الجمعة، 10 أكتوبر 2025

لا تتسرع

 

خاطرة الجمعة /520

الجمعة 10 أكتوبر 2025م

(لا تتسرع)

 

هذه قصةٌ رواها مُدير مدرسةٍ كتب يقول: كنتُ -وأنا مُعلمٌ- دائماً ما أراقب الطلاب في الفترة المسائية أثناء انصرافهم من الطابور باتجاه فصولهم، حتى يتم إخلاء الساحة المدرسية من كافة الطلاب؛ ثم أنتظر قليلاً لأتفاجأ يومياً بطالبين أو ثلاثة مُتأخرين عن موعد الحضور؛ فأضطر إلى مُعاقبتهم ثم أسمح لهم بالالتحاق ببقية زملائهم في فصولهم. بعد مرور فترةٍ من بداية العام الدراسي لفت انتباهي أن طالباً مُعيناً يكون يومياً من بين هؤلاء الطلاب المتأخرين، خلافاً عن بقية الطلاب الذين لا يتأخر أحدهم بالعادة إلا لظرفٍ طارئ، فكنتُ حين أعاقب هذا الطالب بالعصاة التي أحملها أرى على وجهه علامات الأسى والحُزن، لكنه كان دائماً يتقبل العقوبة بمنتهى البساطة وينصرف إلى فصله، استمر على هذا النهج يومياً!

بدأتُ أُقلب الأمر في رأسي؛ أي طالبٍ عنيدٍ هذا؟! وأية عقليةٍ يحملها؟! كيف يكون حزيناً وهو يتلقى العقوبة ولا يسعى ليُغيِّر من حاله ويحضر إلى المدرسة في الموعد المحدد؟!

ومع هذا قررتُ أن أستمر في منهجي نحوه: تأخير = عُقوبة، حتى يُعدِّل من سلوكه. استمرت الأيام على هذا الحال؛ دون أي تغيير، إلى أن قررتُ أن آخذ زمام المبادرة لحل المشكلة؛ فاستوقفته ذات يومٍ قبل أن أُعاقبه؛ وسحبته من يده الى مكتبي وسألته: "يا بُني لماذا تتأخر كل يوم؟ لماذا لا تحضر مثل بقية الطلاب قبل الطابور المدرسي؟! إذا كانت العقوبة تؤثر في نفسك هكذا فلماذا لا تُغيِّر من سلوكك؟"، سكت الطالب بُرهةً من الزمن وأطرق بنظراته إلى الأرض ثم أجاب على استحياءٍ: "يا أُستاذ أنا لا أتأخر عن المدرسة بإرادتي، يا أُستاذ ظُروفنا المالية في المنزل سيئةٌ وقاسيةٌ؛ فوالدي عاطلٌ عن العمل، وأنا وأخي لا نملك إلا قميصاً مدرسياً واحداً، هو يرتديه أثناء ذهابه إلى المدرسة في الفترة الصباحية؛ وأنا أنتظر عودته على باب المنزل بفارغ الصبر لأخذه منه وأرتديه وأحضر إلى المدرسة في الفترة المسائية، وهذا هو سبب تأخري كل يوم! ومع هذا فإنك تُعاقبني وأنا لا أستطيع الاعتراض وأتقبل الأمر لأني لا أرغب في ترك المدرسة بسبب ضيق حالنا!".

يقول الأستاذ -والحديث على لسانه-: واللهِ إن الدنيا أظلمت أمامي لم أعد أرى أو أسمع شيئاً، أحسستُ أن الزمن توقف عند تلك اللحظة؛ فقدتُ القدرة على الكلام، ولم أعد أُفكر إلا في شريط الذكريات؛ وأنا أُعاقبه بالعصاة على يديه على مدى كل تلك الأيام، وهو يتألم من الضرب، ومع هذا لا يتحدث ولا يعترض!! نزلت كلمات الطالب على مسامعي كأنها ضربٌ بسياط القهر والأسى، ولم أستطع أن أتمالك نفسي واندفعت الدموع من عينيّ بصمت؛ فسألته وصوتي يتحشرج في حُنجرتي وكلماتي لا تطاوعني للخروج من فمي: "لماذا لم تُخبرني بذلك يا بني؟"، أجاب وهو يطرق بناظريه إلى الأرض أمامه: "إنك لم تسألني ما السبب؛ كنتَ تُعاقبني فقط"، عندئذٍ فقط أدركتُ فداحة ما اقترفته! أخذتُ الطالب من يده إلى فصله في ذلك اليوم دون أن أُعاقبه، وطلبتُ منه عند انتهاء اليوم المدرسي أن يحضر إلى مكتبي، وانصرفت. في نهاية اليوم الدراسي حضر الطالب إليّ كما طلبتُ منه، خرجنا من المدرسة سوياً، وأخذته معي في جولةٍ إلى السوق، واشتريتُ له قميصاً مدرسياً جديداً على حسابي الخاص، فكم كانت فرحته بهذا القميص؛ كان وكأنه قد نجح في امتحان آخر العام الدراسي، وتوجه إلى منزله مسروراً. ومن ذلك اليوم الحاسم لم أُشاهده إلا في مُقدمة الطابور المدرسي.

يواصل الأستاذ حديثه: كانت هذه الحادثة مفصلاً هاماً في مسار نهجي التعليمي والتربوي؛ فقد أدركتُ معها أن المُعلم والمُربي المثالي عليه أن يكون أولاً أباً لطلابه قبل أن يكون مُدرساً ومُعلماً، عليه أن يشعر بهم، ويُناقشهم، ويتفهم الآمهم وأوجاعهم، قبل أن يُصدر عليهم أحكامه، وألا يتسرع في تنفيذ العقوبة التي قد تكون جائرةً وهو لا يعلم!!

 

أحبتي في الله.. لو ان هذا المُعلم تريث قليلاً وقال لنفسه (لا تتسرع) لأوقف عقاب الطالب في وقتٍ مبكرٍ، ووفرَّ على نفسه الإحساس بالندم.

 

وعن أهمية عدم التسرع يُحكى أن رجلاً عجوزاً كان جالساً في القطار مع ابنٍ له يبلغ من العمر خمسةً وعشرين عاماً، والذي بدت على وجهه الكثير من البهجة والفضول؛ إذ كان يجلس بجانب النافذة؛ فأخرج يديه من النافذة وشعر بمرور الهواء وصرخ: "أبي أُنظر جميع الأشجار إنها تسير وراءنا!" فتبسَّم الرجل العجوز مُتماشياً مع فرحة ابنه. وكان يجلس بجانبهما زوجان يستمعان إلى ما يدور من حديثٍ بين الأب وابنه، وشعرا بقليلٍ من الإحراج؛ فكيف يتصرف شابٌ في عُمْر الخامسة والعشرين عاماً كالطفل؟! فجأةً صرخ الشاب مرةً ثانيةً: "أبي، أُنظر إلى البِركة وما فيها من حيواناتٍ، أُنظر يا أبي.. الغيوم تسير مع القطار!"، واستمر تعجب الزوجين من حديث الشاب مرةً أُخرى. ثم بدأ هطول الأمطار، وقطرات الماء تتساقط على يد الشاب، الذي امتلأ وجهه بالسعادة وصرخ مرةً أُخرى: "أبي إنها تُمطر، والماء لمس يديّ، أُنظر يا أبي!". في هذه اللحظة لم يستطع الزوجان السكوت وسألوا الرجل العجوز: "لماذا لا تقوم بزيارة الطبيب والحصول على علاج لابنك؟"، هنا قال الرجل العجوز: "إننا قادمون من المُستشفى حيث أن ابني قد أصبح بصيراً لأول مرةٍ في حياته".

ولو أن أحد الزوجين -أو كلاهما- قال لنفسه (لا تتسرع) لجنَّب نفسه الإحساس بالحرج.

 

عن التسرع والاستعجال يقول تعالى في وصفه للإنسان: ﴿وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا﴾، ويقول سُبحانه: ﴿خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ﴾. وورد النهي عن الاستعجال الذي يؤدي إلى التهور والاندفاع بغير تبصرٍ ولا حكمةٍ في قوله عزَّ وجلَّ: ﴿سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ﴾، وفي قوله سُبحانه: ﴿وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً﴾.

وورد ذم الاستعجال والتسرع في مثل قوله تعالى: ﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ﴾.

وفي المُقابل وردت آياتٌ تحث على السُرعة ولكن في طلب المغفرة؛ كما في قوله تعالى: ﴿وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾، يقول المُفسرون: المُسارعة إلى الشيء المُبادرة إليه بدون توانٍ ولا تراخٍ، وهو أمرٌ مُجازٌ في الحرص والمُنافسة إلى عمل الطاعات التي هي سبب المغفرة والجنة. وورد نفس المعنى ولكن بلفظ "سابقوا" كما في قوله سُبحانه: ﴿سَابِقُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾.

 

وفي السُنة المشرفة بيانٌ لمدى الخُسران الذي يتحقق نتيجة التسرع والعجلة؛ قال رسول اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: [يُسْتَجابُ لأحَدِكُمْ ما لَمْ يَعْجَلْ، يقولُ: دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي]، وبيَّن عليه الصلاة والسلام أنَّ: [التَّأنِّي مِن الله، والعَجَلة مِن الشَّيطان]. وقال عليه الصلاة والسلام مادحاً أحد الصحابة رضي الله عنهم، وحاثاً على عدم التسرع: [إنَّ فيك خصلَتينِ يحِبُّهما اللَّهُ: الحِلمَ والأناةَ].

 

وقالت العرب: "العَجَلةُ مُوكَّلٌ بها النَّدَمُ، وما عَجِلَ أحَدٌ إلَّا اكتَسَب ندامةً واستفاد مذَمَّةً". وقالوا كذلك: "لا حِكمةَ لجاهِلٍ، ولا طائِشٍ، ولا عَجولٍ".

 

أما أهل الاختصاص فيقولون إن للتسرع عواقب وخيمةٌ منها: خُسارة الأهداف لعدم الصبر والسعي إلى تحقيق نتائج سريعة. البُعد عن القيم بترك الغرائز تتحكم في السلوك والأفعال. الندم -وقت لا ينفع فيه ندمٌ- على المواقف التي لم يُحسَن التصرف فيها. الخُسارة والكآبة جراء التهور والسلوك غير المدروس وعدم التقدير السليم للمواقف.

 

وقال الشاعر:

لا تَعْجَلَن لأمرٍ أنتَ طالبُهُ

فَقَّلَما يُدرِكُ المَطْلوبَ ذو العَجَلِ

فَذو التأني مُصيبٌ في مَقاصِدِهِ

وَذو التَعَجُلِ لا يَخْلو عَنْ الزَلَلِ

وقال آخر:

الْرِفْقُ يُمْنٌ وَالأناةُ سَعادَةٌ

فَتَأنَّ في رِفْقٍ تَلاقِ نَجاحا

 

أحبتي.. يقولون إن الحياة ملأى بالقصص والأحداث التي إن تأملنا فيها أفادتنا حكمةً واعتباراً، والعاقل لا ينخدع بالقُشور عن اللُباب، ولا بالمظهر عن المخبر، ولا بالشكل عن المضمون.

يجب ألا نتسرع في إصدار الأحكام، وأن نسبر غوْر ما نرى. إن الكثير منا يتسرع فيما يعتقد أنه صوابٌ، والحقيقة قد تكون أبعد شيءٍ عما نُفكر فيه؛ فعلينا ألا نتسرع في الحُكم على الآخرين؛ فهناك دائماً شيءٌ ما نجهله، فلنُحسِن الظن بالآخرين، ونلتمس الأعذار لهم؛ ورد في الأثر: "إذا بلغك عن أخيك شيءٌ فالتمس له عُذراً، فإن لم تجد له عُذراً فقل: لعل له عذراً لا أعرفه". لابد أن تكون لدينا تلك الروح وتلك الحكمة وذلك التريث في الحُكم على أشياء يفعلها المحيطون بنا من أزواجٍ أو أبناءٍ أو أصدقاءٍ أو زملاء أو جيرانٍ؛ فرُبما لديهم من الأسباب والأعذار ما يُغنينا عن سوء الظن، ويوفر علينا مغبة وعواقب التسرع. فلنعوِّد أنفسنا أن نقول دائماً لأنفسنا (لا تتسرع) قبل أن نحكم على الأمور بظواهرها، وأن نتأنى ونجتهد في معرفة الحقائق قبل أن نكتشف خطأ ظنوننا.

اللهم ألهمنا الصواب والسداد، وزودنا بالحكمة التي تجعلنا لا نتسرع في الحُكم على الآخرين، وندخر تسرعنا لما ينفعنا من العبادات والنوافل وأعمال الخير والبِر، حتى تصل سُرعتنا إلى درجة الفرار؛ استجابةً للأمر الإلهي: ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ﴾، ويكون لسان حالنا يقول: ﴿وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَىٰ﴾.

إنك سُبحانك وتعالى القادر على ضبط إيقاع سُرعتنا لتكون فيما ينفعنا، ولا يضرنا أو يضر غيرنا.

https://bit.ly/4n4z3Zz