الجمعة، 12 أبريل 2019

الحياء من الإيمان


الجمعة 12 إبريل 2019م

خاطرة الجمعة /١٨٢
(الحياء من الإيمان)

لفت انتباهي وأنا أقرأ في أسباب نزول بعض آيات القرآن الكريم، سبب نزول الآية الكريمة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ﴾؛ فقد قيل في سبب نزولها أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان مع ضيوفه عندما تزوج السيدة زينب بنت جحش بأمرٍ من الله، وصنع وليمة العرس لأصحابه ودعاهم إلى طعامه، فمكث بعض الصحابة بعد الفراغ من الطعام مستمتعين بوجود النبي، ولكن النبي يريد أن يقوم إلى زوجه المنتظرة داخل البيت، والنبي يستحيي أن يأمرهم بالانصراف؛ فخرج من البيت متعللاً بالمرور على باقي زوجاته للاطمئنان عليهن، ثم يعود لعل الضيوف يدركون إشارته اللطيفة، حين يترك المنزل، والحياء يمنع النبي أن يطلب منهم الانصراف. وبعد فترةٍ أدركوا وفطنوا أنهم يجب عليهم الانصراف فانصرفوا، فنزلت تلك الآية.

أحبتي في الله .. إنه خُلُق الحياء الذي  قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عنه: [إِنَّ لِكُلِّ دِينٍ خُلُقًا، وَخُلُقُ الْإِسْلَامِ الْحَيَاءُ]. وقال - عليه الصلاة والسلام - للرجل الذي استوصاه: [أُوصِيكَ أَنْ تَسْتَحِيَ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، كَمَا تَسْتَحِي مِنَ الرَّجُلِ الصَّالِحِ مِنْ قَوْمِكَ]. وهو الذي قال - صلى الله عليه وسلم - عنه ذات يومٍ لأصحابه: [استَـحيُوا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الحَيَاءِ]. قالوا: إنا نستحي يا رسول الله. قال: [لَيسَ ذَاكَ، وَلَكِنَّ الاِستِحيَاءَ مِنَ اللَّهِ حَقَّ الحَيَاءِ: أَن تَحفَظَ الرَّأسَ وَمَا وَعَى، وَالبَطنَ وَمَا حَوَى، وَلتَذكُرِ المَوتَ وَالبِلَى؛ وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ، تَرَكَ زَينَةَ الدُّنيَا، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ، فَقَدِ استَحيَا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الحَيَاءِ]. وحينما مر - صلى الله عليه وسلم - على رجلٍ وهو يعاتب أخاه في الحياء يقول: إنك لتستحي. حتى كأنه يقول: قد أضرَّ بك. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: [دَعْهُ، فإِنَّ الحياءَ مِنَ الإِيمانِ]. إنه خُلُق الحياء الذي قرنه - صلى الله عليه وسلم - بالإيمان فقال: [إِنَّ الْحَيَاءَ وَالْإِيمَانَ قُرِنَا جَمِيعًا، فَإِذَا رُفِعَ أَحَدُهُمَا رُفِعَ الْآخَرُ]. ‌هو الحياء الذي قال عنه - عليه الصلاة والسلام-: [مَا كَانَ الحَيَاءُ فِي شَيءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَلَا كَانَ الفُحْشُ فِي شَيءٍ إِلَّا شَانَهُ].
كان النبي صلى الله عليه وسلم القدوة وكان هو المعلم الأول فأخذ عنه الصحابة الكرام والمسلمون الأوائل هذه الصفة الطيبة التي وصف الله سبحانه وتعالى بها نفسه ونبيه، وعلموا أن (الحياء من الإيمان) فعملوا بما علموا.
فهذا عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – خطب مرةً فعرض لغلاء المهور، فقالت له امرأةٌ: أيعطينا الله وتمنعنا يا عمر؟ ألم يقل الله عز وجل: ﴿وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا﴾؛ فلم يمنعها الحياء أن تدافع عن حق النساء، ولم يمنع الحياء عمر أن يقول معتذراً: "كل الناس أفقه منك يا عمر".
وفي خطبةٍ أخرى له – رضي الله عنه – أمر بالسمع والطاعة، وكان عليه ثوبان، فقال أحد المسلمين: لا سمع ولا طاعة يا عمر؛ عليك ثوبان وعلينا ثوبٌ واحدٌ. فنادى عمر بأعلى صوته: "يا عبد الله بن عمر"؛ فأجابه ولده: لبيك يا أبتاه، فقال له: "أنشدك بالله أليس أحد ثوبيَّ هذين هو ثوبك أعطيتنيه؟"، قال: بلى والله. فقال الرجل: الآن نسمع ونطيع يا عمر؛ لم يمنع الحياء الرجل أن يقول ما قال، ولم يمنع عمر أن يعترف بحقيقة الثوب الثاني.
وخُلُق الحياء هو من أخلاق الفطرة السليمة، فكان صفةً لازمةً للأنبياء والرسل؛ فهذا سيدنا موسى – عليه السلام – وجد امرأتين من مدين تمنعان غنمهما عن ورود الماء، ولا يلتفت لهما أحدٌ، والأولى عند ذوي المروءة والفطرة السليمة أن تسقي المرأتان بأغنامهما أولاً وأن يفسح لهما الرجال؛ فتقدم للمرأتين ليسألهما عن أمرهما الغريب فأطلعتاه على السبب، إنه الحياء من مزاحمة الرجال، فالمرأة الحيية، عفيفة الروح، نظيفة القلب، لا تستريح لمزاحمة الرجال، فثارت نخوة موسى فتقدم وسقى لهما ثم تركهما. وجاءه الفرج عندما جاءته إحدى الفتاتين على استحياءٍ في غير ما تَبَذُّلٍ ولا تبرجٍ وفي هذا قال تعالى: ﴿فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ . قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ﴾.
يقول العلماء أننا إذا تأملنا في قوله تعالى: ﴿تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ﴾؛ نجد أن الحياء وكأنه قد تمكن منها، وتمكنت منه، وهو تعبيرٌ قرآنيٌ يصور حالة المرأة وما هي عليه من أدبٍ جمٍ، وخُلُقٍ فاضلٍ، وسَمْتٍ كريمٍ، وأعظم ما في خُلُق المرأة حياؤها، وهكذا تكون المرأة المسلمة. ولبى موسى الدعوة، وقال لها: امشِ خلفي فإن أخطأتُ الطريق فأشيري إليه بحجرٍ تلقينه فيه، لأصحح المسار وأسلكه، حتى انتهى إلى بيت أبيها. وهكذا يكون الشاب المسلم حيياً ضابطاً إيقاع حياته كلها، سلوكياته وعلاقاته ومعاملاته، على قاعدة (الحياء من الإيمان).
وكان العرب - حتى في جاهليتهم - يؤثرون خُلُق الحياء على الكذب ولو كانت مصلحتهم ظاهرةً جليةً في أن يكذبوا! فهذا أحد صناديد كفار قريش أبو سفيان بن حربٍ يمنعه الحياء من الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين ذهب ومعه بعض القريشيين إلى الشام للتجارة، فأرسل إليهم هرقل ملك الروم يطلب حضورهم، فلما جاءوا إليه قال لهم: أيكم أقرب نسباً بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ فقال أبو سفيان: أنا أقربهم نسباً، فقال هرقل: أدنوه مني واجعلوا أصحابه خلفه، ثم قال لهم: إني سائلٌ هذا الرجل، فإن كذبني فكذبوه، فقال أبو سفيان: لولا الحياء أن يروا عليَّ كذباً لكذبت. فأخذ هرقل يسأله عن صفات النبي ونسبه وأصحابه وأبو سفيان لا يقول إلا صدقاً حياءً!
وعن الحياء يقول أهل العلم أنه خُلُقٌ عظيمٌ يرفع من قدر المرء فيهذب نفسه، ويبعثها على اجتناب القبيح، ويمنع من التقصير في حق ذي الحق.
إن من استحيا من الناس لا يفعل ما يخجله إذا عُرف منه أنه فعله، فكان من أعظم بركة الحياء من الناس تعويد النفس ركوب الخصال المحمودة ومجانبتها الخلال المذمومة وتلك حقيقة الإيمان، ومن استحى من الناس أن يروه بقبيحٍ دعاه ذلك إلى أن يكون حياؤه من ربه تعالى أشد فلا يضيع فريضةً ولا يرتكب خطيئةً، لأن المؤمن يعلم بأن الله يرى كل ما يفعله فيلزمه الحياء منه لعلمه بذلك وبأنه لابد أن يقرره على ما عمله فيخجل فيؤديه إلى ترك ما يخجل منه.
يقول الشاعر:
وَإِذَا خَلَوتَ بِرِيبَةٍ فِي ظُلمَةٍ
وَالنَّفْسُ دَاعِيَةٌ إِلَى الطُّغيَانِ
فَاستَحْيِ مِن نَظرِ الإِلَهِ وَقُل لَهَا
إِنَّ الَّذِي خَلَقَ الظَّلَامَ يَرَانِي
وكان الفاروق عمر - رضي الله عنه - يقول: "مَن قَلَّ حَيَاؤُه قَلَّ وَرَعُهُ، ومَنْ قَلَّ وَرَعُهُ مَاتَ قَلْبُهُ". ويقول أيضاً: "من استحيا استخفى، ومن استخفى اتقى، ومن اتقى وقي". وقال حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه -: "لَا خَيْرَ فِيْمَنْ لَا يَسْتَحِي مِنَ النَّاس". وقال الأصمعي - رحمه الله تعالى -: "مَنْ كَساهُ ثَوبُ الحيَاءِ، لم يَرَ النّاسُ عُيُوبَهُ". وقال الحسن - رضي الله عنه -: "أربعٌ مَنْ كُنَّ فيه كان كاملاً، ومَن تعلّق بواحدةٍ منهنّ كان مِن صالحي قومه: دينٌ يُرشِدُه، وعقلٌ يُسَدِّدُهُ، وحَسَبٌ يَصُونهُ، وحَيَاءٌ يَقُودُهُ". وقال الحكماء: "القناعةُ دَليلُ الأمَانةِ، والأمَانةُ دَليلُ الشُّكرِ، والشُّكرُ دَلِيلُ الزّيادةِ، والزّيادةُ دليلُ بقاءِ النّعمةِ، والحياءُ دَليلُ الخَيرِ كُلِّهِ".

أحبتي .. صدق من قال:
وَرُبَّ قَبِيْحَةٍ مَا حَالَ بَينِي
وَبَيْنَ رُكُوْبِهَا إِلَّا الحَيَاءُ
فَكَانَ هُوَ الدَّوَاءَ لَهَا وَلَكِنْ
إِذَا ذَهَبَ الحَيَاءُ فَلَا دَوَاءُ
فلنتمسك جميعنا - رجالاً ونساءً - بخُلُق الحياء، نمارسه في كل موقفٍ ممكنٍ، ونعلمه أبناءنا، موقنين بأن (الحياء من الإيمان)، ولا نسير وراء من يقول أن الحياء هو سمةٌ قاصرةٌ على النساء دون الرجال.
اللهم زَيِّنَا بزينة الحياء، واجعلنا اللهم ممن يستحي منك سبحانك سراً وجهراً.

نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة، في خاطرةٍ جديدةٍ، إنْ أَذِنَ الله وأمَّدَ في أعمارنا.
هدانا الله وإياكم إلى صالح الأعمال وتقبلها منا.

http://bit.ly/2Za9DAa