الجمعة، 5 مارس 2021

عقوق الأبناء

 

خاطرة الجمعة /281


الجمعة 5 مارس 2021م

(عقوق الأبناء)

 

قصةٌ واقعيةٌ حدثت في زمن كورونا، كتب يقول: بعد نحو ستين سنةٍ من التعب والعمل، أمتلك الآن أربعة محلاتٍ في السوق، أعمل في واحدٍ منها، أما الثلاثة الأخرى المتبقية فهي مؤجرةٌ، بالإضافة إلى شقةٍ سكنيةٍ أعيش فيها مع زوجتي، عندي ولدان وابنتان منحتهم كل الحقوق المادية، وزوجتهم، وهم يعيشون في بيوتهم المستقلة، ولدي أحفاد كالورود، نعيش حياتنا بهدوءٍ دون أي منغصات. بعد كورونا طلبت مني زوجتي إغلاق المحل حتى لا أصاب بالعدوى لكنني أصررتُ على العمل؛ عندها قامت زوجتي بدعوة الأولاد جميعاً مع عوائلهم، وصنعت لهم وليمةً كبيرةً لأجل أن يقنعوني بترك العمل، ولم أكن أعلم بالأمر. أنهيتُ عملي مساءً وعدتُ إلى منزلي، رأيتُ المائدة مليئة بالطعام والفاكهة، ورأيتُ زوجتي مغمومةً حزينةً، وحين سألتها عن السبب أخبرتني بالأمر، وكيف أن جميع الأولاد اعتذروا عن الحضور بحججٍ واهيةٍ، والحقيقة أنهم خافوا على أنفسهم من أن يُصابوا بكورونا. اتخذتُ قراراً بترك العمل، وبعد عدة أيام أرادت زوجتي أن تختبر بر أبنائنا بنا ومدى حرصهم علينا؛ فاتصلتْ بالأولاد وزعمتْ لهم إنني مصابٌ بكورونا، فأخذوا يتصلون هاتفياً يسألون عن حالتي، فتخبرهم زوجتي أنها تسوء يوماً بعد يومٍ، حتى أخبرتهم فيما بعد بنقلي إلى المستشفى، وكانت تطلب منهم الذهاب إلى المستشفى لرؤيتي والاطمئنان عليّ، لكنهم كانوا يعتذرون بأنهم يخافون من التعرض للإصابة. بعد عدة أيامٍ أخبرتهم زوجتي بأنني تُوفيت، وأن الدولة تولت دفني، وأنها محجورةٌ في منزلها، فلم يزرها أحدٌ منهم! وبعد أربعة عشر يوماً أخبرتهم أنها تأكدت أنها سليمةٌ وليست مصابةً؛ فقرر الأبناء أن يأتوا مع عوائلهم لزيارة والدتهم بعد وفاتي الكاذبة، فجاؤوا يبكون، ويرتدون ثياب الحزن، جلسوا مع والدتهم -وأنا حاجزٌ نفسي في إحدى الغرف أستمع إليهم- بعد أن قرأوا الفاتحة على المرحوم، الذي هو أنا! سمعتهم يطلبون من أمهم التوقيع على أوراق كانوا قد أعدوها أثناء فترة حجرها لتقسيم التركة وتوزيع الإرث فيما بينهم، ولم يتركوا لأمهم سوى الشقة التي تقيم فيها! ظلت أمهم تتوسل إليهم أن ينتظروا حتى الأربعين لكنهم رفضوا ذلك، ولم يستمعوا لها. وحين أتموا كل شيءٍ وانتهوا من توزيع التركة، خرجتُ عليهم من مخبئي، وفعلتُ بهم ما فعلت وطردتهم، وانتبهتُ لنفسي أني لم أكن أربي ذريةً من أربعة أبناءٍ، إنما كنتُ أربي أربعة ڤيروسات كورونا كبيرة! حينها صممتُ أن أبيع أملاكي جميعها، وأهدي ثمنها لمعالجة مرضى كورونا، وأنتقل أنا وزوجتي إلى قريةٍ صغيرةٍ، نسكن فيها بقية العمر، ونشتري عدداً من الأغنام نربيها ونتعب عليها، ونعيش معها؛ فهي بالتأكيد ستكون أفضل لنا من هؤلاء الأبناء!

 

أحبتي في الله .. هذه قصةٌ واقعيةٌ مؤلمةٌ جداً عن (عقوق الأبناء)؛ أبناء عاقين بوالديهما، شغلتهم الدنيا عن برهما والإحسان إليهما. ذكرتني هذه القصة بقصةٍ أخرى متداولةٍ على مواقع التواصل الاجتماعي يقول فيها أحد المصلين: خرجتُ من المسجد بعد أدائي لصلاتي فوقَعَتْ عيني على شيخٍ وقورٍ طاعنٍ في السن يجلسُ على كرسيٍّ متحرّكٍ وبجانبه خادم؛ فاقتربتُ منه وقبّلتُ رأسه، ثم قلتُ له: "أدعُ لي يا عم"، فسألني: "هل والدك موجود؟" قلتُ: "نعم"، قال: "هل والدتك موجودة؟" قلتُ: "نعم"؛ فابتسم ابتسامةً ممزوجةً بأسى العُمرِ وأحزان الأيام، ثم قال: "إذن أنتَ تاجرٌ كبيرٌ، حافظ على تجارتك يا ولدي، فأولادي قد ضيّعوا تجارتهم". أحسستُ بقشعريرةٍ في بدني وهزّةٍ في قلبي، فقبّلتُ رأسهُ ثانيةً ثم انصرفتُ عنه وأنا أتمتم بلساني: "حافظ على تجارتك يا ولدي، تلك حقاً هي التجارة الرابحة".

 

البر بالوالدين له منزلةٌ عظيمةٌ لدى المولى عزَّ وجلّ، تتبين من أن الإحسان إليهما ورد مقروناً بعبادته سبحانه؛ يقول تعالى: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾، كما أنّ شكرهما ورد مقروناً بشكر الله؛ يقول تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾.

ومع كون بر الوالدين واجباً في كل وقتٍ فإن له أهميةً خاصةً في حال كِبَرهما أو كِبَر أحدهما؛ يقول تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا . وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾ ويتبين من هذه الآية الكريمة مدى عظم بر الوالدين؛ فقد قرن الله سبحانه وتعالى عبادته ببر الوالدين والإحسان إليهما، كما يُستفاد من الآية أن بلوغ الوالدين الكِبَر يجعلهما في حالةٍ من الضعف تزيد من احتياجهما لبر أبنائهما وإحسانهم.

وأوجب سبحانه بر الوالدين والإحسان إليهما حتى ولو كانا مشركين؛ يقول تَعَالَى: ﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا﴾.

 

وفي السُنة الشريفة الكثير عن بر الوالدين، من ذلك؛ حين سُئل رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم عن أي الْأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ؟ قَالَ: [الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا، ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ، ثُمَّ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ]. وقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُمَدَّ لَهُ فِي عُمْرِهِ، وَأَنْ يُزَادَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، فَلْيَبَرَّ وَالِدَيْهِ، وَلْيَصِلْ رَحِمَهُ].

وعن تقديم بر الأم على بر الأب؛ قال صحابيٌ جليل: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي كُنْتُ أَرَدْتُ الْجِهَادَ مَعَكَ أَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ، قَالَ: [وَيْحَكَ، أَحَيَّةٌ أُمُّكَ؟] قُلْتُ: نَعَمْ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: [وَيْحَكَ، الْزَمْ رِجْلَهَا، فَثَمَّ الْجَنَّةُ]. يقول علماء الحديث: [وَيْحَكَ، الْزَمْ رِجْلَهَا] كنايةٌ عن لزوم خدمتها، والتواضع، وحُسن الطاعة لها. [فَإِنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ رِجْلَيْهَا] أي نصيبك من الجنة لا يصل إليك إلا برضاها. وجَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قَالَ: [أُمُّكَ] قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: [ثُمَّ أُمُّكَ] قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: [ثُمَّ أُمُّكَ] قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: [ثُمَّ أَبُوكَ]. وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [إِنَّ اللَّهَ يُوصِيكُمْ بِأُمَّهَاتِكُمْ- ثَلَاثًا - إِنَّ اللَّهَ يُوصِيكُمْ بِآبَائِكُمْ، إِنَّ اللَّهَ يُوصِيكُمْ بِالْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ].

وعن البر بالأب؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [لَا يَجْزِي وَلَدٌ وَالِدًا إِلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [الوَالِدُ أَوْسَطُ أَبْوَابِ الجَنَّةِ، فَإِنْ شِئْتَ فَأَضِعْ ذَلِكَ البَابَ أَوْ احْفَظْهُ]. كما قَالَ: [رِضَى الرَّبِّ فِي رِضَى الوَالِدِ، وَسَخَطُ الرَّبِّ فِي سَخَطِ الْوَالِدِ]. وقال كذلك: [ثَلَاثُ دَعَوَاتٍ يُسْتَجَابُ لَهُنَّ، لَا شَكَّ فِيهِنَّ: دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ، وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ، وَدَعْوَةُ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ].

وعن البر بالوالدين بعد موتهما؛ سأل سائلٌ: يا رسول الله، هل بقي من بر أبوي شيءٌ أبرهما به بعد وفاتهما؟ قال صلى الله عليه وسلم: [نَعَم؛ الصَّلاَةُ عَلَيهِما، والاسْتِغْفَارُ لَهُما، وإِنْفَاذُ عَهدِهِمَا مِنْ بَعْدِهِمَا، وَصِلَةُ الرَّحِم الَّتِي لاَ تُوصَلُ إِلاَّ بِهِمَا، وإِكرَامُ صَدِيقِهِما].

 

كتب أحد الناس وصفاً للوالدين من كبار السن، وتوجيهاً لأبنائهم حتى لا يقعوا في ذنبٍ عظيمٍ هو (عقوق الأبناء) لوالديهم، فقال عن كبار السن: إنهم قد يرقدون ولا ينامون، وقد يأكلون ولا يهضمون، وقد يضحكون ولا يفرحون، وقد يوارون دمعتهم تحت بسمتهم. يؤلمهم بُعدُك عنهم، وانصرافُك من جوارهم، واشتغالك بهاتفك في حضرتهم. لم يعودوا محور البيوت وبؤرة العائلة كما كانوا من قبل؛ فانتبه ولا تكن من الحمقى فتشقى!! شابت شعورهم ورقّت مشاعرُهم. حوائجهم أبعد من طعامٍ وشرابٍ وملبسٍ ودواءٍ، بل وأهمُّ من ذلك بكثيرٍ؛ يحتاجون إلى الاهتمام بهم والاستماع إليهم والصبر عليهم وتفقد أحوالهم. يحتاجون إلى بسمةٍ في وجوهكم، وكلمةٍ جميلةٍ تطرق آذانهم، ويدٍ حانيةٍ تمتد لهم، وعقلٍ لا يضيق برؤاهم. الكلمة التي كانت لا تريحهم حال قوتهم الآن تجرحُهم، والتي كانت تجرحهم الآن تذبحُهم. لديهم فراغٌ يحتاج عقلاء رحماء يملؤونه. يحتاجون من يسمع لحديثهم، ويأنس لكلامهم، ويبدو سعيداً بوجودهم. فقدوا كثيراً من أحبائهم ورفقائهم؛ فقلوبهم جريحةٌ ونفوسهم مطويةٌ على الكثير من الأحزان. غادر بهم القطار محطة اللذة، وصاروا في صالة انتظار الرحيل، ينتظرون الداعي ليلبوه، قريبون من الله؛ دعاؤهم أقرب للقبول؛ فاغتنم ذلك قبل نفاد الرصيد. اجعلهم يعيشون أياماً سعيدةً، ولياليَ مشرقةً، ويختمون كتاب حياتهم بصفحاتٍ ماتعةٍ من البرِّ والسعادة، حتى إذا خلا منهمُ المكان لا تصبح من النادمين. كن العِوضَ عما فقدوا، وكن الربيعَ في خريف عمرهم، وكن العُكَّازَ فيما تبقى لهم.

 

أحبتي .. أختم بكلمةٍ موجهةٍ إلى الأبناء: سلامٌ على من يُراعي منكم كِبارَ السن؛ فهم سيذهبون، وعما قليلٍ ستكونون أنتم كبار السن؛ فانظروا ما أنتم زارعون، لأنكم لن تحصدوا إلا ما سبق أن زرعتموه. راجعوا تجارتكم مع أمهاتكم وآبائكم قبل فوات الأوان، إنها تجارةٌ ليس فيها إلا الربح أو الخسارة، ليست الخسارة فيها عدم المكسب، بل هي فقدان أصل رأس المال، والندم طوال العمر على فرصة رضا الوالدين التي ضاعت ولن تُعوض، ثم يأتي الأصعب وهو أن يعاملكم أبناؤكم -عندما تهرمون- كما كنتم تعاملون أبويكم، فاحذروا من جريمة (عقوق الأبناء) واحرصوا على أن تكونوا من الفائزين في تجارتهم مع والديهم بأعلى قدر من الأرباح، ويكفيكم من الربح رضا الله سبحانه وتعالى.

اللهم احفظ من بقي من والدينا، وارحم من مات منهم. هدانا الله جميعاً إلى صراطه المستقيم.

https://bit.ly/2O4TECz