الجمعة، 4 أغسطس 2023

السعي للآخرة

 خاطرة الجمعة /407

الجمعة 4 أغسطس 2023م

(السعي للآخرة)

 

عن قصة كفاح «فاطمة» الخادمة الإندونيسية، وهي زوجة السائق الخاص لإحدى العائلات بدولةٍ من دُول الخليج العربي، كتب يقول:

كنتُ أشاهدها تعمل عند صديقٍ لي، وكنتُ أراها دائماً مُتعبةً وتعمل ببطء؛ فقد بلغت من العمر الخامسة والخمسين، كما علمتُ أنها أصيبت بمرض السُكري. سألتُ صديقي مرةً: "أما آن لهذه المسكينة أن ترتاح؟"، أجاب: "أولادها بالجامعة، كان الله في عونها". آخر مرةٍ سألتُ فيها عن «فاطمة» ابتسم صديقي وقال: "ارتاحت وجلست في منزلها"، قلتُ: "يحق لها فقد تعبت كثيراً"، لمعت عينا صديقي ببريقٍ غريبٍ تفاجأتُ به، وابتسم ابتسامةً أغرب، قلتُ: "ما وراءك؟"، قال: "حققت «فاطمة» هدفها؛ فهدأ بالها واطمأنت نفسها فتوقفت عن العمل"، سألته: "وما كان هدفها؟ تعليم أولادها؟ هل تخرجوا؟"، ذهب إلى أحد الأدراج وأخرج منه صورة مسجدٍ جميلٍ أنيقٍ صغيرٍ، كُتبت على حَجَر رخاميٍ كبيرٍ في مُقدمته عبارةٌ بالخط الأسود {مسجد فاطمة}، قلتُ: "ما هذا؟"، قال: "هذا هو هدف «فاطمة» الذي حققته؛ لقد كان هدفها أن تبني مسجداً من تعبها وعرقها ليكون صدقةً جاريةً لها وبركةً في حياتها وبعد مماتها".

عندما سمعتُ الخبر دارت بي الدنيا ولفت، وصغرت نفسي أمام عينيّ، أحسستُ أنني قزمٌ أمام عملاقٍ اسمه «فاطمة»؛ الخادمة الآسيوية التي وضعت لنفسها هذا الهدف السامي النبيل، ولم تكتفِ بأن يظل ذلك الهدف مجرد حلمٍ يُراودها، ولم تتقاعس، وإنما دفعها (السعي للآخرة) إلى العمل الحثيث والدؤوب، بهمةٍ لا تفتر ولا تنقطع، ولأنها أخلصت النية لله سبحانه وتعالى فتح الله لها أبواب الرزق لتُحقق ذلك الهدف.

 

أحبتي في الله.. ختم راوي القصة بالقول: أنا الآن أتساءل: "إذا كان (السعي للآخرة) هو هدف خادمةٍ أعجميةٍ غير عربيةٍ، فما هي أهدافنا نحن العرب الذين نقرأ القرآن بمهارةٍ، ونفهم ما فيه، نحن الذين تعلمنا، وأنعم الله علينا بنعمٍ كثيرةٍ، ما هي أهدافنا وإلى ماذا نسعى؟ بناء منزلٍ أكبر؟ شراء سيارةٍ أفخم؟ توسيع التجارة؟ تعليم الأولاد الطب والهندسة ليُقال والد الطبيب ووالد المهندس؟

قصة «فاطمة» جعلتني أفكر في الموازين والمفاضلات: مَنْ أفضل مِنْ مَنْ؟ مَن الرابح؟ ومَن الخاسر؟ مَن يسعى للدنيا، أم مَن يسعى للآخرة؟

 

إن شريعة الإسلام شريعةٌ وسطيةٌ، تقوم على التوازن والاعتدال بين طرفي الغلو والتقصير، والإفراط والتفريط، والإسراف والتقتير؛ يقول تعالى عن أمة الإسلام: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾. والقاعدة الإلهية في فقه التعامل مع الدنيا والآخرة تؤكد وسطية الإسلام؛ يقول تعالى: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾، ويُبين الله سبحانه وتعالى الفرق بين الدنيا والآخرة بقوله: ﴿وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾، ويُذكِّرنا سبحانه بأن وجودنا في الدنيا هو للاختبار والابتلاء فعلينا أن نُحسِن العمل، يقول تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾، ومع ذلك فإن مِن الناس مَن شدته الحياة الدنيا فانشغل بها ولم يسعَ للآخرة؛ يقول تعالى: ﴿فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ﴾، بل ومنهم من فضّل الدنيا على الجهاد في سبيل الله؛ يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ﴾، ووصف عزّ وجلّ الذين رضوا بالحياة الدنيا ولم يعملوا للآخرة بالغافلين، وتوعدهم بالنار مأوىً لهم؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ . أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾.

ومن الناس من جمع بين العمل للدنيا و(السعي للآخرة)، وهؤلاء هُم مَن مدحهم المولى عزّ وجلّ بقوله: ﴿وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ . أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾. وعن هذه الآية الكريمة يقول العلماء إن هؤلاء هُم أصحاب الهمم العالية، يسألون الله خيري الدنيا‏ والآخرة، قدموا توسلهم بأجمل الأسامي والصفات: ﴿رَبَّنَا﴾ نداءٌ فيه إقرارٌ بالربوبية ‏العامة للَّه تعالى وتوحيدْ لألوهيته؛ فليس لهم غير ربهم يتولاهم، ويُصلح أمورهم. ثم يقولون: ﴿آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً﴾ يسألون ربهم من خير الدنيا كله بأوجز لفظٍ وعبارةٍ، فجمعت هذه الدعوة كل خيرٍ يتمناه العبد في الدنيا من عافيةٍ، ودارٍ رحبةٍ، وزوجةٍ حسنةٍ، ‏ورزقٍ واسعٍ، وعلمٍ نافعٍ، وعملٍ صالحٍ، ومركبٍ هنيءٍ. ويقولون: ﴿وفي الآخِرَةِ حَسَنَةً﴾ يسألون ربهم الحسنة في الآخرة؛ بالبعث على أمنٍ، والنشور إلى ظلٍ، ومجاوزة الصراط، ويُسر الحساب، ودخول الجنة، والنظر إلى وجه الله عزّ وجلّ. ثم يقولون: ﴿وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ مع ما يقتضيه هذا من تيسير أسبابه في الدنيا، من اجتناب المحارم والآثام، وترك الشُبهات والحرام. فصار هذا الدعاء أجمع دعاءٍ وأكمله؛ لهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يُكثر من الدعاء به، والحث عليه.

 

ويُنبه أهل العلم إلى أن من كان يريد الحياة الدنيا؛ فعمل لها وحدها، فإنه يلقى نتيجة عمله في هذه الدنيا، ويتمتع بها كما يُريد لأجلٍ محدودٍ، ولكن ليس له في الآخرة إلا النار؛ يقول تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ . أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾. ومن أراد أن يعيش لهذه الدنيا وحدها دون أن يعمل لآخرته، فإن الله يُعجِّل له حظه منها حين يشاء، ثم مصيره إلى جهنم؛ يقول تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا﴾. أما الذي يريد الآخرة فلابدّ أن يسعى لها سعيها، فيؤدي تكاليفها، ويُقيم سعيه لها على الإيمان؛ فيلقى التكريم في الآخرة؛ يقول تعالى: ﴿وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا﴾.

 

ومن (السعي للآخرة) الإكثار من الصدقات الجارية، ومن أفضلها: سقي الماء، والوقف بأنواعه كبناء المساجد، ومراكز تحفيظ القرآن الكريم، وبناء المدارس، والمستشفيات.

وعن فضل الصدقات الجارية يقول أهل العلم إن الصدقة تُطفئ غضب الرب، وتدفع ميتة السوء، وتُطفئ الخطيئة كما يُطفئ الماءُ النارَ، وهي دواءٌ للأمراض البدنية وأمراض القلوب، وبُرهانٌ على صدق إيمان المسلم، كما أنها تُطهِّر نفس الإنسان وتُخلصه مما قد يُصيبه من جراء اللغو والحلف والكذب، وتُطهِّر المال ممّا قد يُصيبه من الحرام، وتدفع البلاء، وتؤدي إلى انشراح الصدر وطمأنينة القلب وراحته، وهي سببٌ للبركة في المال، وسببٌ لوصول المسلم إلى مرتبة البر، وسببٌ لدعاء الملائكة كل يومٍ للمتصدق، وسببٌ لسروره ونضرة وجهه يوم القيامة، وسببٌ لمضاعفة أجره، وبعده عن النار، ودخوله الجنة من بابٍ خاصٍ يُقال له باب الصدقة، وهل أفضل من أن يكون المتصدق في ظل الله يوم لا ظل إلا ظله؟ إن الصدقات من أفضل الأعمال الصالحة والقُربات إلى الله سبحانه وتعالى.

 

أحبتي.. ليس منا من لم تأخذه الدنيا -بزخرفها وفتنتها، ومشاغلها ومشاكلها- بعيداً عن طريق الله، ولو قليلاً، إلا من رحم ربي. بعضنا سارع بالعودة إلى الصراط المستقيم، والبعض منا ما تزال الدنيا شاغله الأول والأخير. فلينظر كلٌ منا أين هو، هل حيث يُحب الله أن يراه؟ نبذل الكثير من الوقت والجهد والمال، ونتخاصم ونتعارك لتحصيل أكبر حظٍ ممكنٍ من الدنيا ونحن نعلم أنها إلى زوالٍ، فماذا أعددنا لحياتنا الأبدية؟ ما الذي يُمكن أن نفعله كي نعوض ما فات ونلحق بركب الصالحين؟ هل خططنا لأهدافنا الأخروية كما نخطط لأهدافنا الدنيوية؟ هل نكون أقل من «فاطمة»؟

ولأن الحكمة تقول: "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً" فليكن عملنا لدنيانا لتوفير ما نحتاج إليه فيها، وما يُغنينا عن الناس، ولتكون الدنيا مزرعةً للآخرة، نبذل فيها من الجهد من نُعمِّر به منازلنا الأبدية الخالدة في الآخرة بأكثر من جهدنا لتعمير قصرٍ نسكنه في الدنيا الفانية ثم حتماً نفارقه. نعمل لآخرتنا كأننا نموت غداً؛ لا نؤخر ولا نسوِّف لأجلٍ قد لا نُدركه، وإذا أدركناه قد يحبسنا عن العمل مرضٌ، أو ضعفٌ، أو قلة مالٍ أو فتور همةٍ؛ فلنبادر إلى (السعي للآخرة) بتحديد هدفٍ يُقربنا من مرضاة الله سبحانه وتعالى، وينفعنا كصدقةٍ جاريةٍ ترفع من درجتنا وتُعلي منزلتنا في الآخرة، ونظل ننتفع بآثارها بعد موتنا.

اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأعنّا على ذِكرك وشكرك وحُسن عبادتك على الوجه الذي يُرضيك عنا.

https://bit.ly/47daAe1