الجمعة، 24 مارس 2017

وصفة للتميز

الجمعة 24 مارس 2017م

خاطرة الجمعة /٧٦
(وصفة للتميز)

كنت قبل عدة شهور أقوم بتجميع مادةٍ لكتابٍ اعتزمنا، أنا وأخٌ عزيزٌ زميل مهنةٍ وصديق عمرٍ، إصداره عن موضوع التفوق الدراسي وكيف يمكن تحقيقه. اطلعت على عددٍ من الكتب والمراجع، وراجعت بعض البحوث التي نُشرت حول هذا الموضوع، واستفدت من الكثير من المناقشات التي دارت حوله في مواقع التواصل الاجتماعي، وبقي لي أن أسمع بشكلٍ مباشرٍ من بعض من تفوقوا دراسياً وأحرزوا مراتب متقدمةً عن أقرانهم عن أهم النصائح التي يمكن أن يقدموها لطلاب اليوم للأخذ بيدهم لإدراك النجاح والتفوق وتحقيق التميز، فقمت بإجراء بعض المقابلات الشخصية المقننة لعددٍ ممن أعلم شخصياً أنهم كانوا من الأوائل طوال فترة دراستهم، وخرجت من هذه المقابلات بعدة نصائح عمليةٍ مفيدةٍ تصلح أن تكون (وصفة للتميز) في أي مادة من المواد الدراسية المقررة، كانت أهم تلك النصائح:
المذاكرة اليومية، وليس قبل الامتحانات فقط، المراجعة كل فترة زمنية معينة لما قاموا بمذاكرته، التركيز أثناء المذاكرة، الجمع بين الاستذكار الجماعي والاستذكار الفردي، شرح المادة للآخرين من الطلاب، التقويم الذاتي قبل التقويم الرسمي، العلاقة الطيبة مع الأستاذ مدرس المادة، قراءة الكتاب الخاص به من أول كلمة في المقدمة إلى آخر كلمة فيه، حفظ الكتاب إن استطعت، أداء جميع التكليفات التي يطلبها أستاذ المادة في وقتها وبشكل متميز، الاهتمام بالمشاركة الشفوية في محاضرات الأستاذ. وكذلك الحرص على وجود علاقة شخصية متميزة مع الأستاذ في حدود علاقة الطالب بأستاذه، كالظهور أمام الأستاذ دائماً في أحسن مظهر، واحترامه والاستماع لتوجيهاته، والتأدب في التعامل معه.
وقد أكد هؤلاء المتميزون المتفوقون أنه قد ثبتت فعالية هذه النصائح واعتبروها بالفعل (وصفة للتميز)؛ اتبعوها فنجحوا وتفوقوا وصار بعضهم أساتذة جامعة مرموقين يُشار إليهم بالبنان.

أحبتي في الله .. لم يكن لنا نصيبٌ في استكمال مشروع الكتاب لأسبابٍ فنية، لكن بقي لي ما بذلته من جهد، استفدت من كل كلمةٍ قرأتها، وكل مرجعٍ اطلعت عليه، وكل دراسةٍ تابعت نتائجها. وما استفدته من المقابلات الشخصية مع الناجحين والمتفوقين كان أعظم. تأملت كثيراً فيما اعتبروه (وصفة للتميز) فإذا بفكري يذهب بعيداً، وإذا بقلبي يوافق فكري، وإذا بروحي تساير كلاً من فكري وقلبي فيما ذهبا إليه! ففي لحظة انكشافٍ روحانيةٍ لمعت الفكرة بخاطري في شكل سؤال: إذا كانت هذه (وصفة للتميز) وتحقيق النجاح في الحياة الدنيا فهل تصلح لضمان الفلاح والقبول لأعمالنا التي نعملها نبتغي بها وجه الله ولتكون رصيداً لنا في الحياة الآخرة؟!
ويا للعجب؛ فإن ما وجدته من تشابهٍ يصل إلى حد التطابق!

المذاكرة اليومية تقابل الاهتمام بالعبادات اليومية كالصلاة المفروضة على وقتها وصلاة الضحى وقيام الليل؛ يقول سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾. ليس قبل الامتحانات فقط تقابل ليس في مواسم الطاعات فقط كالصلاة أيام الجمع أو في شهر رمضان فقط. المراجعة كل فترة زمنية معينة لما قاموا بمذاكرته تقابل جبر كل تقصير في العبادات بالنوافل من صومٍ وصلاةٍ؛ يقول الله تعالى في الحديث القدسي: [ما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته، كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه]، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: [إن أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة من عمله صلاته، فإن صلحت فقد أفلح ونجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر، فإن انتقص من فريضته شيءٌ قال الرب عز وجل: انظروا هل لعبدي من تطوعٍ فيكمل بها ما انتقص من الفريضة، ثم يكون سائر عمله على ذلك]. التركيز أثناء المذاكرة، تقابل الخشوع في الصلاة والانتباه لروح العبادة والهدف منها؛ قال تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾. الجمع بين الاستذكار الجماعي والاستذكار الفردي، تقابل الجمع بين الصلاة مع الجماعة والصيام مع الجماعة والحج مع الجماعة والعبادات الفردية من صلاةٍ وصومِ تطوعٍ وعُمرة. شرح المادة للآخرين من الطلاب، تقابل القيام بواجب الدعوة والبلاغ للآخرين؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [بلغوا عني ولو آية... ]. التقويم الذاتي قبل التقويم الرسمي، يقابل محاسبة النفس والشدة عليها وتدارك أي تقصيرٍ وحملها على وجوه الخير مهما كانت محفوفةً بالمكاره؛ يقول جل وعلا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: {حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، فإن أهون عليكم في الحساب غداً أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وتزينوا للعرض الأكبر، يومئذٍ تعرضون لا تخفى منكم خافية}. العلاقة الطيبة مع أستاذ المادة، يقابله علاقة الإنسان المسلم بربه سبحانه وتعالى ثم علاقته بنبيه الكريم عليه الصلاة والسلام؛ قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ﴾، وقال سبحانه: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾. قراءة الكتاب الخاص به من أول كلمة في المقدمة إلى آخر كلمة فيه، يقابلها الحرص على تلاوة القرآن الكريم؛ قال رسول صلى الله عليه وسلم: [اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه]. حفظ الكتاب إن استطعت، في مقابل حفظ القرآن الكريم أو ما تيسر منه؛ قال عليه الصلاة والسلام: [مثل الذي يقرأ القرآن وهو حافظ له مع السفرة الكرام البررة]. أداء جميع التكليفات التي يطلبها أستاذ المادة في وقتها وبشكل متميز، يقابلها أداء جميع العبادات التي أمرنا الله بها على أكمل وجه في الصلاة والصوم والحج والزكاة في أوقاتها المحددة ثم التميز بالنوافل وأعمال الخير والبر؛ ومن ذلك قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ [أفضل الصّلاة بعد الفريضة صلاة اللّيل]. الاهتمام بالمشاركة الشفوية في محاضرات الأستاذ، ويقابله الحرص على التواصل مع الله سبحانه وتعالى بالذكر والدعاء؛ يقول عز وجل: ﴿... وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾، وقال تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾. وكذلك الحرص على وجود علاقة شخصية متميزة مع الأستاذ في حدود علاقة الطالب بأستاذه، يقابلها التسليم بالقضاء والقدر والإيمان بالغيبيات؛ قال الله تعالى عن نفسه: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ﴾، وقال الله جل وعلا: ﴿أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ﴾. الظهور أمام الأستاذ دائماً في أحسن مظهر، يقابلها أخذ زينتنا عند كل مسجد والاهتمام بالطهارة والنظافة بشكل مستمر؛ قال المولى: ﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ*قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾. واحترام الأستاذ والاستماع لتوجيهاته، يقابلها التسليم المطلق لله عز وجل نلتزم أوامره ونبتعد عما نهانا عنه؛ يقول سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ﴾، ويقول عز وجل: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾. والتأدب في التعامل مع الأستاذ، يقابله الذل لله والعبودية له وحمده وشكره على جميع نعمه وأفضاله؛ يقول سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾، ويقول: ﴿وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ ، ويقول: ﴿إنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ*وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾، ويقول: ﴿إنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ﴾.

أحبتي .. مر على خاطري هذا المثال، ولله المثل الأعلى، أفلا ترون معي أن ما اعتبره المتميزون (وصفة للتميز) في الحياة الدنيا يمكن اعتمادها (وصفة للتميز) تنفعنا ونحن نعد زادنا للحياة الآخرة؟
وإذا كان الأمر كذلك، فأيهما أهم؟ لو قارنا بين الدارين: الدنيا والآخرة، فلن نجد وجهاً للمقارنة إلا كمن يقارن بين: فانٍ وخالد، بين: مؤقتٍ ودائم، بين: قليلٍ وكثير، بين: رخيصٍ وغالٍ، بين: زائفٍ وحقيقي، بين: مظهرٍ وجوهر.
ليست هذه دعوةً لترك الدنيا، فنحن مأمورون بالعمل والتميز والتفوق والإجادة لكلا الدارين، وإنما هي دعوةٌ لجعل الدنيا مزرعةً للآخرة، نلقي بذور الخير الآن لنحصد في الدار الآخرة كل ما نتمنى من نعيم: جنةٍ عرضها كعرض السموات والأرض، ورؤية وجه الله سبحانه وتعالى، ومصاحبة الرسول الكريم، ومرافقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.
يقول أحد الصالحين: "الدنيا {منزل بالإيجار} مهما ظننت أنك تملكها فأنت واهم، ومهما فَعلت فيها فإنّك ستتركها يوماً ما .. والآخِرة {منزل تمليك} بيدك الآن بناؤه فلتُحسن البناء .. ستمكثون تحت الأرض زمناً لا يعلم مداه إلا الله، لن تتمكنوا فيه من أي عمل تنتفعون به ولو تسبيحة، فخُذوا من حياتكم لموتكم .. هناك أناسٌ بسطاء يعيشون معنا على الأرض، لا مال، ولا جاه، ولا منصب في هذه الدنيا الفانية، ولكن .. أملاكهم في السماء عظيمة، قصورهم تُبنى وبساتينهم تُزرع، فأكثروا من خبايا العمل الصالح".

أحبتي .. عليكم بهذه الوصفة، فهي (وصفة للتميز) في الدارين: الدنيا والآخرة. التزموا بها، وأوصوا بها أزواجكم وأبناءكم وأهليكم وكل من تحبون. جمعنا الله وإياكم في جنات النعيم.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرة جديدة، إن أذن الله وأمد في أعمارنا.

تقبل الله منا ومنكم.


http://goo.gl/CWB388