الجمعة، 1 يناير 2016

المطففون


1 يناير، 2016م
خاطرة الجمعة /١٢

(المطففون)

أخ فاضل تعرفت عليه عندما كنت أعمل بدبي، زميل عمل، ميسور الحال، كريم الخصال، ممن ترتاح إليهم بسرعة، ويدخلون قلبك بسهولة. دعانا لوليمة في بيته يوماً فلبينا الدعوة. لاحظت كثرة تكليفاته لخادم يعمل عنده، بدا لي الأمر كما لو كان زميلنا يتعمد أن يحرم خادمه من أية لحظات للراحة، ومع ذلك كان الخادم ينفذ تكليفات زميلنا بهمة ونشاط، لكن خليطاً من عدم الرضا والإرهاق كان بادياً على قسمات وجهه. في اليوم التالي للوليمة سنحت لي فرصة الانفراد بزميلنا فشكرته على الوليمة وبشكل غير مباشر أشرت إلى تكليفاته الكثيرة لخادمه، فهم قصدي فقال لي: "هو خادم، عليه الطاعة وأداء ما يكلف به"، وأوضح لي أن هذا الخادم يعمل من بعد صلاة الفجر وحتى وقت متأخر من الليل، هو أول من يستيقظ في البيت وآخر من ينام. أخبرني وهو سعيد بهمة ونشاط خادمه، فهو الذي يشتري ما يحتاجه البيت من طعام وشراب، ويساعد في تحضير الطعام وتجهيز المائدة وغسل الصحون، ويكوي ملابس أفراد الأسرة، كما يقوم بتنظيف السيارة، كما أنه ماهر في إصلاح الأعطال البسيطة للأجهزة المنزلية وأعمال السباكة والكهرباء.
سألت زميلنا عما إذا كان يحس بأنه يكلفه فوق طاقته، رد وهو يحاول إقناع نفسه بغير الحقيقة: "لقد تعود على ذلك، ولم يشكُ يوماً من كثرة العمل"، وأردف قائلاً: "لن تصدق إذا قلت لك أنه سعيد بثقتنا فيه واعتمادنا عليه في كل شيء". قلت له: " قال عليه الصلاة والسلام عن حُسن معاملة الخدم: [إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ، جَعَلَهُمُ اللّه تحْتَ أيْدِيكُمْ. فَمَنْ كَانَ أخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مما يأكُلُ وَلْيُلْبِسْهُ مِما يَلْبَسُ. ولا تُكَلِّفُوهُمْ ما يَغْلِبُهُمْ فإنْ تكلَّفوهُمْ فأعِينُوهُمْ]، وفي حديث آخر: [.. وَمَا أَطْعَمْتَ خَادِمَكَ فَهُوَ لَكَ صَدَقَةٌ]، وقال صلى الله عليه وسلم: [الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا أَهْلَ الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ (وقيل: أهل السماء)]. فأين أنت أخي من كل ذلك؟"، استجمع أفكاره ليرد عليّ، فلم أترك له فرصة وباغته بالسؤال: "تطلب منه دائماً المزيد من العمل، فهل تزيد له أجره مقابل زيادة العمل؟"، رد باقتضاب: "لا"، قلت له: "أخشى أن تكون ممن وصفهم الله سبحانه وتعالى بالمطففين"، سألني: "ومن هم المطففون؟"، قلت له: هم ﴿الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ*وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ﴾، وقد توعدهم الله بقوله: ﴿وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ﴾، وهم غافلون عن أنهم محاسبون يوم القيامة ﴿أَلَا يَظُنُّ أُولَـئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ*لِيَوْمٍ عَظِيمٍ*يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾. قال: "حسبت هذه الآيات قاصرة على الكيل والميزان فقط"، قلت له: "وهل من كيل أو ميزان لأعظم من المعاملات بجميع صورها، والعلاقات بكل أنواعها؟ إنها أهم من شيء تشتريه فيُكال لك أو يُوزن وتمضي في حال سبيلك. واهتمام المولى عز وجل بالوزن والميزان يؤكد هذا المعنى: ﴿وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ﴾، ﴿اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ﴾، ﴿أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ﴾، ﴿وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَان﴾، ﴿وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ﴾، ﴿فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ﴾، ﴿وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ﴾. إنه اهتمام خاص بالوزن والكيل بمعناه الحرفي المعروف، كما أنه اهتمام بالمعنى الأوسع والأشمل لضمان (التوازن) فيما هو لنا وما هو علينا، بين ما هو حق وما هو واجب، بين ما نرضاه لأنفسنا وما نطلبه من غيرنا". رد علي زميلنا وكأنه يستمع إلى هذا المعنى لأول مرة: "إذن إما أن أخفف الأعباء عن خادمي أو أساعده في أدائها"، وأضاف: "وعلينا أن (نوازن) بين حقوقنا وواجباتنا في علاقاتنا الخاصة مع زوجاتنا وأبنائنا وإخواننا، وفي علاقاتنا العامة ومعاملاتنا مع جيراننا وزملائنا في العمل ومرؤوسينا وخدمنا، أليس كذلك؟"، قلت: "بلى، هذا بالضبط ما أردت قوله: (أن تأخذ من غيرك أكثر من حقك فأنت مطفف، وإذا أعطيت غيرك أقل من حقه فأنت مطفف)، اللهم لا تجعلنا من المطففين. جزاك الله خيراً".
أحبتي في الله .. أدعو لنفسي ولكم بأن يباعد بيننا وبين أن نكون من المطففين .. اللهم ألهمنا الصواب ليكون ميزاننا في كل شيء ميزان عدل، بلا زيادة ولا نقصان، فالقاعدة العامة [حِبْ لِأَخِيكَ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ] إلا أن نزيد في العطاء للآخرين أو نتنازل عن شيء من حقوقنا بطيب خاطر منا تصديقاً لقوله تعالى: ﴿وَلَا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ﴾.
اللهم اجعلنا من أصحاب الفضل بكرمك يا أكرم الأكرمين.
نلتقي على خيرٍ الجمعة القادمة في خاطرة جديدة إن أذن الله وأمد في أعمارنا.
تقبل الله مني ومنكم صالح الأعمال.