الجمعة، 19 أغسطس 2022

هل هي صُدفة؟

 

خاطرة الجمعة /357


الجمعة 19 أغسطس 2022م

(هل هي صُدفة؟)

 

يحكي داعيةٌ مشهورٌ رحمه الله عن إحدى ذكرياته؛ فيقول:

حدثني أحدهم، وكان دبلوماسياً سابقاً في «مصر»، أنه كُلف مرةً بمهمةٍ سياسيةٍ عاجلةٍ في «روسيا»، وخاف أن يمر ببلدٍ لا تؤكل ذبيحة أهله شرعاً، وكانت عنده دجاجتان فأمر بذبحهما، واتخذت له زوجته منهما سُفرةً -وهي زاد المسافر- حملها معه؛ فلما وصل إلى «روسيا» دعاه شيخٌ مُسلمٌ إلى الغداء عنده، فكرِه أن يأخذ الدجاجتين معه إلى دار الشيخ، فرأى في طريقه امرأةً فقيرةً، عرف من ملابسها أنها مُسلمةٌ، معها أولادها، ورأى الجوع بادياً عليها وعليهم، فدفع إليها الدجاجتين.

‏ثم لم تمضِ ساعةٌ حتى وصلته برقيةٌ أن: "ارجع؛ فقد صُرف النظر عن المهمة"! فكانت هذه الرحلة لأمرٍ واحدٍ: وهو أن الدجاجتين كانتا في داره، لكنهما ليستا له ولا لأهله، إنما لتلك المرأة وأولادها، فطبختهما زوجته، وحملهما بنفسه أربعة آلاف كيلو مترٍ ليوصلهما إليهم.

يقول الداعية: توالي الأحداث وترتيب المواقف وإيجاد الأسباب (هل هي صُدفة؟) لا يُمكن، بل الأمر كله من تدبير الله سبحانه وتعالى؛ أن يأتي الشيخ من «مصر» إلى «روسيا» حاملاً دجاجتين، طبختهما زوجته في «مصر»، ليعطيهما إلى هذه المرأة الفقيرة وأولادها ويعود، ودون أن يتحقّق من هذه الرحلة أي غرضٍ آخر! وكأنّ الله سخّر زوجة الشيخ لتطبخ الدجاجتين في «مصر»، وسخّر الشيخ ليوصلهما مطبوختين إلى «روسيا» ويُعطيهما لهذه المرأة، ثم يقفل عائداً إلى «مصر» حاملاً معه عبرةً تستحق الوقوف عندها، وتستحق التأمل طويلاً؛ فالأرزاق بيد الله سبحانه وتعالى، يكتبها لخلقه ويُسّبب لها الأسباب، إنه تدبير الله، له حكمةٌ لا تُدركها العقول إلّا بالتسليم لعدله وقُدرته، والإيمان بأنه سبحانه هو اللطيف الخبير.

 

أحبتي في الله.. سبحان الله.. سبحان الذي جعل لكل شيءٍ سبباً، والذي سخّر عباده ليكون بعضهم لبعض سخرياً، والذي بيده مقادير كل شيءٍ، تلك الأحداث (هل هي صُدفة؟)، لا، وإنما هو تدبير الرؤوف الرحيم، العزيز العليم.

 

ذكرتني هذه القصة بقصةٍ حقيقيةٍ أغرب منها، من عجائب القدر وتدبير الله لعباده، قصةٍ تقشعرُّ لها القلوب قبل الأبدان، حصلت فعلاً مع أحد الدُعاة المعروفين في «مصر»؛ يقول فضيلته:

كان عندي سفرٌ من مطار «القاهرة»، وأنا من سُكان «الإسكندرية»، وكان موعد إقلاع الطائرة بعد الفجر، فخفتُ أن تفوتني الطائرة، فاتصلتُ بصديقٍ لي هو إمام مسجدٍ قريبٍ من المطار، قلتُ له: "سوف أنام عندك في المسجد الليلة إلى الفجر، فاترك الباب مفتوحاً"، قال لي: "خير يا شيخ؟!"، قلتُ له: "خير، لا تقلق، عندي سفرٌ بعد الفجر مباشرةً وأريد أن أنام عندكم احتياطاً ليس أكثر!"، قال: "تُشرفنا يا شيخ، أهلاً وسهلاً بك". وصلتُ الساعة الثانية بعد مُنتصف الليل، فوجدتُ باب المسجد مفتوحاً والأنوار مُضاءةً، ورأيتُ رجلاً يُصلي في المحراب وحده، ويُكلم الله بصوتٍ مسموعٍ، وهو ينادي ويقول: "يا رب لم أعد أتحمل، يا رب لم أعد أستطيع، يا رب تعبت، يا رب ليس لي سواك، يا رب أين أذهب؟ يا رب ماذا أفعل؟"، يُعيد ويُكرر هذه الكلمات وهو يبكي! مُناجاةٌ عجيبةٌ وبُكاءٌ وإلحاحٌ تقشعرُّ له الأبدان! فقلتُ في نفسي: "ما هذا ببكاء صاحب فاحشةٍ ولا كبيرةٍ، هذا رجلٌ ألجأته الضرورة والحاجة". انتظرتُ قليلاً ثم اقتربتُ منه، فلما لمحني سكت، قلتُ له: "يا حاج، ما بك؟ لقد قطّعتَ قلبي!"، وبعد إلحاحٍ طويلٍ مني قال لي: "والله يا شيخ لا أعرف ماذا أقول؟! زوجتي ستُجري عمليةً جراحيةً اليوم الساعة التاسعة صباحاً وتكلفة العملية 15400 جنيه، ولا أملك منها جُنيهاً واحداً"، قلتُ له: "والله يا حاج، ما عندي ما أقدر أن أُساعدك به، لكن سأقول لك بِشارةً وهي إن ربنا أرحم بنا من أُمهاتنا، وأنه ما وثق في الله أحدٌ وخذله الله أبداً"، قال لي: "ونِعم بالله"، ثم أكمل صلاته ودعاءه بصوتٍ خافتٍ. أما أنا فقد صليتُ الوِتر ونمتُ حتى أيقظني مُقيم الشعائر الذي كان يستعد لرفع الأذان لصلاة الفجر، ثم أذّن للصلاة؛ فجاء صديقي الإمام وقال لي: "بالله عليك، صلِّ بنا الفجر"، قلتُ له: "أشعر ببعض التعب"، قال: "بالله عليك، ولو بقِصار السور"، صليتُ إماماً بالفعل، وبعد الصلاة جاء أحد الإخوة، وكان يُصلي في الصف الثالث، يلبس بدلةً ومعطفاً طويلاً، وتبدو عليه ملامح الثراء وأنه من عِلية القوم، سلّم عليّ بحرارةٍ وقال: "كيف حالك يا مولانا؟ أنا أُتابع برنامجك ودروسك في التلفاز، وسبحان الله؛ اشتريتُ شقةً أمام هذا المسجد من فترةٍ قصيرةٍ، فكان من نصيبي أن أراك وأُسلم عليك"، قلتُ له: "أهلاً وسهلاً بك، وبارك الله لك"، قال: "يا مولانا، أنا ربنا أكرمني كرماً لا حدود له، كان عندي مصنع للبلاستيك، والحمد لله ربنا فتح عليّ وصار لدي مصنعٌ آخر، وأصبح معي زكاة مالٍ مبلغ 15400 جنيه و...."، قاطعته -قبل أن يُكمل كلامه- ببُكائي واقشّعر جسمي كله! والله الذي لا إله إلا هو، نفس الرقم بالجنيه! تعجّب الناس في المسجد من بُكائي ولم يعرفوا ما الذي يحدث، خاصةً أني بدأتُ أنظر في وجوههم وأنا أبحث عن الرجل الذي قابلته أول الليل! استغرب الرجل التاجر وسألني: "ما بك يا شيخ؟"، قلتُ له: "اصبر قليلاً"، ثم وجدتُ الرجل فعلاً، فأشرتُ إليه أن يأتي إلينا؛ فجاء وعيناه يبدو عليهما أثر بُكاء الليل! فأخذته هو والتاجر بعيداً عن الناس وقلتُ له: "يا حاج أنتَ كنتَ تبكي وتدعو طوال الليل، ما السبب؟"، قال: "يا مولانا قلتُ لك إن زوجتي ستُجري عمليةً جراحيةً صباح اليوم ولا أملك المبلغ"، سألته: "وكم المبلغ المطلوب لإجراء العملية؟"، قال: "15400 جنيه"، فصرخ التاجر وهو يقول: "الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر"، وأخذ الرجل في حضنه وبكى بُكاءً شديداً، وقال لي وهو يبكي: "والله يا شيخ، زوجتي لها أسبوعٌ وهي تقول لي: أخرج هذا المال وادفع حق ربنا، كل يومٍ صباحاً ومساءً تقول لي هذه الكلمات، وأنا أقول لها: يا أُم فلان، أنا لا أُريد أن أُخرجه مئةً مئةً، أنا أُريد أن أُعطيه كله لشخصٍ واحدٍ مُضطرٍ ومُحتاجٍ له لفك كُربةٍ؛ فأفرِّج به كربته هذه، فيفرِّج الله عني كربةً من كُرب يوم القيامة". استأذن التاجر منا لدقائق ليذهب إلى بيته لإحضار المال، ثم عاد ومعه المبلغ كله وأعطاه للرجل الذي ظل طوال الوقت مُندهشاً غير مُصدقٍ لما حصل، وعندما أخذ المبلغ، تركني وترك التاجر ووضع المال في حُضنه، وسجد وقال: "أنا أُحبك يا رب، أنا أحبك يا رب"، وبكى بُكاءً يُفتّت الصخر.

يقول الشيخ: "قلتُ في نفسي سبحان الله، اجتمع صدق اللجوء في الدعاء، مع إخلاص الطلب في الصدقة، فكان ما كان".

هذه المُفارقة العجيبة (هل هي صُدفة؟) لا، بل هي من تدابير الله لخلقه؛ فلم يكن الشيخ إلا سبباً ساقه الله لهذا وذاك.

 

وعن تدبير الله سبحانه أمر مخلوقاته؛ يقول تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ﴾، ويقول سُبحانه: ﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ﴾، ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ﴾، ويقول عزَّ من قائل: ﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ﴾.

فهل مع كل هذه القُدرة يُمكن أن نقول على أمرٍ ما أنه حدث صُدفةً؟ يقول أهل العلم إنّ الواجب على المؤمن اعتقاد أن كل ما يحدث في هذا الكون من شيءٍ هو بإرادةٍ وتقديرٍ من الله جلَّ وعلا، قال تعالى: ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾، وأنّ الله قدّر هذا قبل خلق السماوات والأرض؛ كما ثبت ذلك في الحديث الشريف؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [كَتَبَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ]. وعلى هذا؛ إذا كان المُراد بكلمة "صُدفة" حصول الشيء من غير علم الإنسان بذلك مُسبقاً؛ فلا حرج أن نُسمي ذلك صُدفةً؛ لأنه ليس فيه نفيٌ لعلم الله وتقديره، ولا بأس من القول "قابلتُ فلاناً صُدفةً"، لأن مُراد المُتكلم بذلك أنه قابله بدون اتفاقٍ سابقٍ، وبدون قصدٍ منه، وليس المُراد أنه قابله بدون تقديرٍ من الله عزَّ وجلَّ.

وقد وردت في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم كلماتٌ مثل: "فَصَادَفْتُهُ"، "نُصَادِفْهُ"، و"صَادَفْنَا".

 

أحبتي.. كل التوازنات التي نُشاهدها في الكون على اتساعه، وما يدور حولنا في جميع أنحاء الأرض، وما نقابله من مواقف وأحداثٍ وتوافقاتٍ، يبدو لنا بعضها غريباً ولا يكاد يُصدَق (هل هي صُدفة؟)، بالتأكيد لا، إنها كلها من تدابير المولى عزَّ وجلَّ، مكتوبةٌ في كتابٍ منذ الأزل؛ يقول تعالى: ﴿مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ فلنتقي الله، ونتوكل عليه حق التوكل، ونُحسن الظن به، ونثق في حكمته ورحمته ورأفته في تدبير أمورنا وشئوننا، ونتقرب إليه بما يُحب من عباداتٍ ونوافل وأعمال خيرٍ، مؤمنين بأنه هو رب العالمين، القيوم القائم على شئون عباده المُتكفل بهم والراعي لهم؛ يقول تعالى: ﴿أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَىٰ كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ﴾، وما أكرمه من ربٍ ينام عبيده أما هو سبحانه ﴿لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ﴾ فلا يغيب لحظةً عن تدبير أمور خلقه، ولا يستريح من تعبٍ، كل المخلوقات تخضع لأمره، ولا يُمكن لمخلوقٍ أن يستغنى عنه.

اللهم الطُف بنا وارحمنا، واكتُب لنا الخير كله. اللهم دبِّر لنا أمورنا، ولا تكلنا لأنفسنا؛ فنحن لا نُحسن التدبير.

https://bit.ly/3wfGc1G