الجمعة، 24 فبراير 2017

جارنا وكلبه

الجمعة 24 فبراير 2017م

خاطرة الجمعة /٧٢
(جارنا وكلبه)

لنا جارٌ يسكن في عمارةٍ قريبةٍ من المسجد يتصادف أن أراه، ونحن في طريقنا للصلاة، ممسكاً في يده بسلسلةٍ طويلةٍ تنتهي بطوقٍ يلتف حول عنقِ كلبٍ أبيضٍ صغير. يسحبُ الكلبُ جارنا سحباً ويشده إلى موضعٍ محددٍ تحت شجرة، عنده يقف الكلب ليقضي حاجته. يتمشى به جارنا بعدها قليلاً قبل أن يعود إلى مسكنه في تلك العمارة.
تصادف أن تكرر هذا المشهد أمامي مرتين في يومٍ واحدٍ وقت الأذان للصلاة! ففكرت في الأمر:
أعلم أن جارنا هذا مسلم، لا أراه ينزل للصلاة في المسجد، إلا لصلاة الجمعة، فأتعجب أينزل لقضاء حاجة الكلب ولا ينزل لسماع الأذان فيصلي مع الجماعة، والمسجد على بعد خطوات؟!
أراه يمشي مزهواً مع كلبه في طريقه لقضاء حاجته، فإذا مشى إلى المسجد لصلاة الجمعة من كل أسبوع مشى عبوساً، وربما اشتكى بعد انتهاء الصلاة من طول الخطبة!
لا أعلم شيئاً عن ظروفه المادية، لكن هل يمتلك جارنا هذا فائضاً مالياً لا يعرف فيما ينفقه فيخصصه للصرف على كلب؟ إني أعجب له؛ يشتري كلباً، ويخصص له جزءاً من مسكنه، ويأتي له بطعامٍ خاص، ويحافظ على نظافته ونظافة مرقده، ويوفر له احتياجاته، كل هذا يكلف مالاً، وجارنا نفسه وأسرته أولى بهذا المال! بل وربما لهذا الجار أقارب أولى بهذا المال من الكلب!
كلما مر أمام ناظري مشهد (جارنا وكلبه)، كلما جاهدت نفسي حتى لا أفكر في الأمر، أقول في نفسي: "دعك يا نفسي منه، لا تنشغلي بأمره إلى هذا الحد واهتمي بأمرك"، وأقول لنفسي:
لو نظرَ الناسُ إلى عيبهم  **  ما عابَ إنسانٌ على الناسِ
ومع ذلك أجد نفسي وقد انشغلت بذات المشهد مرة أخرى: ألا ينزعج جارنا من نُباح كلبه، خاصةً في الليل وقت أن يحتاج الفرد منا إلى الهدوء التام حتى يستطيع أن ينام؟ ألم يفكر في جيرانه، وكم منهم يزعجه ذلك النُباح فيدعو على الكلب وعلى صاحبه؟! ثم، ماذا يفعل بالكلب إذا مرض؟ وهل يوجد أطباء بيطريون قريبون منا؟ أم توجد مستشفى متخصص لعلاج الكلاب؟ وكم يتكلف علاج الكلب ودواؤه يا تُرى؟ ثم، ماذا يفعل جارنا هذا وأسرته إذا أرادوا الخروج من المنزل لنزهةٍ أو للتسوق أو لسفرٍ لعدة أيام؟ هل يتركون الكلب وحده أم يضطرون لأن يبقى أحدهم معه؟ أم يعيرونه لقريب أو صديق؟ ثم، وثم، وثم، ... مرة أخرى ألزم نفسي إلزاماً بالكف عن التفكير في أمرٍ لا يخصني، ليس لي فيه ناقةٌ ولا جمل! وأعود فأقول لنفسي: "يا نفسي: دعي الخلق للخالق، وكم من عيوبٍ فيكِ عليك أن تهتمي بإصلاحها قبل أن تنظري إلى عيوب الآخرين"، وأُذَكْرُها بقول الإمام الشافعي:
وعيناك إن أبدت إليك معايباً  **   فدعها وقلْ يا عينُ للناسِ أعينُ
ورغم ذلك تراني ما زلت أفكر في الموضوع: ربما ظن جارنا أن ما يفعله مع كلبه هو نوعٌ من الإحسان إليه؟! ألم يفكر في أنه لو ترك الخيار للكلب لرأى الكلب أن أفضل إحسانٍ إليه هو تركه يعيش حياته العادية التي خلقه الله لها، فما فائدة كل هذا الاهتمام والنعيم الذي يعيش فيه وهو محرومٌ من كلبةٍ تؤانسه وتشاركه حياته وجراء صغيرةٍ يرعونها؟!

ماذا أفعل؟ كيف أكف عن التفكير والنفس أمارةٌ بالسوء؟ والسوء في حالة (جارنا وكلبه) أن تفكر نفسي في كل هذه التفاصيل فأحسُ كما لو كنت أغتاب جارنا، ليس مع شخصٍ آخر وإنما أغتابه مع نفسي! أصارحكم القول: ما ألجمني، وجعل نفسي ترتدع عن الاستمرار في التفكير في موضوع (جارنا وكلبه) هو تذكري لحديث النبي عليه الصلاة والسلام الذي يقول فيه: [من حُسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه].

الغريب أنني اكتشفت أخيراً أني لم أكن وحدي في الانشغال بهذا الموضوع، حين سألني صديق من رواد المسجد، بعد أن رأى ذلك المشهد، عن حكم الإسلام في اقتناء الكلاب، وهل يمكن الصلاة في بيت به كلب؟ فوجئت بالسؤال ولم تكن لدي إجابة حاضرة له، ولا أحب بطبعي أن أفتي في أمرٍ بغير علم، فاكتفيت وقتها بالقول: "دعني أبحث لك عن هذا الأمر، ثم أخبرك بما أصل إليه"، شكرني وانصرف.

أحبتي في الله .. يقول أهل العلم أن الإحسان إلى الحيوان مطلوبٌ شرعاً؛ يقول النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: [فِي كُلّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْر]، ففي الْحديث الحث على الإحسان إلى الْحيوان. إن مفهوم الرفق بالحيوان بالنسبة للمسلم يجب أن يكون نابعاً من دين الله تعالى، فهو إحسانٌ وفق ضوابطَ شرعيةٍ وليس كما يهوى الإنسان، والكلب كحيوانٍ يُرفق به في حدود الضوابط الشرعية، ولا يعني هذا أن يصبح فرداً من أفراد العائلة، كما يفعل السفهاء في غير البلاد الإسلامية، فالذي أمر بالرفق هو الذي أخبر أن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب، بل هو الذي أخبر أن من اتخذ كلباً من غير ما يرخص فيه الشرع فهو ينقص من أجره؛ فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: [لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَلَا صُورَةُ تَمَاثِيلَ]. قال العلماء: هؤلاء الملائكة الَّذِين لا يدخلون بيتًا فيه كلب أو صورة فهم ملائكة يطوفون بالرحمة والتبريك والاستغفار، وأما الحفظة فيدخلون في كل بيت، ولا يفارقون بني آدم في كل حال، لأنهم مأمورون بإحصاء أعمالهم، وكتابتها. رجح بعض العلماء أن عدم دخول الملائكة عامٌ في كل بيتٍ فيه كلب ولو كان مباحاً اتخاذه. وذهب بعض العلماء إلى أنها لا تدخل بيتاً فيه كلب يحرم اقتناؤه فقط، وهذا ما رجحته اللجنة الدائمة للإفتاء بالسعودية بقولها: من اقتنى كلباً لصيدٍ أو حراسةٍ كان ذلك جائزاً له، فلا يمنع الملائكة من دخول البيت.
وفي صحيح البخاري عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [مَنْ اقْتَنَى كَلْبًا لَيْسَ بِكَلْبِ مَاشِيَةٍ أَوْ ضَارِيَةٍ نَقَصَ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ عَمَلِهِ قِيرَاطَانِ]، كلبُ ضاريةٍ هو كلبُ الصيد. وفي صحيح مسلم عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [مَنْ اتَّخَذَ كَلْبًا إِلَّا كَلْبَ زَرْعٍ أَوْ غَنَمٍ أَوْ صَيْدٍ يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطٌ]. والقيراط هنا هو مقدارٌ معلومٌ عند الله تعالى، والمراد نقص جزءٍ من أجر العمل، وكفى بنقص أجر العمل عقوبةً للمسلم. وللجمع بين رواية نقص قيراطٍ ورواية نقص قيراطين؛ يقول العلماء: ينقص من أجره قيراطان إذا كان الكلب أشد أذىً، وينقص قيراط إذا كان دون ذلك. وقال بعضهم: أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أولاً بأنه ينقص قيراط، ثم زاد بعد ذلك العقوبة فأخبر بنقص قيراطين زيادةً في التنفير من اقتناء الكلب.
السؤال الآن: هل يجوز اقتناء الكلب لحراسة البيوت؟ الجواب: لم يستثنِ النبي صلى الله عليه وسلم من تحريم اقتناء الكلب إلا ثلاثة فقط، وهي: كلب الصيد، وحراسة الماشية، وحراسة الزرع. فذهب بعض العلماء إلى أنه لا يجوز اقتناء الكلب لسبب غير هذه الأسباب الثلاثة، وذهب آخرون إلى أنه يجوز أن يُقاس على هذه الثلاثة ما كان مثلها أو أولى؛ فيكون من الصحيح أنه يجوز اقتناء الكلاب لحفظ البيوت، فإذا جاز اقتناء الكلب لتحصيل منفعة كالصيد، فاقتناؤه لدفع مضرةٍ وحفظ النفس من باب أولى.
أما الصلاة في البيت الذي يُربى فيه كلبٌ فصحيحةٌ إن شاء الله تعالى إذا لم يمس بدن المصلي أو ثوبه أو مكان صلاته شيءٌ من لعاب الكلب أو بوله أو عذرته أو عرقه، فإن لمسه شيءٌ من ذلك وصلى به وهو يعلم فإن صلاته باطلةٌ تجب إعادتها.

نقلت ما عرفت إلى صديقي السائل، لكن ما أخذنا نفكر فيه، كيف ننقل ما علمناه حول هذا الأمر لجارنا صاحب الكلب؟ ربما لا يعلم الرجل حُرمة ما يفعل، وكما قال نبينا الكريم عليه الصلاة والسلام: [لا يؤمن أحدكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحبَّ لنفسه]؛ فقد استقر رأينا على أن نطلب من إمام المسجد أن يتحدث عن رأي الإسلام في اقتناء الكلاب في خطبة الجمعة القادمة، التي يحرص جارنا على الاستماع إليها، فوعدنا الإمام بأن يشير إلى ذلك بإيجاز في نهاية الخطبة الثانية.

أحبتي .. إذا كنتم ممن يقتنون الكلاب لغير ما أجازه الشرع فقد أصبح الأمر واضحاً تماماً بغير لبس، انتهوا عن هذا يرحمكم الله؛ فالمؤمن وقافٌ عند حدود الله ملتزمٌ بشرعه لا يتجاوزه؛ امتثالاً لقول الله تعالى: ﴿مَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾، وقوله سبحانه: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً﴾، وسيبدلكم الله سبحانه وتعالى خيراً مما تركتموه تسليماً بما أمر به شرعه الحكيم.
أما الذين يقتنون الكلاب لغير حاجةٍ شرعيةٍ ويمارون ويجادلون فأخشى أن يكون أولئك ممن أُشربوا في قلوبهم الكلب، الذين ذم الله أمثالهم ممن أُشربوا في قلوبهم العجل فقال عنهم: ﴿قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ﴾، ثم ختم الآية بقوله: ﴿بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ﴾. أو أنهم عرفوا الحق وابتعدوا عنه ظلماً لأنفسهم وعلواً وكبراً وغروراً، وهؤلاء وصفتهم الآية الكريمة: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا﴾. ندعو لأنفسنا ولأولئك ولهؤلاء بالهداية.
اللهم لا تجعلنا من العاصين، ولا تجعلنا من الجاحدين الظالمين، ويَسِّر لنا السير على صراطك المستقيم، والالتزام بسنة نبيك الكريم.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.

تقبل الله منا ومنكم.


https://goo.gl/aepnbn