم، وإشرافٍ على أموالهم، فإن أحسنَ الآباء كان لهم الأجر والثواب من الله، وإن أساؤوا فسيُحاسبون على تقصيرهم وعقوقهم لأبنائهم أمام الله سُبحانه وتعالى.

ومن صور (عقوق الأب) أن يعتقد أن قسوته في التربية هي الأسلوب الصحيح لتربية أبنائه، لكن في الواقع، هو يُدمر شخصياتهم، وهذا يُعد عقوقاً. وتفرقته بين أبنائه في المُعاملة وتفضيل بعضهم على بعض وعدم المساواة بينهم يُعتبر عقوقاً. وبخله على أبنائه وحرمانهم من أشياء كثيرةٍ بإمكانه توفيرها لهم بحجة التوفير، يجعلهم يشعرون بالنقص والاحتياج، فهذا عقوق. واعتقاده أن دوره كأبٍ يقتصر على توفير الطعام والشراب والملبس فقط، ولا يعتبر نفسه مسؤولاً عن التربية والاهتمام بأبنائه، وتركه هذه المهمة للأُم فقط، فهذا عقوق. وعندما يدعو على أبنائه ويوجه لهم ألفاظاً جارحةً وشتائم دون سببٍ، فهذا عقوق. وعندما يلجأ إلى الضرب المستمر، والإهانة، ويستخدم أسلوب القمع، وإجبار أبنائه على فعل أشياء بدون أن يسمع لهم أو يكون لهم حق الاعتراض، يُعد عقوقاً.

ومن صور (عقوق الأب) كذلك يقول أحد العلماء: "من أهمل تعليم ولده ما ينفعه، وتركه سُدىً، فقد أساء إليه غاية الإساءة، وأكثر الأولاد إنما جاء فسادهم من قِبَل الآباء وإهمالهم لهم، وترك تعليمهم فرائض الدين وسننه، فأضاعوها صغاراً، فلم ينتفعوا بأنفسهم ولم ينفعوا آباءهم كباراً".

وهذا عالِمٌ آخر يقول: "يجب أن تُعلمهم أهم الصفات الحميدة؛ وأولها: محبة الله سبحانه، وتوقيره وتعظيمه، ورجاؤه، والخوف منه، والتوكل عليه".

وعالِمٌ ثالث يقول: "إن التأسيس السليم للطفل ليس لبناء جسمٍ سليمٍ فقط، بل مع ذلك لابد من بناء قلبٍ سليمٍ، فتأسيس القلب الطائع لله يعود على سائر الجسم بسلامته".

 

وعن (عقوق الأب) ورد في الأثر أن رجلاً جاء إلى سيدنا عُمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بابنه يشكو عقوقه له، فسأل الابنُ أميرَ المؤمنين عن حقوق الابن على والده، فأجابه بأن من حقه عليه أن يستنجب أمه، وأن يُحسن اسمه، وأن يُعلمه الكتاب "أي: كتاب الله". فقال الابن: فوالله ما فعل شيئاً من ذلك؛ فالتفت عُمر إلي الأب وقال له: "لقد عققته قبل أن يعقك".

 

أحبتي.. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [كُلُّكُمْ راعٍ، وكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عن رَعِيَّتِهِ، الإمامُ راعٍ ومَسْئُولٌ عن رَعِيَّتِهِ، والرَّجُلُ راعٍ في أهْلِهِ وهو مَسْئُولٌ عن رَعِيَّتِهِ، ...]. فعلينا أن نُقدم لأبنائنا أعلى مستوىً ممكنٍ من الرعاية بجميع مجالاتها: الدينية والتربوية والنفسية والجسدية، وغيرها من مجالات. كلنا نود أن ينشأ أبناؤنا بارين بنا -خاصةً عندما نكبر في العُمر- فلنبرهم، ونرعاهم، ونربيهم على منهج ديننا الإسلامي، وهو المنهج الذي ارتضاه لنا.

ولنتذكر أنما جزاء الإحسان إلا الإحسان، والجزاء من جنس العمل، وكما ندين ندان.

اللهم اجعلنا مما يستمعون الكلام فيتبعون أحسنه. وأعنِّا على تربية أبنائنا وتنشئتهم على المنهج الذي يُرضيك.

https://bit.ly/49zqeBQ