خاطرة الجمعة /281
الجمعة 5 مارس 2021م
(عقوق الأبناء)
أحبتي في الله .. هذه قصةٌ واقعيةٌ مؤلمةٌ جداً عن (عقوق الأبناء)؛ أبناء
عاقين بوالديهما، شغلتهم الدنيا عن برهما والإحسان إليهما. ذكرتني هذه القصة بقصةٍ
أخرى متداولةٍ على مواقع التواصل الاجتماعي يقول فيها أحد المصلين: خرجتُ من
المسجد بعد أدائي لصلاتي فوقَعَتْ عيني على شيخٍ وقورٍ طاعنٍ في السن يجلسُ على
كرسيٍّ متحرّكٍ وبجانبه خادم؛ فاقتربتُ منه وقبّلتُ رأسه، ثم قلتُ له: "أدعُ
لي يا عم"، فسألني: "هل والدك موجود؟" قلتُ: "نعم"، قال:
"هل والدتك موجودة؟" قلتُ: "نعم"؛ فابتسم ابتسامةً ممزوجةً
بأسى العُمرِ وأحزان الأيام، ثم قال: "إذن أنتَ تاجرٌ كبيرٌ، حافظ على تجارتك
يا ولدي، فأولادي قد ضيّعوا تجارتهم". أحسستُ بقشعريرةٍ في بدني وهزّةٍ في
قلبي، فقبّلتُ رأسهُ ثانيةً ثم انصرفتُ عنه وأنا أتمتم بلساني: "حافظ على
تجارتك يا ولدي، تلك حقاً هي التجارة الرابحة".
البر بالوالدين له منزلةٌ عظيمةٌ لدى المولى عزَّ وجلّ، تتبين من أن
الإحسان إليهما ورد مقروناً بعبادته سبحانه؛ يقول تعالى: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ
وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾، كما أنّ شكرهما ورد
مقروناً بشكر الله؛ يقول تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ
حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ
لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾.
ومع كون بر الوالدين واجباً في كل وقتٍ فإن له أهميةً خاصةً في حال
كِبَرهما أو كِبَر أحدهما؛ يقول تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا
إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ
أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا
وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا . وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ
الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾ ويتبين من هذه
الآية الكريمة مدى عظم بر الوالدين؛ فقد قرن الله سبحانه وتعالى عبادته ببر
الوالدين والإحسان إليهما، كما يُستفاد من الآية أن بلوغ الوالدين الكِبَر يجعلهما
في حالةٍ من الضعف تزيد من احتياجهما لبر أبنائهما وإحسانهم.
وأوجب سبحانه بر الوالدين والإحسان إليهما حتى ولو كانا مشركين؛ يقول
تَعَالَى: ﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ
عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا﴾.
وفي السُنة الشريفة الكثير عن بر الوالدين، من ذلك؛ حين سُئل رَسُولُ اللهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم عن أي الْأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ؟ قَالَ:
[الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا، ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ، ثُمَّ الْجِهَادُ فِي
سَبِيلِ اللهِ]. وقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَنْ أَحَبَّ أَنْ
يُمَدَّ لَهُ فِي عُمْرِهِ، وَأَنْ يُزَادَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، فَلْيَبَرَّ
وَالِدَيْهِ، وَلْيَصِلْ رَحِمَهُ].
وعن تقديم بر الأم على بر الأب؛ قال صحابيٌ جليل: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي كُنْتُ
أَرَدْتُ الْجِهَادَ مَعَكَ أَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ وَالدَّارَ
الْآخِرَةَ، قَالَ: [وَيْحَكَ، أَحَيَّةٌ أُمُّكَ؟] قُلْتُ: نَعَمْ، يَا رَسُولَ
اللَّهِ، قَالَ: [وَيْحَكَ، الْزَمْ رِجْلَهَا، فَثَمَّ الْجَنَّةُ]. يقول علماء
الحديث: [وَيْحَكَ، الْزَمْ رِجْلَهَا] كنايةٌ عن لزوم خدمتها، والتواضع، وحُسن
الطاعة لها. [فَإِنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ رِجْلَيْهَا] أي نصيبك من الجنة لا يصل
إليك إلا برضاها. وجَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ
صَحَابَتِي؟ قَالَ: [أُمُّكَ] قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: [ثُمَّ أُمُّكَ] قَالَ:
ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: [ثُمَّ أُمُّكَ] قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: [ثُمَّ أَبُوكَ].
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [إِنَّ اللَّهَ يُوصِيكُمْ
بِأُمَّهَاتِكُمْ- ثَلَاثًا - إِنَّ اللَّهَ يُوصِيكُمْ بِآبَائِكُمْ، إِنَّ
اللَّهَ يُوصِيكُمْ بِالْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ].
وعن البر بالأب؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
[لَا يَجْزِي وَلَدٌ وَالِدًا إِلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ
فَيُعْتِقَهُ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [الوَالِدُ أَوْسَطُ أَبْوَابِ
الجَنَّةِ، فَإِنْ شِئْتَ فَأَضِعْ ذَلِكَ البَابَ أَوْ احْفَظْهُ]. كما قَالَ:
[رِضَى الرَّبِّ فِي رِضَى الوَالِدِ، وَسَخَطُ الرَّبِّ فِي سَخَطِ الْوَالِدِ].
وقال كذلك: [ثَلَاثُ دَعَوَاتٍ يُسْتَجَابُ لَهُنَّ، لَا شَكَّ فِيهِنَّ: دَعْوَةُ
الْمَظْلُومِ، وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ، وَدَعْوَةُ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ].
وعن البر بالوالدين بعد موتهما؛ سأل سائلٌ: يا رسول الله، هل بقي من بر
أبوي شيءٌ أبرهما به بعد وفاتهما؟ قال صلى الله عليه وسلم: [نَعَم؛ الصَّلاَةُ
عَلَيهِما، والاسْتِغْفَارُ لَهُما، وإِنْفَاذُ عَهدِهِمَا مِنْ بَعْدِهِمَا،
وَصِلَةُ الرَّحِم الَّتِي لاَ تُوصَلُ إِلاَّ بِهِمَا، وإِكرَامُ صَدِيقِهِما].
كتب أحد الناس وصفاً للوالدين من كبار السن، وتوجيهاً لأبنائهم حتى لا
يقعوا في ذنبٍ عظيمٍ هو (عقوق الأبناء) لوالديهم، فقال عن كبار السن: إنهم قد
يرقدون ولا ينامون، وقد يأكلون ولا يهضمون، وقد يضحكون ولا يفرحون، وقد يوارون
دمعتهم تحت بسمتهم. يؤلمهم بُعدُك عنهم، وانصرافُك من جوارهم، واشتغالك بهاتفك في
حضرتهم. لم يعودوا محور البيوت وبؤرة العائلة كما كانوا من قبل؛ فانتبه ولا تكن من
الحمقى فتشقى!! شابت شعورهم ورقّت مشاعرُهم. حوائجهم أبعد من طعامٍ وشرابٍ وملبسٍ
ودواءٍ، بل وأهمُّ من ذلك بكثيرٍ؛ يحتاجون إلى الاهتمام بهم والاستماع إليهم
والصبر عليهم وتفقد أحوالهم. يحتاجون إلى بسمةٍ في وجوهكم، وكلمةٍ جميلةٍ تطرق
آذانهم، ويدٍ حانيةٍ تمتد لهم، وعقلٍ لا يضيق برؤاهم. الكلمة التي كانت لا تريحهم
حال قوتهم الآن تجرحُهم، والتي كانت تجرحهم الآن تذبحُهم. لديهم فراغٌ يحتاج عقلاء
رحماء يملؤونه. يحتاجون من يسمع لحديثهم، ويأنس لكلامهم، ويبدو سعيداً بوجودهم.
فقدوا كثيراً من أحبائهم ورفقائهم؛ فقلوبهم جريحةٌ ونفوسهم مطويةٌ على الكثير من
الأحزان. غادر بهم القطار محطة اللذة، وصاروا في صالة انتظار الرحيل، ينتظرون
الداعي ليلبوه، قريبون من الله؛ دعاؤهم أقرب للقبول؛ فاغتنم ذلك قبل نفاد الرصيد.
اجعلهم يعيشون أياماً سعيدةً، ولياليَ مشرقةً، ويختمون كتاب حياتهم بصفحاتٍ ماتعةٍ
من البرِّ والسعادة، حتى إذا خلا منهمُ المكان لا تصبح من النادمين. كن العِوضَ
عما فقدوا، وكن الربيعَ في خريف عمرهم، وكن العُكَّازَ فيما تبقى لهم.
أحبتي .. أختم بكلمةٍ موجهةٍ إلى الأبناء: سلامٌ على من يُراعي منكم كِبارَ
السن؛ فهم سيذهبون، وعما قليلٍ ستكونون أنتم كبار السن؛ فانظروا ما أنتم زارعون،
لأنكم لن تحصدوا إلا ما سبق أن زرعتموه. راجعوا تجارتكم مع أمهاتكم وآبائكم قبل
فوات الأوان، إنها تجارةٌ ليس فيها إلا الربح أو الخسارة، ليست الخسارة فيها عدم
المكسب، بل هي فقدان أصل رأس المال، والندم طوال العمر على فرصة رضا الوالدين التي
ضاعت ولن تُعوض، ثم يأتي الأصعب وهو أن يعاملكم أبناؤكم -عندما تهرمون- كما كنتم
تعاملون أبويكم، فاحذروا من جريمة (عقوق الأبناء) واحرصوا على أن تكونوا من الفائزين
في تجارتهم مع والديهم بأعلى قدر من الأرباح، ويكفيكم من الربح رضا الله سبحانه
وتعالى.
اللهم احفظ من بقي من والدينا، وارحم من مات منهم. هدانا الله جميعاً إلى
صراطه المستقيم.
https://bit.ly/2O4TECz
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق