الجمعة، 10 سبتمبر 2021

الشكوى إلى الله

 

خاطرة الجمعة /308


الجمعة 10 سبتمبر 2021م

(الشكوى إلى الله)

 

يُحكى أنه كانت هناك فتاةٌ يتيمةٌ ليس لها أحدٌ في الدنيا بعد الله تعالى سوى أمها. تزوجها ابن عمها، وكان ظالماً لها، شديد الظلم والجبروت؛ فقد كان يُسيء معاملتها هو وجميع أهله، وجعلوها كخادمةٍ تعمل ليل نهار، ومع هذا لم تكن تسلم من الأذية بالسب والشتم والضرب في كثيرٍ من الأحيان. وكانت هذه الفتاة كلما ضاقت بها الدنيا تلجأ لأدفأ مكانٍ وهو حضن أمها، وتشكو لها كل ما يحصل لها، ثم تبكيان سوياً، ثم تعود إلى زوجها. والأم ضعيفةٌ مقعدةٌ لا حول لها ولا قوة، لا تقدر سوى على أن تُشارك ابنتها ألمها بالبكاء معها. ظل الأمر عشر سنين، وكل يومٍ يسوء الوضع، حتى اقترب الأجل وحان وقت رحيل الأم إلي بارئها؛ فبكت البنت وانهارت وأمها في سكرات الموت قالت لها: "أمي، لمن أشكو بعد رحيلك؟ لمن أحكي مأساتي؟ أمي، لا تتركيني وحيدة"، فقالت لها الأم: "ابنتي، إن متُ وضاقت بك السُبل تعالي إلى هنا، إلى بيت أمك، افرشي سجادتك واسجدي لله واحكِ له كل ما يُعكر صفوك واشكِ له همك وبثي إليه حزنك". ماتت الأم، ومر أسبوعٌ وضاقت الدنيا على البنت فأخذت سجادتها وجرةً بها ماءٌ للوضوء، وذهبت إلى بيت أمها، وعملت بنصيحة أمها فأحست براحةٍ شديدةٍ، واستمر الأمر هكذا لمدة شهرٍ؛ كل أسبوعٍ تأخذ سجادة الصلاة وجرة الماء وتذهب إلى بيت أمها تمكث ساعاتٍ ثم تعود وهي مبتسمة. عندما لاحظ أهل زوجها ذلك أدخلوا الشيطان بينها وبين زوجها؛ فقالوا له: "من المؤكد أن زوجتك تخونك؛ فهي تذهب كل أسبوعٍ إلى بيت أمها ومعها جرة الماء وهي متكدرةٌ ثم تعود بعد ساعاتٍ وجرة الماء فارغةٌ وهي سعيدةٌ مبتسمة"؛ فقرر الزوج أن يُراقب زوجته، وذهب قبل الموعد إلى بيت أمها، واختبأ في مكانٍ هو يراها وهي لا تراه، وذهبت الزوجة كالعادة، وكان قد مرّ على وفاة أمها شهرٌ، فتوضأت ثم صلت ثم -وهي ساجدة- انفجرت باكيةً، وأخبرت ربها بكل همٍ يؤلم قلبها، وبما يفعل بها أهل زوجها، وتدعو لزوجها بالهداية، وتتوسل إلى الله أن يُصلح لها زوجها لأنها تُحبه رغم كل شيءٍ. وظلت تبكي وتبكي، وهو يسمع ويبكي معها متأثراً بما يرى ويسمع، ثم أنهت صلاتها، وإذا بها ترى زوجها يبكي ويحتضنها ويعتذر لها ويعدها أن يُعوضها عما فات، ويبشرها بأن الله استجاب لدعائها. في تلك الليلة لم يعودا إلى بيت أهله، وناما في بيت أمها، وإذا بهاتفٍ -وهي نائمة- يقول لها: "عشر سنواتٍ تشكين لأمك، وما نفعك شيءٌ، وشهرٌ واحدٌ فقط تشكين لله -سبحانه وتعالى- فغيَّر حالك من حالٍ إلى حالٍ".

 

أحبتي في الله .. كلنا نعلم قول الله تبارك وتعالى في الآية الكريمة: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾، لكن البعض منا فقط هو من يعلم خصوصية هذه الآية؛ فقد اشتمل القرآن الكريم على أربعة عشر سؤالاً، كلها تبدأ بـ﴿يَسْألُونَكَ﴾ أو ﴿وَيَسْألُونَكَ﴾ ثم يأتي الجواب بـ﴿قُلْ﴾ أو ﴿فَقُلْ﴾، إلا هذه الآية، فإنها بدأت بالجملة الشرطية: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي﴾، وجاء جواب الشرط من دون الفعل قل أو فقل، بل يقول سبحانه: ﴿فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾، فكأن هذا الفاصل -﴿قُلْ﴾ أو ﴿فَقُلْ﴾- مع قصره، كأنه يُطيل المسافة أو الوقت بين الداعي وربه، أو بين الدعاء والإجابة؛ فجاء الجواب بدون واسطة: ﴿فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾ تنبيهاً على شدة قُرب العبد من ربه في مقام الدعاء، وهذه خصوصية (الشكوى إلى الله).

 

و(الشكوى إلى الله) هي من الدعاء الذي هو عبادةٌ من أعظم العبادات، وكانت دأب الأنبياء والرسل كلما حزبهم أمرٌ أو اشتد بهم إيذاء قومهم؛ فهذا النبي صلى الله عليه وسلم يشكو إلى الله حاله فقد رُوي عنه قوله: [اللّهُمّ إلَيْك أَشْكُو ضَعْفَ قُوّتِي، وَقِلّةَ حِيلَتِي، وَهَوَانِي عَلَى النّاسِ، يَا أَرْحَمَ الرّاحِمِينَ! أَنْتَ رَبُّ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَأَنْتَ رَبّي، إلَى مَنْ تَكِلُنِي؟ إلَى بَعِيدٍ يَتَجَهّمُنِي؟ أَمْ إلَى عَدُوّ مَلّكْتَهُ أَمْرِي؟ إنْ لَمْ يَكُنْ بِكَ عَلَيّ غَضَبٌ فَلَا أُبَالِي، وَلَكِنّ عَافِيَتَك هِيَ أَوْسَعُ لِي، أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظّلُمَاتُ وَصَلُحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْ أَنْ تُنْزِلَ بِي غَضَبَكَ، أَوْ يَحِلّ عَلَيّ سَخَطُكَ، لَكَ الْعُتْبَى حَتّى تَرْضَى، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوّةَ إلّا بِك].

وهذا آدم -عليه السلام- وزوجته يقولان: ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾.

وهذا موسى - عليه السلام- يقول: ﴿رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي﴾، ويقول: ﴿رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾.

وهذا يونس - عليه السلام- يقول: ﴿لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾.

وهذا نوح -عليه السلام- يقول: ﴿رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ﴾، ويقول: ﴿رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا . إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا﴾.

وهذا يعقوب -عليه السلام- يقول: ﴿إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ﴾.

وهذا داود -عليه السلام- يقول: ﴿رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾.

وهذا زكريا - عليه السلام- يقول: ﴿رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا . وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا . يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا﴾.

وهذا أيوب -عليه السلام- يقول: ﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾.

 

يقول العلماء إن الشكوى إلى المخلوقين شكوى عاجزٍ إلى عاجزين مثله، قد أرهقتهم همومهم وأعيتهم، فكان لهم منها شغلٌ عن سماع هموم الآخرين، وما تزال منزلة الشاكي عندهم في ضَعَةٍ ومهانةٍ، كذلك فإن مجلسه عندهم ثقيلٌ، وحديثه معهم مكروهٌ. أما (الشكوى إلى الله) وبثُّ الهمِّ له فهي على عكس ذلك؛ ففيها توحيدٌ خالص ٌحوى اليقين بأن الأمر كله لله، وأنه وحده القادر على كشف الضُر وتبديل الحال، وأنه السميع القريب المجيب، وأن من عداه عاجزٌ لا يملك من أمر نفسه شيئاً. و(الشكوى إلى الله) سبحانه فيها ضراعةٌ، وذلٌ، وانكسارٌ، وهي من قبيل الصبر الجميل؛ فهي من مجامع التوكل عليه، وحُسن الظن به، وتوقع الخير منه؛ فهي من أسباب رفع مكانة العبد إلى أرفع المقامات.

والشكوى إليه سبحانه لا تُنافي الصبر الجميل، والله تعالى يبتلي عبده؛ ليسمع شكواه وتضرعه ودعاءه، وقد ذمَّ سبحانه من لم يتضرع إليه ولم يستكن له وقت البلاء؛ يقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ﴾، ويقول تعالى: ﴿فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ﴾.

 

قال الشاعر:

لَبِسْتُ ثَوْبَ الرَّجا وَالناسُ قَدْ رَقَدوا

وَقُمْتُّ أَشْكو إِلَى مَوْلاي ما أَجِـدُ

وَقُلتُ يا أَمَلـي فـي كُـلِّ نائِبـةٍ

وَمَنْ عَلَيْهِ لِكَشْفِ الضُّـرِّ أَعْتَمِدُ

أَشْكو إِلَيْكَ أُمـوراً أَنْـتَ تَعْلَمُهـا

ما لي عَلى حَمْلِها صَبْرٌ وَلا جَلَـدُ

وقد مَدَدْتُ يدِي بالذُّلِّ مُبتهـلاً

إِلَيْكَ يا خَيْرَ مَنْ مُـدَّتْ إِلَيْـهِ يَـدُ

فَـلا تـرُدَّنَهـــا يـــا رَبِّ خـائِـبَــةً

فَبَحْرُ جُودِكَ يَرْوي كُلَ مَـنْ يَـرِدُ

 

ويجوز للمسلم أن يشتكي لغير الله؛ إذ أن في الشكوى تخفيفاً وتسليةً، شرط ألا تكون الشكوى على سبيل الـتَّسَخُّط وعدم الرضا، وإن كانت (الشكوى إلى الله) وحده أوجب؛ قال الشاعر:

ولا بُدّ مِن شَكوى لِذي مُروءةٍ

يُواسِيكَ أو يُسليكَ أو يتوجّعُ

فالمشروع للعبد أن يجعل شكواه إلى الله وحده، ولا بأس بالشكوى إلى المخلوق إن كانت لغرضٍ صحيحٍ كالاستعانة به على زوال الضرر، وأما الشكوى للمخلوق دون حاجةٍ فهي مكروهةٌ، وقد تصل إلى التحريم إن اقترن بها تسخطٌ من قدر الله.

 

وإن كان أكثر ما يشتكي منه الخلق: الغَمّ، والضُر، والخوف، ومكر الناس؛ فرحم الله من قال: عجبتُ لأربعٍ يغفلون عن أربعٍ: عجبتُ لمن ابتُلي بِغَمٍّ، كيف يغفل عن قول: ﴿لا إلهَ إلاّ أنتَ سُبْحَانَكَ إني كُنْتُ مِنَ الظَالِمِين﴾، والله يقول بعدها: ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ ۚ  وَكَذَٰلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾. وعجبتُ لمن ابتُلى بِضُرٍّ، كيف يغفل عن قول: ﴿ربِّ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾، والله يقول بعدها: ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ ۖ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَىٰ لِلْعَابِدِينَ﴾. وعجبتُ لمن ابتُلى بِخَوفٍ، كيف يغفل عن قول: ﴿حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾، والله يقول بعدها: ﴿فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ﴾. وعجبتُ لمن ابتُلى بمكرِ الناس، كيف يغفل عن قول: ﴿وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾، والله يقول بعدها: (فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا﴾.

 

أحبتي .. يقول تعالى: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾، وقال عليه الصلاة والسلام: [مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ، وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ، إِلاَّ أَعْطَاهُ اللهُ بِهَا إِحْدَى ثَلاثٍ: إِمَّا أَنْ تُعَجَّلَ لَهُ دَعْوَتُهُ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الآخِرَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا]. قَالُوا: إِذًا نُكْثِرُ، قَالَ: [اللهُ أَكْثَرُ].

فلتكن شكاوانا لله وحده سبحانه، لا لمخلوقٍ غيره، كائناً من كان، إلا لحاجةٍ؛ فالشكوى إلى الناس -كما يُقال- لا تزيد المُصاب إلا شدةً وجزعاً، كالعطشان الذي يشرب ماء البحر فأنّى يُروى!

 

https://bit.ly/3A4HJr2