الجمعة، 27 يوليو 2018

النفس المطمئنة


الجمعة 27 يوليو 2018م

خاطرة الجمعة /١٤٥
(‏النفس المطمئنة)

كنت أقرأ في كتاب تاريخ الخلفاء للسيوطي، عن الأحاديث الواردة في فضل الخليفة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فاستوقفني الحديث التالي:
عن سعيد بن جبير رضي الله عنه قال: قرأت عند النبي صلى الله عليه وسلم ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ﴾ فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله إن هذا لحسنٌ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أَمَا إِنَّ الْمَلَكَ سَيَقُولُهَا لَكَ عِنْدَ الْمَوْتِ].
قلت في نفسي: يا لها من بشرى من النبي صلى الله عليه وسلم لصاحبه، الخليفة الأول للمسلمين، وياله من تكريمٍ من المولى عزَّ وجلَّ.
وتساءلت: هل يمكن لأيٍ منا أن يصل بنفسه إلى مرتبة (النفس المطمئنة) وينال مثل هذا التكريم؟

أحبتي في الله .. خلق الله الإنسان وسوى له نفسه ثم ألهمها إما الفجور أو التقوى؛ يقول تعالى في كتابه الكريم: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا . فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾، وبَيَّن لنا أن الفلاح بتزكية النفس، وأن الخيبة والخسران بغير ذلك؛ يقول سبحانه: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا . وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾. إذا علمنا ذلك يكون من الفطنة والحكمة وحُسن التدبير، أن يسعى الإنسان دائماً لتزكية نفسه؛ فشأن تزكية النفس عظيمٌ، فبها تكون النجاة ويتحقق الفلاح، وبضدها يكون الخسران المبين.

فما هي النفس يا تُرى؟ يقول علماء النفس أن النّفس البشريّة هي الجُزء المقابل للجسم، وهي جزءٌ مُحركٌ لنشاطاته بأنواعها، سواءً كانت إدراكيّةً، أو حركيّةً، أو انفعاليّةً، أو أخلاقيّةً.
ويقول علماء الشريعة أن القرآن الكريم قد ذكر مسمّياتٍ عدّةٍ للنفس البشريّة، هي:
النفس الأمارة بالسوء؛ كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي﴾. وهي نفسٌ كثيرة الذنوب، آثمةٌ، ظالمةٌ لصاحبها؛ تجرّه إلى غضب الله عزَّ وجل وعصيانه، لم تخرج من فلك الشهوات والملذات حتى أنها أصبحت أسيرة تلك الشهوات تأمر الإنسان بعمل ما يوافق شهواته، وهي نفسٌ فاسقةٌ شرّيرةٌ، تدعو صاحبها لفعل السوء، وتنتهي به في نار جهنّم.
والنّفس اللوّامة؛ قال تعالى: ﴿وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ﴾، وهي النفس كثيرة اللوم، تخافُ الله وتخشى عقابه، أثنى الله عليها، وأقسم بها في كتابه الكريم، وهي نفسٌ تحاسب صاحبها وتوبّخه على كل صغيرةٍ وكبيرةٍ، وهذه النّفس متقلّبةٌ، متردّدةٌ، تأتي الذّنب، وتلوم صاحبها عليه، وتردّه إلى الصّواب، تغفل عن الذّكر والطاعة ثمّ تعود. وهي في حالة تجاذبٍ بين الهدى الهوى، تعيش حالةً وسطيةً بين النفس الأمارة بالسوء، والنفس المطمئنة؛ فتارةً تخرج من جاذبية الشهوة والهوى وتنطلق إلى الهدى والفلاح، وتارةً أخرى تضعف مقاومتها فترجع إلى دائرة الشهوات، فتراها ترجع إلى الله عزَّ وجل، وتتذكر وقوعها في أجواء الرذيلة، فتتوب إلى الله، وتندم، وتلوم صاحبها.
و(النّفس المطمئنّة)؛ قال تعالى: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ . ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً . فَادْخُلِي فِي عِبَادِي . وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾، وهي نفسٌ خيّرةٌ تأمر بالخير، وهي النّفس التي سَكنت إلى ربّها. والطمأنينة تعني أنّ الله عز وجل يُنزل الاطمئنان والسّكينة على صاحب هذه النفس، فيَغدو قلبه وسمعه وبصره كله بين يديّ الله. وهي آخر مراتب الكمال البشري التي يصل إليها الإنسان من خلال تهذيب الروح، لإخراجها من عالم النفس الأمارة بالسوء. إنها نفسٌ قد لجأت إلى الله تعالى واطمأنت إليه ورضيت عنه، فأثابها الكريم سبحانه أبلغ ثوابٍ وأجزل عطاءٍ بما تُغْبَط عليه في الدنيا والآخرة.

وعن الآية الكريمة: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾ يقول المفسرون: إن "النفس" تُطلق على الذات كلها؛ كما في قوله تعالى: ﴿أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ﴾، وقوله: ﴿وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ﴾، وتُطلق على الروح التي بها حياة الجسد كما في قوله: ﴿إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ﴾. و"المطمئنة" اسم فاعل من اطمأن، وقد فُسر الاطمئنان باليقين بوجود الله ووحدانيته، واليقين بوعد الله، وبالتبشير بدخول الجنة. والرجوع في "ارجعي" يحتمل الحقيقة والمجاز. و"راضية" هي النفس التي رضيت بما أُعطيت من كرامةٍ. و"مرضية" اسم مفعولٍ، أصله: مرضياً عنها، والمقصود من هذا الوصف زيادة الثناء مع الكناية عن الزيادة في إفاضة الإنعام؛ لأن المرضيّ عنه يزيده الراضي عنه من الهبات والعطايا فوق ما رضي به هو. و"ادخلي" بمعنى ادخلي في زمرة عبادي الصالحين. و"جنتي" فيها إضافة جنة إلى ضمير الجلالة إضافة تشريفٍ كقوله: ﴿فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ﴾. وتكرار فعل "وادخلي" لبيان الاهتمام بدخولهم ضمن العباد الصالحين ودخولهم الجنة تحقيقاً للمسرة لهم.

أما صفاتك عندما تكون من أصحاب النفوس المطمئنة فقد لخصها أهل العلم في:
الإخلاص؛ بأن تستحضر دائماً معية الله، وأن تبذل كل ما في وسعك في طاعته سبحانه وتعالى، وتعمل على اتقان العمل وإحسانه، وأن تكون حريصاً على إِسرار الأعمال، إلا على ما ينبغي إظهاره، مثل: الصلاة والدعوة والجهاد.
والمتابعة لهدي النبي عليه الصلاة والسلام؛ فتتبع النبي، حتى تطغى محبته على حبك للمال والولد والنفس؛ ويكون ذلك بشدة حرصك على معرفة سُنَّة النبي وأحواله وسيـرته، والاقتداء به.
والرضا عن الله تعالى؛ فعندما تذوق طعم الإيمان يمر عليك البلاء وأنت صابرٌ مطمئنٌ ساكنٌ هادئ.
وشدة محبة الله تعالى وتعظيمه؛ فقد صُبِغَت حياتك بصبغةٍ جميلةٍ من حسن الظن بالله تعالى، إذا ابتلاك صبرت ورضيت، وإذا أنعَمَ عليك شكرت وحمدت، تأنس بالله تعالى في الخلوة، وتتلذذ بتلاوة كلامه، وتكثر من ذِكره، وتوافقه فيما تُحب وتكره.
والصدق؛ فلن ينفعك في التعامل مع الله سوى الصدق، والصدق هو ما يجعلك تعيش مطمئناً: صدقٌ في الأقوال؛ فلا ينطق لسانك إلا صدقاً. وصدقٌ في الأحوال؛ فلا تراوغ ولا تتلوَّن. وصدقٌ في الأعمال؛ بأن تكون مُخلصاً لله تعالى مُتبعاً لهدي النبي في أعمالك. وصدقٌ مع النفس؛ فتكون بينك وبين نفسك مصالحةٌ بين ما تعتقد وما تفعل فلا تتناقض أفعالك مع معتقداتك، وأن تُحاسب نفسك حتى لا تميل مع الشهوات وتركن إليها. وصدقٌ مع الناس؛ فلا تظهر أمام الناس بوجهٍ مُختلفٍ عن الوجه الذي بينك وبين الله تعالى.
ومن صفاتك كذلك عندما تكون من أصحاب النفوس المطمئنة: التقوى، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الإحسان إلى عباد الله، الولاء والبراء، وحُسن الخُلُق.

أما الطريق إلى (‏النفس المطمئنة) فيوضحه أحد الدعاة؛ يقول: اجلس مع نفسك جلسةً هادئةً، تأمّل وفكِّر، اعطِها الوقت الكافي، لا تقل لا وقت لديَّ، راجع شريط ما مضى من حياتك، لتعرف أي نفسٍ هي نفسك، وليكن هدفك هو أن تَرتَقي بها حتى تصبح نفساً مطمئنةً، وأن تَثبت على ذلك باتباع الطرق التالية:
أن تُكثر من ذكر الله؛ قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾.
أن تُجاهد نفسك؛ في أشياء صعبةٍ عليك: صلِ الفجر مع جماعة المسلمين بالمسجد، توقّف عن التدخين، لا تقرب المال الحرام،... إلخ. ثمّ تذوق بحقٍ حلاوة انتصارك على نفسك وطموح انتقالك إلى (النفس المطمئنة).
أن تُسارع إلى التوبة وعمل الحسنات؛ قال تعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ﴾.
أن تُكثر من السجود؛ فحين طلب رَبِيعَة بْنِ كَعْبٍ الْأَسْلَمِيِّ مرافقة النبي في الجنة قال له عليه الصلاة والسلام: [فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ]. سجودٌ طويلٌ، في الصلاة المكتوبة وفي النوافل وفي قيام الليل، سجود شكرٍ وخشوعٍ ورجاء.
لو عرفت نفسك ونجحت في جعلها نفساً مطمئنةً؛ ستتذوّق سعادةً لم تعرفها من قبل. هيَّا قُم بقوّةٍ وهِمةٍ، وستنجح في حياتك، وستعيش سعيداً؛ يقول تعالى: ﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى﴾، ويقول سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا﴾، ويقول عزَّ وجل: ﴿إِنَّ الأبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ . وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ﴾، وهو ليس نعيم وجحيم الآخرة فحسب، بل ونعيم وجحيم الدنيا أيضاً.

أحبتي .. إن الإنسان إذا وصل إلى مرحلة (النفس المطمئنة) لن يكون بمعزلٍ عن الخطايا؛ لأن كل ابن آدم يعتريه النقص والخطأ. فليس معنى أنَّ النفس صارت مطمئنةً أنها لا تخطئ، هي تخطئ، لكنها سرعان ما تعود إلى رشدها؛ فالخطأ واردٌ، لكنه عارضٌ، فقد رسمت خط حياتها إلى الله وإلى الجنة. فليكن سعينا دائماً للتحلي بصفات أصحاب (النفس المطمئنة)، فننال الاطمئنان النفسي في الدنيا، والراحة الأبدية في الآخرة.
نسأل الله تعالى أن يمُنَّ علينا بهذه الصفات وأن يجعلنا من أصحاب النفوس المطمئنة.
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

https://goo.gl/ienejP